قصة

نزار ب. الزين*

  حسام بك في آخر السبعينيات من عمره ..

أعلن الحرب على الزواج منذ وقت مبكر ، يدعي أن فشل زواج شقيقه و بعض أقاربه جعله يتعظ و يفهم الدرس جيدا .

و مع  ذلك  فله عدة  مغامرات  تافهة – أيام  شبابه – كادت  واحدة  منها  تكلفه حياته .

و مع ذلك فإن مكتبته المليئة بالكتب التاريخية الصفراء مليئة أيضا بكتب تعج بقصص الجنس المثيرة ، بدءاً من ألف ليلة و ليلة بأجزائها  الأصلية الأربعة ( قبل التنقيح )  و ورقها الأصفر ، و انتهاء بسلسلة كتب البدائع الجنسية قبل أن تحظر الدولة  تداولها . و نظراً لغلاء أجهزة الفيديو و توابعها  فقد أحجم  عن شرائها و اكتفى باجترار كتبه الصفراء  كلما شعر بالفراغ و ما أكثر ساعات فراغه..

و حسام بك يعتبر من الأغنياء إلا أن بدلته الزرقاء لم يغيرها منذ نيف و عشرين سنة و قميصيه اللذين يتبادل ارتداءهما لا يدخلان إلى  ( طشت الغسيل ) إلا كل عدة أشهر .

و رغم تطور أساليب الطهو كفرن الغز أو فرن الموجات متناهية الصغر ، فهو لا زال يستخدم (ببور الكاز) عندما يطهو (مفركة) البطاطا ، أو عندما يقلي الباذنجان بزيت يستخدمه عدة مرات ، هما الأكلتان الوحيدتان اللتان يتناوب طهوهما فلا تدخل معدته غيرهما  ؛ إلا عند أولاد أو بنات شقيقه حين زيارتهم .

أما أفضل جولة  لديه و يعتبرها نزهة ترفيهية ، فهي نزهة آخر الشهر ، حيث يتأنق و على غير عادة يزين صدره بربطة عنق أكل الدهر عليها و شرب ، و يحلق ذقنه و ينعمها جيداً بشفرة استعملها قبل الآن عشر مرات على الأقل ، و لا ينسى تنظيف حذائه بالماء و الصابون ، ذاك الذي دخل قدميه أول مرة منذ عشرين سنة أو نيف ؛ ذلك اليوم هو يوم جمع إيجار بيوته و دكاكينه  المتعددة .

*****

المشهد الأول:

يقرع باب سوسن –و هي مستأجرة لأحد بيوته – و تعمل كممثلة في الأدوار الثانوية  في تلفزة  الدولة .

 تستقبله بحرارة ..

تدعوه للدخول بإلحاح ..

يخجل ..

يغض الطرف …

لا زالت مرتدية مباذلها

– ” أتستحي مني يا حسام بك ؟

أنت كوالدي يا حسام بك !

سأسقيك من يدي كوب ( ليمونادة ) بماء الزهر ، لم تذق مثله بحياتك ..”

تجحظ  عيناه …يفغر فاه … يسيل لعابه .يشتعل وجهه إحمرارا ، تستيقظ جميع أحاسيسه و رغباته  دفعة واحدة ، بينما سوسن في حركتها المغناج جيئة و ذهابا ، و قد شف قميص نومها عن أكثر مفاتنها ..

يعود إلى داره ….

يتجه مباشرة إلى سريره ، و قد شطح خياله  بعيدا ، ثم أحلامه أبعد و أبعد ؛

يستمر منعزلا في فراشه يوما آخراً …

ثم يوما آخراً …

ثم يخرج مضطرا لشراء كيلا أو كيلين من الباذنجان أو البطاطا .

ثم يعِدُّ الأيام مستعجلا نهاية الشهر …

في انتظار كوب( ليمونادة ) جديد

*****

المشهد الثاني :

تتكرر الزيارة ..

لم تعد زيارتها مقتصرة على نهايات الأشهر ،

تشكو له ذات يوم ، قلة الأدوار ، و قلة ذات اليد ؛

يؤكد لها أنه لن يتناول منها أي أجر إلى أن تنفرج الأمور !

تعانقه شاكرة ..

فيذوب رغبة ..

و لكنه في آخر السبعينيات !!

يخشى أن تكتشف ضعفه  …

 فيكتفي من طبق الحلوى بالشم !

*****

المشهد الثالث :

يقرع بابها متلهفا ،

لا يجيبه أحد ..

” لعلها في ( الأستوديو ) تمثل ؟ ” همس لنفسه ،

قرع في المساء ؛ لم يجبه أحد

قرع في اليوم الثاني ؛ لات من مجيب ..

توجه إلى مبنى التلفزة ..

سأل عنها..

تغامزوا ..

همست إحداهن :

” هذا هو العجوز المتصابي !!!”

قالت أخرى :

” هذا هو القس الذي عشق سلامة “

قالت ثالثة :

” بل إنه مجنون ليلى !!!”

قالوا له :

 ” هي في المشفى ، أجريت لها جراحة إستئصال الزائدة ..”

صُعق !!

تضاحكوا و هم يرون مدى صدمته ..

هُرع إلى المستشفى ..

عندما شاهد ركن الزهور ، تذكر أن عليه حمل بعض الزهور ..

إشترى الباقة دون أن يفكر – لأول مرة في حياته – بثمنها !

” سلامتك ” قال لها ، بينما انبثقت من عينيه دمعتان حارتان !

*****

المشهد الرابع :

تشكو له أنها وحيدة …

لا تعرف أحدا يساعدها بعد خروجها من المشفى ..

يقسم عليها أغلظ الأيمان أن تكون ضيفته طيلة فترة نقاهتها ..

ترضى بعد تمنع !!

يعود إلى بيته ،

ينهمك بتنظيفه ،

يغسل الأغطية للمرة الأولى منذ عدة سنوات ؛

يُملئ الثلاجة بالفواكه و الخضار و كذلك باللحم ( ! ) – يفعل ذلك  للمرة الأولى في حياته – و للمرة الأولى دون أن يفكر بالثمن!! ..

يشتري وسائد جديدة ..

و شراشف جديدة ..

و مناشف جديدة..؛

و إذ حانت لحظة تسريحها من المشفى ، حملها – فرحا مبتهجا – بسيارة اجرة  ، مباشرة  إلى بيته !…

للمرة الأولى  في حياته يطلب سيارة أجرة و يدفع للسائق  إكرامية سخية  !

ثم يستقبلها أحر استقبال !!

” البيت بيتك ، يا سوسن خانم “

 قالها لها من صميم الفؤاد !

*****

المشهد الأخير :

يُقرع الباب بقوة و إلحاح ..

يفتحه ،

– ” من حضرتكم و ماذا تريدون ؟ ” يسألهم …

يدفعونه بعيدا ..

يقتحمون المنزل …….

– ” أين هي يا كلب ؟ “

يقتحمون غرفة النوم …

 يجدونها !

– ” ماذا تفعلين هنا يا كلبة “

تصرخ

تتصنع الرعب الشديد ..

” تعرفينهم ؟ “

يسألها حسام بك متلجلجاً ، و قد عقدت لسانه الدهشة ..

” إنه زوجي السابق ، حلف عليَّ الطلاق ثلاثا و لم أره منذئذ ! و بيننا قضية  في المحكمة الشرعية “

 تجيبه متظاهرة بالخوف ! فيتصدى لها  زوجها المزعوم فيجيبها و هو في أقصى حالات الإنفعال :

” و لكنك لا  زلت على  ذمتي   يا  خائنة … سأجهز عليكما  و أشرب  من  دمائكما “

ثم يلتفت نحو حسام بك  فيصفعه بكل قوته فيلقيه أرضا ..

يصرخ هذا محتجا و مقسما أغلظ الأيمان أنه لا يعرف إطلاقا أن لها زوجا ، و أنها لم تخبره بذلك يوما ، و أنه دعاها إلى بيته إشفاقا عليها  لأنها ( مقطوعة من شجرة ) كما قالت ، و ليس لها أحد يخدمها في فترة نقاهتها !..

” كاذب ، يا لص الزوجات ” قال له ذلك  بشفة مرتعشة ، ثم ثنّى بصفعة ثانية أدمت شفتيه ..

تقدم منه  أحد مرافقَيه قائلا :

” إنه عجوز مسن ، لن يتحمل المزيد ،لا أريدك أن توسخ يديك بدمه ، دعه لي يا  أبو ضرغام ، أنا سأتفاهم معه “

ترفع سوسن رأسها متصنعة الضعف الشديد و الرعب الشديد و الهلع الشديد .

تخاطب حسام بك باكية :

” نفذ له طلباته يا حسام بك ، افتدِني و افتدِ نفسك يا حسام بك “

—————————–

*نزار بهاء الدين الزين

   سوري مغترب