أقصوصة

نزار ب الزين*

       اسمها أم مرعي و لا أحد يعرفها بغير هذا الإسم ، و هي في أواخر الأربعينيات من عمرها  ، تعمل خادمة غير مقيمة ، يطلقون عليها في بلاد الشام ( لفاية )  ، تحضر إلى المنزل مرة واحدة كل أسبوع  ، فعندما تأتي تكون في أوج نشاطها و لكن عندما تنصرف تكون منهكة و هذا أمر طبيعي ، و لكن غير الطبيعي حدث مؤخرا ، فقد بدأت أم مرعي تقوم بأعمالها المطلوبة بايقاع أبطأ ، و أصبحت تتصرف بشيء من العصبية و لا تتقبل أي توجيه في عملها ، كثيرة التذمر و الشكوى و التأوه ، مما لفت أنظار سيدة الدار ، فسألتها ذات يوم : ” لقد تغيرت يا أم مرعي ، و كأني بك تأتين لخدمتي مرغمة ، ما الحكاية يا أم مرعي ؟ “

توقفت عن إتمام ما بيدها ، سرحت بعيدا بعيدا ، زفرت زفرة طويلة طويلة ، ثم أجابتها و الدمع يترقرق في عينيها : ” خليها على ربك يا ست أم أنور ، آلام في خاصرتي لا يقوى على احتمالها جمل ، قال لي الطبيب أن كليتي اليمنى مليئة بحصوات مسننة و أنها أيضا ملتهبة و يجب استئصالها ” فأجابتها السيدة : ” يعني أنتِ  مريضة و بحاجة  إلى جراحة ، يعني أنك لا تعانين من وعكة عابرة  أو عارض بسيط ، فما يجبرك على العمل و أنت  في هذه الحالة ؟ ” حدجتها أم مرعي بنظرة تحمل ألف معنى  ، ثم استأنفت عملها ……

في الأسبوع التالي ، حضرت أم مرعي برفقة ابنتها آمنة

” ستعاونني ، و تتعرف على زبائني ، و عندما أدخل المستشفى ستحل محلي ” قالت أم مرعي ، فأجابتها السيدة أم أنور : ” و لكنني لن أدفع إلا أجرة واحدة ، ما أوله شرط آخره سلامة يا أم مرعي !”

لفت انتباه أبو أنور أن الفتاة ما أن تنجز ما تطلبه منها أمها ، حتى تهرع إلى حقيبتها فتخرج منها كتابا ، و تبدأ بالتهامه ..

– رواية ؟

= بل كتاب في فيزياء المادة !

– تذاكرين ؟

= نعم فأنا أحضِّر لامتحانات الثانوية العامة فرع العلوم .

– ماشاء الله !

كبرت الفتاة بنظر أبو انور ، و منذ تلك اللحظة بدأ يعاملها باحترام و يدعمها بعبارات التشجيع ، و أبدى استعداده لمساعدتها في مذاكراتها ، فهو مدرس رياضيات ، و حذت سيدة الدار حذوه فكانت تلاطفها  و تمنحها أوقاتا أكثر للإستراحة و المذاكرة .

و عندما أخبرتهما أنها اجتازت إمتحان الثانوية العامة بنجاح و مجموع ممتاز يؤهلها لدخول الجامعة ، هنآها و منحاها مبلغا من المال كهدية تكريم .

ثم انقطعت أخبارها و والدتها .

بعد عدة سنوات ، ذهب ابو  أنور إلى البنك العقاري  طلبا لقرض لصالح  أحد أحفاده ، و بينما هو منهمك في إتمام المعاملة ، إذا به يفاجأ بآمنة  تتصدر  مكتب  أحد الأقسام  .

 رحبت به أجمل ترحيب …

 ثم

أمرت له بفنجان قهوة …

ثم

أمرت أحد موظفيها بإنجاز ما يمكن إنجازة في قسمها …

و أثناء ارتشاف القهوة سألها عن والدتها ، فأجابته أنها ارتحلت إلى باريها بعد وفاة والدها بأقل من شهر ، و اضافت أنها مخطوبة لأحد زملائها في البنك ، و سيتم الزفاف في الشهر القادم ، و حملته دعوة له و لزوجته لحضور الحفل .

ثم

ذيلت المعاملة بتوقيعها …

ثم

رافقته بنفسها إلى كل الأقسام ؛ و خلال زمن قياسي يتمناه وزير ، أنجزت له كل المعاملة  .

ثم

خرج من البنك و بيده مبلغ القرض المطلوب….

مشيعا بعبارات السلامة .

———————————–
*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب