في  مقهى  اعتاد على  ارتياده  الزميلان  الأستاذ  علي – و هو  مدرس  في  “ثانوية  سعد” –  و الأستاذ  محمود ، المشرف  الاجتماعي  في  نفس  المدرسة ، و في  حديث  دار  بينهما  حول  المثل  المعروف : “أنصر  أخاك  ظالما  أو  مظلوما ” قال  الأستاذ  محمود  لزميله  :  << ليس  المقصود  بكلمة  “أخاك”  في  المثل  معناها  الحرفي ، بل  وسَّعها  بنو  يعرب  ليشمل  أبناء  القبيلة  الواحدة  في  البادية ،  أو  العائلة   الواحدة  في  المجتمعات  الزراعية  فيما  بعد ؛  و عندما  انتقلوا  من  حياة  البداوة  أو  الفلاحة  إلى  الحياة  المدنية ، زادوا  في  توسيعها  لتشمل  أبناء  المدينة  الواحدة ، أو  الوطن  الواحد ، مقابل  الغرباء  عن  أي  منهما ، فتطور المثل  إلى : << أنا  و أخي  على  ابن  عمي  و أنا  و ابن  عمي  على  الغريب >> .

   ابتسم  الأستاذ  علي  قبل  أن يرد  على  صاحبه  قائلا : << تحليلك  منطقي  يا  أخي ، و كعادتك  تفلسف  الأمور ؛ و لكن لماذا لا  نقول : <<  أن  المثل  يعني  باختصار  التعصب الأعمى  أو  إن  شئت   العنصرية  بأبشع  صورها ؟! >> .

أجابه الأستاذ محمود قائلا : << لن نختلف في هذا ، فلنقل  أنها  العنصرية  ! >> .

بعد  فترة  صمت  ارتشف  خلالها  الأستاذ  علي  نفسا  عميقا  من  نرجيلته ،  تسببت  بسعاله  لبعض  الوقت  ،  تنحنح  ثم  قال :

– إليك   قصة  كنت  أحد   شهودها   حول   ذلك  ؛  فبينما   كنت  جالسا – ذات  يوم –  على  شرفة   منزلي   المطلة  على  أحد   أسواق   المدينة ، لفت   سمعي   صخب   قريب   فاستبد  بي  الفضول .  وقفت  مستندا  على  حاجز  الشرفة  لأرى  شجارا  محتدما  بين  جاري  الخباز  المعروف  ب “أبو  العز” و هو  مقيم  “أي  لا  يحمل  جنسية  هذا  البلد”  و بين  أحد  الزبائن  من  المواطنين ، ما  لبث  أن  تطور  إلى  تماسك  بالأيدي ، و بلمح  البصر  تقدم  مواطن  آخر  ليدعم  مواطنه  دون  أن  يعرف  سبب  الشجار ،  و هذا  ما  فعله  آخرون  فيما  بعد !!!

كان  أبو  العز  طويلا  عريض  المنكبين  مفتول  العضلات  كأنه  مصارع  من  الوزن  الثقيل ، تمكن  بيسر  من  إلقاء  أحدهما  أرضا  بينما  كاد  يلقي  بالآخر ؛ و لذهولي  الشديد  أوقف  مواطن  ثالث  سيارته  بعيدا  عن  الرصيف  و هبط  منها  مسرعا  باتجاه  المتشاجرين  و ابتدأ  يشد  أزر  مواطنَيه ؛

ثم … أخذ  المارة  من  المواطنين  يوقفون  سياراتهم  كيفما  اتفق ،

ثم … يغادرونها  مسرعين  ليساهموا  بمهاجمة  “أبو  العز”  بما  طالت  أيديهم … هذا  بحذائه ، و ذاك  بعقاله ، و غيرهما  بقدمه  أو  بلكمة  من  قبضته ؛ و ظل  أبو  العز  – رغم  هذه  الهجمات  المتفاقمة  الشرسة –  يدافع  عن  نفسه  ببسالة ، و قد  تمزقت  ثيابه  و سالت  الدماء  من  وجهه  و يديه ؛ و عندما  حاول  بعض عمال  المخبز  بمؤازرة   آخرين  من  أصحاب  الدكاكين  المجاورة  فصل  المهاجمين  عن  أبي  العز ،  تعرضوا  للضرب  بدورهم ،  فانسحبوا  بعيدا  و اكتفوا  بالفرجمة   متألمين  ،   فكلهم   مغتربون  و كلهم  يخشون  على  أسباب  رزقهم  و معاش  أسرهم !!!.

و بعد  أن … كاد  جمع  المواطنين  يقضون  على  أبي  العز  و يسلبونه  حياته ،

و بعد  أن … عمت  الفوضى  في  السوق  كله ،

و بعد  أن …  تعطل  السير  و علا  عويل  أبواق  السيارات  من  كل  صوب ؛

قدمت  سيارات   الشرطة ،

ثم … أخذ  الشرطيون  يفرقون  الجمع  ؛

ثم … قيدوا  ابا  العز – وحده –  و ساقوه  مكبلا  إلى  إحدى  عرباتهم  !!!!

*****

علق  الأستاذ  محمود  قائلا :

 – إنها  القبلية  الجاهلية  يا  صاحبي ،  لا  زالت  معششة  في  أدمغة  الكثيرين  من  بني  يعرب !!.

و ما  حدث  معي  يضرب  مثلا  أفظعا ،  فاصغ  إليَّ   يا  أخي  :

– قبل  أن  أنتقل  إلى  ثانوية  “سعد ”  كنت  أعمل  بمدرسة  بلدة  “أم  النخيل”  الابتدائية ، و بحكم  وظيفتي  كمشرف  إجتماعي  ، حولت  التلميذ  “عبد الله”  إلى  معهد  الإحتياجات  الخاصة ، بعد  أن  أثبتت  إختبارات  الذكاء  عدم  قدرته  على  مواصلة  الدراسة  في  المدرسة  الابتدائية  العادية  ،  ثم  تبين  لي  أن  التلميذ  المذكور  شقيق  أمين  مخزن  المدرسة  و هو  مواطن  و من  سكان  “أم  النخيل”  ،  الذي  أبدى  استياءه  و اعتراضه  الشديد  على  هذا  القرار ؛ رغم  محاولتي   إقناعه  بأن  انتقال  “عبد  الله”  إلى  ذلك  المعهد   كان  لصالحه  ،  و لكنه  لم  يقتنع  ، و أجرى  من  ثم  اتصالات  برفقة  وفد  من  وجهاء  البلدة  مع   مسؤولي  وزارة   التربية  لايقاف  القرار  و لكن  دون  جدوى !!!

ثم  أضاف  الأستاذ  محمود  قائلا :

– و منذئذ  ناصبني  أمين  المخزن  العداء  و امتنع  عن  تحيتي  أو  محادثتي و قد  سلك  السلوك  ذاته  حراس  المدرسة  الثلاثة  و هم  أيضا  مواطنون  و من  سكان  البلدة ، و لكن  الأسوأ  حدث   فيما   بعد …

ذهبت  إلى  مستوصف  القرية  بعد  عدة  أسابيع  لعلة  طارئة  ألمت  بي ، ففحصني  طبيب  المستوصف  مشكورا  و أعطاني  وصفة  الدواء  اللازم – و هذا  من  حقي  كموظف  في  الدولة –  و بينما   كنت  أهم  بتقديم  الوصفة  إلى  الصيدلاني  ،  انقض  عليَّ  أمين  المستوصف   انقضاض   صقر  على   حجل ،  صائحا  في  وجهي  : << لا  يحق  لك  العلاج  في  هذا  المستوصف ! >> ثم  امتدت  يده   يريد  سحب  وصفة  الدواء  مني  ،  فقاومته  و  أنا  أقول  له  مشمئزا : << الوصفة  أصبحت  ملكي !  يحق  لك  أن  تمنعني  عن  حصولي  على  الدواء  و لكن  لا  يحق  لك  انتزاع  الوصفة  مني !>>  ثم  مضيت ، و لكن ما  أن  ولجت  إلى  سيارتي  ، حتى  لمحت  عددا  من  المواطنين  ربما  كانوا  من  مراجعي  المستوصف  المرضى  أو  موظفيه ، يحاولون  اللحاق  بي ، بل  بدؤوا  بإلقاء  الحجارة  باتجاهي ،  فحركت  سيارتي  خلفا ،  و هم   يتابعونني ،  حتى  بلغت  باب  المدرسة ، فكفوا ….

و لكن  في  اليوم  التالي ،  استُدعيت  إلى  مخفر  “أبو  النخيل”  ،  فأرسل  معي  مدير  المدرسة – بعد  أن  أخبرته  بقصتي  –  وكيله  ؛  و كانت  التهمة  أنني  هاجمت  أمين  المستوصف  و هو  على  رأس  عمله ، و أنني  رميت  عقاله  أرضا  ،  و هذه  إهانة  في  عرف  البلد  لا  تغتفر ،  و أنه  مضطر  لتوقيفي (!!!) ،  فاقترح  الأستاذ  الوكيل – بعد  نقاش  طويل –  أن  أقدم   اعتذاري  لأمين  المستوصف ،  فوافق  الملازم  رئيس  المخفر  على  ذلك ،  شريطة  أن  يتنازل  أمين  المستوصف  عن  شكواه  بعد  الإعتذار !…

و كان  الإعتذار  على  شكل  وفد  ترأسه  وكيل  المدرسة  بمصاحبتي  مع  عدد  من  الزملاء  المعلمين ،  في  زيارة  إلى  مضافة  أمين  المستوصف  ،  الذي تصدر المضافة و على  يمينه  أمين  مخزن المدرسة  ،  و قد  شعرت  خلال  الزيارة  بمهانة  لا  زالت  تحز  بنفسي   حتى  اليوم ….

و تجنبا  لهذا  الجو  العدائي ، طلبت  نقلي  من  المدرسة .

كانت  الساعة  قد  شارفت  على  العاشرة  ليلا  عندما  قرر  الزميلان  مغادرة  المقهى ،  و في  سريرتهما   تساؤلات   بلا   حدود .

 *نزار  بهاء  الدين  الزين

   سوري  مغترب