قصة واقعية
نزار ب. الزين*
أخيرا بلغت حضنك الدافئ يا أمي ، بعد مغامرة طولها عشرون يوما بلياليها ، أتدرين يا أمي منذ أن ابتعدت عني ، لم تمضِ ليلة واحدة دون أن أحلم بك حلمان ، حلم اليقظة و حلم المنام ..
كنت أقضي الساعات و أنا أخترع و أخطط و أبتكر ..وسائلا للوصول إليك …
اخترعت مصعدا يصلني بالقمر لو كنتِ فوقه ، و ابتكرت غواصة تقلني إليك لو كنت تقطنين أعماق البحار ، و خططت لتسخير النسور لتحملني إليك حتى لو كنتِ في مشارق الأرض أو مغاربها…
فكرت كثيرا ..حلمت كثيرا .. اخترعت و ابتكرت و خططت… قاسيت و كابدت ….بكيت و تألمت …..
قاسيت من ظلم أبي ، و كابدت من من حقد زوجته ، و التي ناصبتني العداء منذ اليوم الأول لدخولها منزلنا ..
و باقتراح منها، أرسلني صبيا عند ميكانيكي : ” تعلم صنعة تفيدك ، أفضل لك من المدارس .. ” قالها و قد تجمدت عواطفه !
و أنا منبطح تحت السيارات ، كنت أفكر بك ،
و أنا أحمل صناديق العدة الثقيلة ، كنت أتخيل لقائي بك ،
و أنا أتعرض للصفع و الركل و أقذع الشتائم ، كنت في سري أستنجد بك ….
بكيت كثيرا يا أمي … تألمت كثيرا يا أمي ، و إذ وجدت في أعماق خزانتي ما ظننت أنه يكفيني من نقود ، كنت أخفيتها عن زوجة أبي ، قررت الرحيل إليك ، معتمدا على المعلومات القليلة التي حصلت عليها من رسالتك الوحيدة التي استلمتها منك ..
كنت قد بلغت السادسة عشر ، فتمكنت من استخراج جواز سفر ، و تمكنت من الحصول على تأشيرة دخول من قنصليتين عربيتين ، و لكن قنصلية الدولة حيث تعيشين – و هي عربية أيضا ( ! ) – رفضت منحي التاشيرة .
و مع ذلك بدأتُ المغامرة ، مغامرة طولها عشرون يوما من الشقاء ، تنقلت فيها من بلد إلى بلد ، قطعت فيها مئات الأميال ، أغلبها في صحراء قفراء …
ركبت مع سائقين طيبين ، و ركبت مع حثالة راودني أحدهم على نفسي ، ثم رماني في قلب الصحراء لأنني لم أساير رغباته الشاذة ..
و اعتقلتني شرطة دولة مجاورة ثلاثة أيام ، عندما وجدوني نائما في مرحاض إحدى محطات الوقود ..
و أخيرا ، اجتزت الحدود مع متخصص في تهريب الأشخاص ، بعد أن انتزع مني كل ما بقي لدي من نقود ..
عشرون يوما يا أمي من المعاناة ، نسيتها لحظة رؤيتتك …
*****
آه يا ولدي المسكين ، أواه يا محمود يا ابني الحبيب ، لكم تألمت ، و لكم عانيت عندما اضطرني ظلم والدك إلى هجرك مرغمة ، اعتبرتني المحكمة ناشزا و جردتني من كل حقوقي بما فيها حضانتك ، قال لي أهلي أنك ذكر و أنك ستتمكن من تجاوز المحنة ، رطبوا ناري المشتعلة بكلمات جوفاء عجفاء ، و لكن هيهات أن تُطفئ ناري .
قاومت زواجي الثاني ، رفضت الفكرة من أساسها ، فقد كانت تجربتي الفاشلة المؤلمة كافية لأن تصدني عن كل الرجال ، و لكنهم تمكنوا من غسل دماغي ، قالوا لي : ” سوف تبتعدين بهذا الزواج عن جو المأساة .. سوف تنجبين الأطفال ..سوف تنخرطين في حياة جديدة … و لسوف تسلين فراق فلذة كبدك محمود ” ؛ و لكن هيهات يا ولدي ، فطوال السنوات العشر ، لم تمضِ فيها ساعة دون أن أتمثلك في وجهي .
فكرت كثيرا ..حلمت كثيرا… قاسيت و كابدت ….بكيت و تألمت …..أرسلت لك الرسالة تلو الرسالة ، و لخيبة أملي لم أتلق إجابة واحدة منك ..ترى هل منعوا رسائلي عنك ؟ ترى هل غيَّر أبوك عنوانه إمعانا بقهري ؟
نعم ، لقد اندمجت بحياتي الجديدة ، أنجبت أخويك ، غرقت في تنشئتهما حتى أذني ، و لكنني ظللت دائما و أبدا أتمثلك في وجهي ، أتمثل الطفل الرقيق ، الطفل الذي تشبث بأثوابي ، صارخا ، باكيا ، رافضا الذهاب مع الشرطي الذي صحب والدك لتنفيذ حكم قاضٍ أظلم من أبيك …. كيف أنسى وحوش الغاب و هم ينتزعونك من حضني ؟؟….
فكرت كثيرا ..حلمت كثيرا… قاسيت و كابدت ….بكيت … بكيت .. بكيت … و بكيت !
و إذ شاهدتك ..بعد كل هذه السنين ، شعرت أن روحي رُدت إليّ .
*****
ما الذي تقوله يا أبا فهد – هداك الله – أتتهمني بمعاشرة ولدي ؟؟
أستغفر ربك تب إليه من إفكك ..
حرام و الله أن تجول بفكرك مثل هذه الترهات ..
إنه ولدي ..و لدي …ولدي….
إنه ولدي و أنا أمه ، إنه مثل فهد.. و مثل عبد الله ..هل تتهمني بمعاشرة فهد إذا ما استلقى إلى جواري يا رجل .. يا مؤمن .. يامن لا تترك فرضا أو سنة تفوتك ؟
إنه و لدي يا ابا فهد .. إنه قطعة من فؤادي و كبدي ..عشر سنوات مضت كأنها دهر ، عشر سنوات من الحرمان ، حُرمت من لقائه و حُرم من حناني ، عشر سنوات يا أبا فهد ، جعلته كالعطشان في صحراء ليس فيها غير السراب ، ثم تلومه إذا وجد الماء الذي يرويه ، أتلومه إذا استلقى إلى جواري ؟ و حضن يدي ، و أخذ يقبلها بشغف ؟
أنا لا أعرف فيك إلا ابا عطوفا و زوجا كريما و إنسانا يخشى ربه .. كيف تتطرق إلى ذهنك مثل هذه الأفكار يا ابا فهد ؟؟
أتقول أنه غريب بالنسبة إليك ؟ أتقول أنك لم تستطع هضم وجوده في دارك ؟ أتعتبره إنسانا متطفلا على حياتك ؟ أنت الذي أنعم الله عليك بكل هذا المال ، تشكو من وجوده ؟ و أنا التي كنت آمل الكثير أن تفعله من أجله .. أن تعامله كإبن لك ..
إذا كنت متضايقا منه إلى هذه الدرجة ، تدبر له إقامة مشروعة تمكنه من البحث عن عمل يعتمد فيه على نفسه ، إنه ميكانيكي ماهر ، دفعه أبوه الظالم إلى العمل مذ كان في التاسعة من عمره ، بوسعك و أنت سكرتير الشيخ ، أن تدبر له إقامة مشروعة ، و أن تسعى له بعمل مناسب ، بل و بوسعك أن تنشئ له عملا مستقلا يديره .. هذا ما كنت و لا زلت أرجوه منك ، يا ابا فهد …
*****
يتشبث عبد الله بثوب أمه ، صارخا ، باكيا ، رافضا أوامر أبيه أن يبتعد عنها…
يقف فهد بعيدا و قد غسلت دموعه الصامتة وجهه ..
يحمل محمود بيسراه حقيبة ثياب والدته ، و يسند بيمناه جسد والدته المتهالك ..
يغلق أبو فهد باب دارته خلفهما بشراسة ، فيخرج صوته قنبلة مدوية فجرت كل القِيَم و المُثُل و المبادئ الإنسانية .
و تبدأ – من ثم – رحلة عذاب جديدة لمحمود و أمه …..
————————
سوري مغترب