رواية قصيرة

نزار ب. الزين

الغدير هو اسم القرية في أقصى الجنوب الغربي من سورية يقطنها فرع من عشيرة الصوان منحت لهم أرضها من قبل حكومة الانتداب الفرنسي ضمن برنامج لتوطين البدو الرحل ، و بنيت بيوتها فوق خرائب بلدة رومانية أو بيزنطية أصابها زلزال فدمرها و هجّر من بقي حيا من سكانها ان بقي أحياء ! فبيوت البلدة بجدرانها وأسقفها و أبوابها و نوافذها قدت كلها من الحجر الأسود ، فالكارثة على ما يبدو كانت مأسوية.  المحظوظ من المستوطنين الجدد من كان نصيبه فيها غرفة أو اثنتين سليمتين  ، فانه سيرمم بقية المنزل ليعود كما تركه أصحابه ، أما الآخرون فقد استخدموا أحجار الخرائب لبناء بيوتهم كيفما اتفق .

و قد ملأت الأحجار المبعثرة من كل القياسات دروب القرية فجعلت من المستحيل أن تمر فوقها أية مركبة ، أما الدرب الوحيد الصالح فهو الذي يربط بين مخفر الدرك* و الطريق العام .

اسماعيل الطاهر  هو محامي قرية الغدير – كما يلقبونه –  ، أهلته لهذا اللقب شهادته الابتدائية  ، فهو الوحيد من جيله  في القرية كلها  الذي يحمل هذه الشهادة ؛ و جرت العادة – عندما تواجه القرية أية مشكلة – أن يجتمع وجهاؤها في دار المختار حمدان المعيوف ثم يكلفون اسماعيل الطاهر بالتوجه الى عاصمة القضاء أو عاصمة الدولة للعمل على حلها ، ثم يقوم المختار بفرض ( الفريعة ) أي توزيع التكاليف  المتوقعة على العائلات كل حسب مقدرتها ؛ و كانت آخر مشكلة هي تعليم أطفال القرية ، فقد تأخر المقاول عن اتمام بناء المدرسة و بالتالي فان وزارة المعارف لم ترسل معلما لتدريسهم . و نجح اسماعيل الطاهر باقناع مدير المعارف بارسال معلم  ، على  أن  يتدبر غرفة  فسيحة  تصلح  للتعليم  ريثما  يتم  انجاز  البناء .

و بعد أيام  قليلة  لفظت  ( البوسطة ) و هي الحافلة الوحيدة التي تربط الغدير بمركز القضاء من الغرب و (تل الهوى) من الشرق- لفظت مع الركاب شابا مدنيا ، لما يبلغ العشرين ، فهرع الجميع لمساعدته في حمل أغراضه و ساروا به الى منزل المختار ، فقد كان ذلك الشاب هو المعلم الجديد .

كان الأستاذ مروان شابا خجولا فلم ينبث ببنت شفة عندما أرسله المختار الى دكان ( أبو شاكر ) ليسكن في مستودع خلف دكانه ، و تحمل صخب فرسان الليل من الفئران و الجرذان و الصراصير و لكن عندما أمطرت فدلفت المياه الى المستودع من كل شق في السقف و الجدران شكا أمره لرئيس المخفر الذي استدعى المختار و زفه بسلسلة من النعوت لا تتناسب مع مقامه ؛ و كان أن تم اسكان الأستاذ في غرفة من منزل شقيقه شهاب المعيوف .

أول مشكلة تعليمية واجهته كانت تعدد مستويات التلاميذ فقسمهم الى عدة مجموعات ، فبينما يلهي البعض بواجب كتابي يقدم الى البعض الآخر درسا أو تدريبا جديدا . أما المشكلة الأخرى فكانت وجود نواقص أساسية كالسبورة و الطباشير و وسائل الايضاح، فكتب الى مديرية المعارف عن طريق المخفر فكان الرد :- (( عند انجاز البناء سيتم تزويد المدرسة بكل اللوازم )) .

و في المساء كان يجلس في مضافة شهاب المعيوف حيث يتسامر الرجال و النساء بدون أي تمييز ، و كثيرا ما كان يجد نفسه مع النساء فقط ، الا أنه لم يشعر أو لم يشعرنه بأي فارق ؛ و كانت من ثم الصدمة الأولى عندما وقف الشيخ عوض الصوان فوق سطح احدى الغرف ، فأخذ يكيل الشتائم للأستاذ مروان ، و الحكومة التي أرسلته : ” يبعثون لنا بالعجيان (أي  الصبيان ) لتعليم عيالنا ؟! عجيان لا يستحون من مجالسة نسائنا ، أين نخوتكم يا رجال الغدير ؟! ” .

زوجتا شهاب المعيوف ارتعشتا خوفا أو غضبا الا أن كبراهما ( بورا ) قالت للأستاذ:

–  لا تهتم لهذا الهرج الذي يثيره عجوز خرف

و لكن عندما تمادى هبت لاسكاته و طرده من سطوح منزلها ، فأخذ يلقي عليها الحجارة لاعنا أجداد أجدادها ؛ و في اليوم التالي قرر قائد المخفر أن يلقن الشيخ عوض الصوان درسا في الأخلاق على طريقته ، فهرع كبار القرية و في مقدمتهم المختار ، و من بينهم الأستاذ مروان صاحب الشكوى ، متوسلين أن يرحم شيخوخته ، فهو في النهاية عجوز خرف ؛ كان قد ألقي أرضا و ربطت ساقاه استعدادا ( للفلقة ) ،فاستجاب أبو عدنان رئيس المخفر للوساطة فأطلق سراحه بعد أن أنذره و بصّمه على تعهد مكتوب.

*****

رويدا رويدا توطدت علاقات الاستاذ مروان برئيس المخفر و عناصره الستة ، سأله ذات يوم الدركي مطانيس و هو دركي قديم على  وشك  التقاعد :

–  طالما أنت من عائلة معروفة و والدك تاجر مرموق فما الذي دفعك الى هنا بين البهائم و في أقاصي المعمورة  ؟

= أرادني والدي أن أكون تاجرا مثله و أنا لا أحب التجارة ؛ أجابه الأستاذ مروان ، فضحك الدركي مطانيس حتى آخر الشدقين ثم رد عليه و هو لا يزال يضحك :

– يعني هاوي فقر.

فعلق أبو فاروق و هو من احدى قرى الجركس المجاورة :

– نحن كتب علينا الشقاء لأننا من الأصل فقراء أما أنت فكتبته بيديك يا استاذ !

تردد قليلا قبل أن يجيبهما ثم خرجت الكلمات من فمه متقطعة حزينة:

= الواقع أن والدتي مصابة بمرض عضال أقعدها و أفقدها كل دور في البيت ، ووالدي غارق في أعماله التجارية حتى أعلى هامته و أنا أكبر اخوتي و لكن أيا منهم لم يتقبلني كنائب عن أمي أو أبي و تركوا  للأقارب فرصة التدخل في شؤوننا حتى أن بعضهم تمادى فاستبدوا بنا ، فباتت حياتنا لا تطاق ؛ كنت قد بلغت صف الشهادة الثانوية عندما علمت بمسابقة انتقاء معلمين فتقدمت اليها و نجحت ، و هكذا تخلصت من جو خانق لم تعد لدي طاقة على احتماله .

فصمت الدركيان ثم لم يعودا الى طرق الموضوع ثانية.

*****

كان استلام المدرسة الجديدة مهرجانا حقيقيا ، كانت مركز القضاء  في تلك الفترة قد تحول من قائمقامية الى محافظة و عين القائمقام ذاته محافظا ، فكان أول نشاط له في منصبه الجديد أن يأتي الى قرية الغدير ليفتتح مدرستها الجديدة ؛ كان قائد فصيل الدرك قد أخبر قائد المخفر ، بأن يستعدوا لهذا الحفل ؛ فانهمك الدركيون في تنظيف أسلحتهم و أحذيتهم و أحزمتهم و شاراتهم و أرقامهم ، ثم ساقهم القائد الى الساحة فنشّط خبراتهم بالنظام المنضم*  و التحية بالبنادق ، بينما عمل الأستاذ مروان على رفع العلم السوري فوق مبنى المدرسة ، التي نسي المقاول أو تناسى أن يصنع له سارية  .

وصل موكب المحافظ الى مخفر الغدير بداية يرافقه قائد فصيل الدرك و عدد من كبار موظفي المحافظة الجديدة ، فاستقبلهم الدركيون رسميا و المختار و سكان الغدير شعبيا بين أهازيج الشبان و زغاريد النساء ، و قام المحافظ بالقاء خطبة موجزة تضمنت عدة وعود من ضمنها ايصال الكهرباء الى القرية و تعبيد طرقها ، و أكد أن القرى الحدودية تنظر اليها الحكومة نظرة رعوية خاصة سوف يلمسون نتائجها قريبا ؛  ثم توجه الجميع

نحو مبنى المدرسة  التي تبعد عن القرية حوالي كيلومترين فقام المحافظ بتسليم مفاتيحها للأستاذ مروان .

و استمر المهرجان الى اليوم الثاني عندما قام التلاميذ بحمل مقاعدهم الدراسية فتوجهوا بها الى مبنى المدرسة و هم يهزجون : ” الجيش السوري غرّب و القايد حسني الزعيم ”  كان حسني الزعيم قد أعدم في العام الماضي و من أعدمه انقلبوا عليه بعد أشهر لتستمر بعدها سلسلة الإنقلابات العسكرية ؛ و مع ذلك ظل الهتاف كما كان .

ثم استؤنف المهرجان عندما عاد الأستاذ مروان من مركز المحافظة بعد أيام ، محملا بمقاعد دراسية و سبورات جديدة .

*****

بعد أقل من شهر زار المدرسة طبيب الصحة المدرسية الذي أجرى للطلاب كشفا طبيا سريعا استخلص منه أن %40 من الطلاب على الأقل مصابين (بالتراخوما) و أكد للأستاذ مروان أنه مرض قد يؤدي في النهاية الى فقدان البصر ، ثم سلمه زجاجة كبيرة تحوي دواء أزرق اللون مع قطارة واحدة:

“قطرة واحدة في كل عين مرتين يوميا يا استاذ للجميع بلا استثناء مصابين أو غير مصابين ” أمره الطبيب ، فسأله الأستاذ :

– و ماذا عن القمل الذي يسرح و يمرح على رؤوسهم و ثيابهم ؟

فأعطاه كمية من البودرة : ” عفر رؤوسهم مرة واحدة كل أسبوع ، و علمهم النظافة قبل القراءة و الكتابة و الحساب ، فالنظافة هي خط الدفاع الأول ضد القمل و الأمراض ” ؛ قال له ذلك ثم مضى.

*****

كان الأستاذ مروان قد لفت نظره عدم التزام التلاميذ بأدنى شروط النظافة فثيابهم المهلهلة دوما متسخة ، و على الرغم من أنه كان يوميا يفتش أيادهم و أظافرهم الا أنه  كان يشعر أن ذلك لم يكن كافيا ، فقرر اتخاذ عدة خطوات ضرورية بعد استشارة  رئيس المخفر و عبد العزيز الصوان – ابن ذلك العجوز الخرف – فعبد العزيز هذا ، أصبح من أعز أصدقائه  و أكثرهم قربا منه ؛ استشارهما فشجعاه .

كانت الخطوة الأولى فرض ملابس موحدة التي من شأنها تسهيل مراقبة نظافتها ، و كانت الخطوة الثانية العمل على تسوير نبع الماء المجاور للمدرسة و الذي اعتاد التلاميذ الشرب منه مباشرة و بمشاركة البهائم ، ثم كانت الخطوة الثالثة و هي مطالبة المحافظة ببناء مراحيض اضافية  و أما الخطوة الرابعة  فكانت تقديم طلب الى مديرية المعارف  لتعيين آذن ( عامل نظافة ) ، كما أوعز الى التلاميذ أن يبلغوا كل مصاب بالتراخوما من أهليهم أن يحضر بعد الدوام ليقطر له .

أثارت هذه القرارات ردود فعل مختلفة بين مؤيد و معارض و رافض ، و بقرار جريء أغلق المدرسة ، و أعلن أنه لن يفتحها ثانية الا بعد أن يستجيب الجميع لقرار الملابس الموحدة ؛ و خلال أقل من أسبوع كان تلاميذ الغدير يرفلون بالثياب الكاكية ، و لمفاجأته الشديدة ورده من المحافظة صندوقان كبيران يحويان أحذية جديدة من كل المقاسات هدية لتلاميذ الغدير، أحس الأستاذ مروان أنها نوع من التشجيع غير المباشر .

و انتقل من ثم الى بناء سور حول نبع الماء فاقتطع ساعة واحدة يوميا من حصص كل مجموعة على حدة ليسخر أفرادها بالعمل و لم يستثن كبارا أو صغارا ، كل حسب طاقته ، و لدهشته الشديدة وردته رسالة من الدركي مطانيس و الذي كان يعتبره الأستاذ مروان صديقا ، يقول فيها : ” لقد أهنتنا يا أستاذ فساويت بين  ولديّ و بين أبناء الرعاة و كلفتهم بنقل الحجارة بأيديهم الرقيقة ، فاذا لم توقف هذه المهزلة فسوف أمنعهما من الحضور الى المدرسة و أحملك مسؤولية ما يترتب على ذلك ”  فكتب الأستاذ  يجيبه : ” لقد أدهشتني تماما يا صديقي ، فهل ترضى أن يكون ثمت تمييز بين زملاء الصف الواحد ؟ و لمن أقود هذا العمل ؟ أليس لصالح  و لديك أسوة بصالح جميع  التلاميذ ؟ أعذرني يا أخ مطانيس فانني لن أتمكن من اعفاء ولديك من عمل جماعي لمصلحة جماعية  و ثق أن اعفاءهما سيثير ضغينة الآخرين عليهما . ” فكانت صدمة الأستاذ مروان الثانية امتناع الدركي مطانيس عن ارسال ولديه الى المدرسة .

*****

أخذت فتاة في السادسة عشر تتردد على المدرسة طلبا لقطرة الأستاذ – كما كانوا يسمونها – لفتت نظره بجمالها ، أشفق عليها بداية لاصابة عينيها اصابة شديدة ترغم عينيها على افراز الدموع بشكل شبه متواصل .

ما اسمك يا صبية ؟ سألها الأستاذ ، فاحمرت و ارتعشت و لم تتمكن من الاجابة التي تولتها عنها احدى مرافقاتها:

اسمها عذبة يا استاذ، و أكملت متضاحكة :

عذبة الاسماعيل الطاهر ابنة محامي الغدير يا استاذ ؛ ثم اقتربت من اذنه هامسة : ” انها تعشقك يا أستاذ ! ” ، قالت ذلك ثم ولت هاربة .

رحب الاستاذ بها  و قطر لها في عينيها الجميلتين ، ثم أخذت تتردد عليه بحجة أو بأخرى ، فتبادر للتطوع بتنظيف غرفته ، أو أدوات طعامه ، أو تحضر له أرغفة خبز الذرة ، و تتصرف و كأنها في بيتها ، فكان يفرح بقدومها و يسعد بصحبتها الى أن تمكن حبها من قلبه .

و في زيارة لمصالحة و وداع الدركي مطانيس الذي تقرر احالته على التقاعد ، و الذي يعد العدة لمغادرة الغدير؛ همس الأستاذ مروان بمشاعره لأبي عدنان قائد المخفر فأجابه هذا لائما :

– أنت بذلك تنكص الى البداوة !

= و لم لا يكون العكس ، فأرقى بها الى التمدن ؟

— لن يتقبلها المدنيون و لن يتقبلك البدو ، يا استاذ (( الذي لا ياخد من ملته يموت بعلته )) .

ثم همس بمشاعره لعبد العزيز العوض الصوان ، فشجعه و وعده بأن يفاتح اسماعيل الطاهر بالموضوع .

” و بم أجابك ؟ ” سأله في اليوم التالي ؛ أجابني : ” يصير خير ”

و لكن اسماعيل الطاهر و ابنه فيصل كانا يبيتان أمرا آخر ، فقد أحب فيصل فتاة من قرية( تل الهوى ) و وافق والدها  شريطة أن تكون ( زيجة مداكشة ) أي مبادلة يزوجه ابنته و يتزوج بالمقابل عذبة شقيقته . كانت تلك صدمة الأستاذ مروان الثالثة في قرية الغدير ؛ فبينما كان يهيء نفسه لخطبة عذبة ، اذا به يفاجأ بدعوته الى زفافها .

*****

كان فرحا مزدوجا فعريس عذبة صحب ابنته من ( تل الهوى ) ليزفها لفيصل الاسماعيل ، ثم يزف بدوره الى عذبة التي ستعود معه الى تل الهوى حيث ينتظرها فرح ثان . و أقيمت حلقات الدبكة و ترددت الأهازيج على ايقاع ( السحجة* )  .

رفض الأستاذ مروان حضور الزفاف و لكن جاسم الهوري الذي عينته مديرية المعارف سقاء للمدرسة استجابة الى طلبات الأستاذ  المتواصلة ، حكى له كيف حاولت عذبة الهروب من عريسها و كيف أعيدت مرغمة و قد نالت من الصفع و الركل ما كان يمكن أن يقعدها و كان أظلمهم معذبيها شقيقها فيصل .

عندما تحدث الاستاذ الى رئيس المخفر عن ( مقلب ) اسماعيل الطاهر ، ابتسم أبو عدنان ثم قال :

– عذبة أو غيرها من بنات الغدير ليست لك يا أستاذ ؛ البنت هنا و في كل حوران و الجولان ، تباع و تشترى كالسائمة ، و على خلاف الدنيا كلها فإن الأهل هنا يفرحون عندما ينجبون أنثى أكثر من فرحهم لدى انجاب ذكر .

” و ماسر ذلك ؟”  سأله الأستاذ متعجبا فأجابه أبو عدنان :

– مهر البنت هنا غالٍ بل غالٍ جدا و لهذا السبب ماطلك أبو فيصل .

“يعني بيعة شروة ! ” عقب الأستاذ مروان فأجابة أبو عدنان :

– نعم ، هي كذلك ، تجارة ؛ مهر الفتاة هنا (( أربعون راس و مية قرطاس و حبة على الراس )) هذا يعني أربعون رأسا من الماشية تذهب لوالدها ، و مائة ليرة سورية تذهب لجهازها و فوق ذلك كله قبلة استرضاء لولي أمرها … و لو مكثت في الوظيفة يا استاذ عشر سنين لما تجمع لديك ثمن عشرة رؤوس ؛ و لهذا السبب تجاهلك أبو فيصل ، فهو لا يملك هذا العدد من الماشية ليقدمه مهرا لعروس ابنه ، فبادل بها ابنته و قدمها لذلك الشايب .

” هذا منتهى الظلم و الغبن ” ، قالها الأستاذ بصوت حزين  ثم مضى الى صومعته .

تأثر الأستاذ جدا بما جرى و كان حزنه اشفاقا على تلك الضحية أكثر منه احساسا بحرمانه منها .

*****

يتكون بناء المدرسة من غرفتين واسعتين للتعليم و غرفة صغيرة بينهما للادارة حوَّلها الأستاذ لسكنه ، و كما فعل في السابق قسم التلاميذ الذين تكاثروا الآن بقدوم آخرين من القرى و التجمعات الرعوية المجاورة ، فوزعهم على الصفين مراعيا المستوى العمري .

ثم قسم كل صف الى مستويين ، كان يلقي الدرس في الصف الشرقي بينما يترك مراقبا في الصف الغربي يسميه التلاميذ ( العريف ) ثم يفعل العكس ليشغل هؤلاء بواجب دراسي فيعين لهم ( عريفا من المتميزين منهم ) ثم ليعود الى الصف الغربي و هكذا …. و ذات يوم اختار الطالب شحادة العريان و أسمر البشرة ، ليكون عريفا فهب التلميذ ابراهيم الشهاب المعيوف معترضا :

– نحن لا نقبل أن يكون ( عبدا ) عريفنا !

” عبد؟! ” تساءل الأستاذ مروان  ثم أردف غاضبا :

= ما هذا التخريف يا ابراهيم ؟ أول مرة أسمع أن لدينا سادة و عبيد في المدرسة ، اجلس يا ابراهيم و الا طردتك من الصف . فما كان من ابراهيم المعيوف الا أن غادر الصف ثم تبعه في الحال عدد من أقاربه . كانت تلك صدمته الرابعة في قرية الغدير.

*****

دُعي الأستاذ مروان لتناول العشاء في دار المختار و كان شهاب شقيقه موجودا و كذلك اسماعيل الطاهر و آخرين ، و ما ان انتهوا من تناول العشاء حتى ابتدره شهاب المعيوف معاتبا بخصوص أبنه ابراهيم. فأجابه بكل ما يملك من جدية و ايمان بما يقول : ” هذا العبد الذي يحتقره  ابنك  ، هو الأول في صفه و الأول في أخلاقه أيضا ، ثم من قال أن هناك اليوم عبيدا و أسيادا ؟ العبودية انتهت منذ زمن طويل يا اخوان  ، حتى ديننا السمح يمنع هذا ” ؛ ثم التفت نحو اسماعيل الطاهر مكملا حديثه: ” أنتم حتى تستعبدون نساءكم فتبيعوهن كالجواري ” ، فأجابه أبو فيصل غاضبا :

” أنت تتدخل بخصوصياتنا يا أستاذ ” ، و لكن الأستاذ أكمل غير مبال :

” أيام الجاهلية كانوا يئدون بناتهم و هن صغيرات و لكنكم تقتلوهن و هن في ريعان الصبا ” ، فاستشاط أبو فيصل غضبا و انسحب من المجلس بدون  أن  يحيي  أحدا ؛ و  هنا  تدخل  إمام  الجامع  قائلا  بثقة عالية  : ” الإسلام  لم يمنع العبودية يا أستاذ انما القانون الوضعي منعها ، و المؤمن الحق لا يعترف بالقوانين التي وضعها الانسان ” .

و من ثم أصر الوجهاء على مواقفهم مؤكدين للأستاذ أنهم لن يرسلوا أبناءهم الى المدرسة طالما ظل شحادة العريان مراقبا على زملائه ، و أصر الأستاذ مروان كذلك على موقفه .

و لم يطل الأمر ، فما لبث التلاميذ المضربين أن بدؤوا يعودون الواحد تلو الآخر فيما عدا ابراهيم المعيوف الذي أعلن أنه ترك الدراسة نهائيا !

*****

ذات فجر من أيام الربيع و قبل أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود أنهضه من نومه فزعا قرع باب غرفته :

“من الطارق ؟ ” سأل بانزعاج.

” أنا عذبة  يا أستاذ ! ”

فتح الباب غير مصدق :

– ماذا أتى بك يا عذبة و ضوء الصباح لما يبين بعد ؟

= أتيت مع ( الجنايات ) من ( تل الهوى )

– و مشيتن كل هذه المسافة ؟

= غادرنا عند انتصاف الليل .

– لعل أحدا منهن تنبه الى قدومك عندي فيتسبب لك بمشكلة !

= كلهن يعرفن قصتي و يتعاطفن معي ، هن أتين لجمع الفطر و الخبيزة و القرّة و العقوب و الرشاد ، أما أنا فجئت  ألملم  ذكرياتي مع أحب الناس !

– و أهلك ألا تنوين زيارتهم ؟

= أهلي باعوني يا استاذ !

*****

و تكررت من ثم زيارات عذبة ، كانت بنات ( تل الهوى ) يفدن الى الغدير جماعات جماعات ، يهزجن و ينشدن و يجمعن ما يمكن جمعه من خيرات البرية التي جاد بها الربيع ، ثم يعدن الى تل الهوى عصرا ، و كانت عذبة تقضي كل ذلك الوقت في غرفة الأستاذ . و ذات يوم و بينما كانت تتسلل خارجة اذا بفارس يقترب منها و يلسعها بكرباجه ، الا أن زميلاتها أحطن بها مشكلين درعا بشريا بينما أمسكت أخريات برسن حصانه محاولات انزاله عنه ؛ كن كثيرات فآثر الانسحاب و هو يشتمهن جميعا .

كان ذلك الفارس الهمام هو عبد العزيز الصوان أعز أصدقاء الأستاذ مروان في قرية الغدير ، و يبدو أن جاسم الهوري سقاء المدرسة قد أبلغه بقصة عذبة .

بعد أيام وردت الى الأستاذ مروان اشارة رسمية عن طريق المخفر يطلب فيها مفتش المعارف قدومه لمقابلته حالما يتلقى الأمر و بدوء ابطاء .

*****

قال له المفتش :

– ما الذي فعلته يا أستاذ ؟ فأجابه مذعورا :

= خير ؟ ماذا فعلت ؟!

– انظر كم عريضة وردت الينا ضدك من أهل الغدير !

= ضدي ؟ ماذا فعلت لهم سوى كل خير ؟

– على أي حال مدير المعارف يود مقابلتك .

*****

– أنت مروان الساعاتي ؟

بادره مدير المعارف و هو يقلب مجموعة من الأوراق بين يديه .

= نعم حضرة المدير ، أنا مروان الساعاتي

قالها و هو يرتعش انفعالا . فساله بلهجة جافة :

– ما هذه الضجة التي تسببت بها في قرية الغدير . أنت مرسل الى هناك للتعليم أم للتدخل في أمور الناس ؟ أنت معلم أم مصلح اجتماعي ؟!

و بدون أن يفسح له أي مجال للاجابة ، أتم لائما :

– فرضت عليهم ملا بس موحدة ، قلنا هذه خطوة جيدة لصالحهم ، عطلت المدرسة ثلاثة أيام دون استئذان منا ، فغضضنا البصر عنك فلولا ذلك ما نفذوا قرار توحيد الملابس ، سخَّرت تلاميذك لتسوير النبع ، فقلنا لا بأس فهذا لمصلحة التلاميذ أيضا ، تصرفت بالدواء الذي أعطته لك الصحة المدرسية لمعالجة عيون التلاميذ فعالجت به أهل القرية ، أي أنك تصرفت بمال عام على هواك ، و قلنا لا باس فهذا عمل انساني يعزز العلاقة بين البيت و المدرسة ، و وقفت في وجه المختار و ووجهاء الغدير في قضية شحادة العريان ، فقلنا هذا أيضا موقف انساني شهم .

و لكن أن تتعدى على أعراض الناس فهذا ما لا نقبله. و التفت نحو المفتش متسائلا :

– أليس كذلك يا أستاذ حسن ؟

و لدهشة الأستاذ مروان و ذهوله ، أجابه الأستاذ حسن :

–  ليس هناك أي اعتداء فقد علمت من مصدر موثوق أنها كانت تأتي اليه من  مسافة  ساعات  مشيا  على  الأقدام  ؛  ثم  التفت الى الأستاذ  مروان متسائلا :

– ما قصة نبش القبور ؟احدى العرائض تتحدث عن ذلك !

” نبش القبور ؟ ” تساءل الأستاذ منزعجا  ثم أتم موضحا :

= الحكاية يا أستاذ حسن ، أن  أحد  التلاميذ  أحضر لي بعض  الحلي المصنوعة من النحاس و العقيق ،عثر عليها في خرائب شمال القرية ، فصحبته و آخرين بعد الدوام  لأستطلاع الموقع ، فكان لدهشتي موقعا أثريا عبارة عن مقبرة مجاورة لبناء كبير يشبه المعبد ، مليئة بالعظام و بمثل تلك الحلي اضافة الى عملات برونزية تبين بعد أن نظفتها أنها عملات رومانية !

” و عالم آثار أيضا ؟! ما شاء الله !! ” علق مدير المعارف ساخرا ، و لكن ما لبث أن سأله :

– و ماذا فعلت بتلك الآثار ؟

= ذهبت بها الى مديرية الآثار بدمشق فقالوا لي أنها ليست ذات قيمة فلديهم منها الكثير  و لكنهم احتفظوا بها ! .

*****

بعد فترة صمت  التفت المفتش الى مدير المعارف مقترحا :

– أنا أرى أن ننقل الأستاذ من قرية الغدير ، ليس عقابا له بل خوفا عليه ، ان حسناته فاقت سيئاته و هم لا يستحقون انسانا كهذا ، و من الناحية المهنية  فهو معلم جيد .

*****

و ختم مدير المعارف المقابلة قائلا :

– اليك  قرار نقلك  ، اذهب  و نفذ  القرار بأسرع  ما  يمكن ، ثم  أردف مبتسما :

– و حاول ألا تودع الحبايب !

ثم انفجر ضاحكا و ما لبث الأستاذ حسن أن شاركه الضحك ، بينما أحس الأستاذ مروان أنه يذوب خجلا !

————————-

*الدرك : شرطة الأرياف إلى ما قبل عام 1958

*النظام المنضم : استعراض العسكري

*السحجة : التصفيق حتى تُدمى الأيدي

————————-

نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب