قصة
نزار ب. الزين*
بمناسبة الذكرى الستين للنكبة
ما كادت السرية ( 24 ) من الكتيبة ( 15) من جيش الإنقاذ ، ما كادت تستقر في حي الشيخ جراح في القدس ، حتى شهد منير و هو قائد السرية ، من مكمنه في أحد مباني الحي المحصنة ، رجال الجهاد المقدس ينقضون على قافلة صهيونية كانت في طريقها إلى جبل الزيتون حيث تقع الجامعة العبرية و مستشفى ( ها داسا ) ، و يفجرون بين عجلات عرباتها الألغام المصنعة محليا ، بمهارة فائقة ، أدت إلى تمزيق باصين مصفحين ، بمن فيهما ، مما جعل باقي العربات تنكص على أعقابها .
و ما كاد منير يضم شفتيه بعد ابتسامة جزلى ، حتى فوجئ بقوة بريطانية بمصفحاتها و سياراتها الخفيفة ، و المركب عليها مدافع (مورتر) ؛ تحتل مفترق الطرق ، و يباشر أفرادها على الفور بإطلاق النار على المناضلين في كل اتجاه .
و في سورة غضب لم يعهدها بنفسه من قبل ، أصدر أمره بإطلاق النار على البريطانيين ، و خلال دقائق ، التهبت المنطقة كلها و أخذت القذائف تنهال على الحي من كل صوب ، من الجامعة العبرية ( و المفروض أنها منطقة منزوعة السلاح ) ، و من المصفحات البريطانية ، و من مباني ميشاروم العالية ؛ بينما بدأت القافلة تحت حراسة مشددة من ال( ها غانا ) و مزيد من المصفحات البريطانية ، تحاول ثانية اقتحام طريقها عنوة .
و بدا للحظة أن النار العربية ضعفت و أن القافلة سوف تعبر ، و على حين غرة ، انفتحت أبواب الجحيم على القافلة و حماتها من البريطانيين و ( الهاغانا ) ، من المصرارة و باب الساهرة ، و من داخل السور ، و وادي الجوز ، و تلال النبي صموئيل التي تتمركز فيها بطارية مدفعية لجيش الإنقاذ ، و التي أخذت تدك مواقع المدافعين عن القافلة .
و اندفع المناضلون يحكمون الطوق عليها و على حماتها ، و استبسل منير وأفراد سريته ، و هم يشدون من أزر المناضلين بكل ما يملكونه من فنون قتالية اكتسبوها خلال المعارك التي لم تهدأ قط في المدينة المقدسة .
أحس البريطانيون بحراجة موقفهم ، فانسحبوا و في أقل من عشر دقائق ، كانت القافلة و حراسها في حالة ضياع .
و لم يهن على القائد البريطاني أن تستمر المجزرة لصالح العرب فعاد إلى التدخل مجددا ، مستخدما هذه المرة قنابل الدخان و الغازات المسيلة للدموع ، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه .
و عاد منير و أفراد سيرته يتلمسون طريقهم بأياديهم و بقوة تصميمهم تمكنوا من الوصول إلى مركزهم و قد أعمت أعينهم الدموع و أرهق صدورهم السعال .
*****
ما أن استمع الميجر (ولسن) إلى تقرير قائد كتيبة الحماية عن الحادث ، حتى انفجر غاضبا :
– لَمَ لم تدمر الحي كله يا كابتن
= كانت نيرانهم كثيفة ، سيدي ، و كانوا أشبه ( بالكوماندس ) ما لم نعهده فيهم من قبل ؛ فقدنا ثلاثة من جنودنا أحدهم برتبة ( ستاف سرجنت ) و جرح لنا آخرون ، إنهم يزدادون قوة عددا و عُددا .
أشعل ( ولسن ) لفافة تبغ و أخذ يزرع الأرض جيئة و ذهابا ، كان من شدة غضبة و إحساسه بالإحباط ، يلتهم دخانها بشراهة ، و ينفث ما لم يتمكن من ابتلاعه من أنفه ، ثم عاد إلى طاولة مكتبه ، ثم رفع سماعة الهاتف بعصبية ، و طلب من ( السنترالست ) رقما معينا ، في بلدة ( بتاح تكفا ) ، ثم جاء الرد بعد فترة من الإنتظار المشحون بالتوتر :
– آلو مستر يتسحاق ، أنا الميجر ولسن
– يتسحاق إصغِ جيدا ، لا وقت للمجاملات
– كنت في نادي الضباط أمس و علمت أن الجيش سيخلي وشيكا معسكر ( لتفنسكي ) ، على الأكثر قبل أربع و عشرين ساعة من الآن ؛ تصرفوا ، و حافظوا على سرية تحركاتكم
*****
في الساعة الواحدة و النصف بعد منتصف الليل ، أخذت قوة صهيونية مشتركة من ( الشتيرن ) و ( الهاغانا ) ، تتسلل إلى إلى جوار معسكر ( لتفنسكي ) .
و في الرابعة فجرا أرسل الكولونيل ( ألن ) إلى مختار القرية رسالة يخبره فيها باعتزام الجيش البريطاني إخلاء المعسكر .
و في الساعة السادسة صباحا كان المختار و بعض الوجهاء في المعسكر يقومون بواجب وداع الكولونيل ( ألن ) الذي كان يشرف على انسحاب آخر جندي من قوة المعسكر ، و الذي قابل عواطفهم الجياشة ببرود .
كان المختار قد أرسل إلى القرى المجاورة ( الخيرية ، العباسية ، بيت دجن ، و حزبون ) طالبا نجدات لدعم احتلال المعسكر بعد انسحاب البريطانيين .
و بدأت النجدات تصل ، و اندفع المناضلون و الفضوليون غير المسلحين ، فدخلوا المعسكر بشكل عشوائي ، و انتشروا فيه ، كان قائد سرية الجهاد المقدس القادمة من يافا ، يحاول تنظيم المناضلين بصفته أكثرهم خبرة ، تحسبا لهجمة صهيونية ، عندما جندلته و من كان بقربه قذيفة مدفع ( هاون )
ثم إذا بالمعسكر يتحول إلى مسلخ آدمي ، فانقض جنود ( الهاغانا و الشتيرن ) من كل صوب ، مستخدمين البنادق و الرشاشات و قنابل المورتر و القنابل اليدوية ، من النوافذ و السطوح و الأبراج التي كانوا قد احتلوها من قبل ؛ و سرعانما انتشرت الجثث في كل مكان .
و بمعجزة استطاع القلة من المناضلين الإفلات من الفخ ، ثم اتجهوا إلى قراهم محبطين مقهورين ،
بينما استمر إطلاق النار في المعسكر ، لأن يتسحاق أمر بالإجهاز على الجرحى أيضا .
و ما أن علم أهل ( السلمة ) الذين فقدوا مختارهم في المجزرة ، إضافة إلى عدد كبير من خيرة شبانهم ، ما أن علموا بخسارة المعسكر المجاور لقريتهم و وقوعه بأيدي الصهاينة ، حتى شدوا الرحال في طريق نزوح لا أحد يعرف مداها
======================
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب