قصة
نزار ب.الزين*
– اكتملت التأشيرات و يمكننا السفر اعتبارا من صباح الغد !
لم تكن أم الوليد سعيدة بما سمعت ، و لكنها لم تتفوه بكلمة ،
كانت تشعر لحظتئذ ببعض الكآبة ، فالرجل مريض و نوبات الربو أخذت تتقارب أكثر فأكثر في الأشهر الأخيرة و نصحه الطبيب بوجوب الإستراحة كلما تسنى له ذلك ، فأين ستكون الراحة في سفر يمخر عباب الصحراء من شرقها إلى غربها؟ .
كانت أم الوليد تحدث نفسها سرا عندما تنبه إلى سرحانها فقال لها مطمئنا :
– لا تقلقي يا امرأة ، سنجزئ الرحلة إلى مراحل ، فالطريق مخدوم و الاستراحات تملؤه .
كانت الرحلة ميسرة بداية و لكن على حين غرة هبت رياح شمالية عاتية ، ، كانت تحمل كثبان الرمال عاليا ثم تلقيها مبعثرة فوقهم أو إلى جوانبهم أو تصطدم بنوافذ السيارة بعنف و تهزها كأنها علبة صفيح ، ثم بدأت من ثم الرمال تتكاثف لتحجب عنهما الرؤية .
صاحت أم الوليد و قد تملكها الذعر راجية أن يتوقف ، و لكن أبا الوليد لم يأبه لاحتجاجاتها !
– أين أقف بربك ؟ قال بعصبية ثم أضاف :
– في عرض الطريق ؟ فنعرض أنفسنا لخطر عابرٍ آخر لم يتمكن من رؤيتنا ؟
أم على حافة الطريق لتغمرنا كثبان الرمل ؟
ثمت ضوء أزرق يومض ، لا بد أنها دورية شرطة.
أمرتهم بالتوقف و الإتجاه إلى استراحة على جانب الطريق .
– جاءنا الفرج ؛ قالت أم الوليد ، ثم و لجا الاستراحة بسرعة.
عشرات من المسافرين من كل القياسات البشرية ، تكدسوا جميعا كأفراخ السردين ، في علبة لا تتجاوز مساحتها العشرين مترا مربعا ….
أفواج أخرى تدخل و تدخل معها نفثات جديدة من الرمال ….
أنفاس الناس تضاعف من حرارة الجو ، و مكيف الهواء يعجز عن تخفيفها…
بعض الرجال يدخنون !
بوادر أزمة ربوية تصيب أبو الوليد ، فتصيح أم الوليد :
– كفوا عن التدخين رجاء ، زوجي يكاد يختنق !
يستمر المدخنون غير مبالين !!…
يهمس أبو الوليد بأذن زوجته :
– قلت لك مرارا أن الناس لا يكترثون لآلام الناس و أن كلاً يغني على ليلاه …
” لقطة من الذاكرة – مسافرَين من بيروت إلى دمشق في سيارة أجرة ، كانا ، الراكب المجاور أشعل سيغارته ، الراكب المجاور للسائق يطلب شعلة ، احتج أبو الوليد ، تضرعت أم الوليد ، المدخن يرفض ببجاحة ، يطلبان نجدة السائق ، فيجيب ببرود قاتل “أنها ليست رحلة خاصة يا أستاذ ! ثم يشعل بدوره سيغارته ”
تزداد وطأة الأزمة …
يسأل أبو الوليد :
– كم تبعد البلدة القادمة ؟
ثم يقرر :
– هيا فلنخرج من هذا القبر الجماعي ، لم يعد الأمر يطاق .
يعترض شرطي الدورية ثم يتركه على مسؤوليته ، بعد أن رأى سوء حالته !.
في فندق أسموه استراحة افتقرت إلى أبسط مقومات الراحة ..
أصغيا إلى التلفاز ، الذي أكد أن العاصفة العاتية قد هدأت ، بعد أن أوقفت الحركة في عدة مدن و بلدات لعدة ساعات ، و تسببت بعدة حوادث مرورية كارثية ، و مما اضطر عدة مطارات في طول البلاد و عرضها للإغلاق .
– لقد نجونا بأعجوبة !
قال أبو الوليد بعد أن تناول جرعة أخرى من الدواء ، ثم أضاف :
– هيا فلننطلق فقد زال الخطر .
في عصر يوم جديد
و في جو بدأ يتحسن نسبيا ،أ وقف أبو الوليد مكيف الهواء، فقد بدأ يضايقه ، ثم فتح النافذه ليستنشق هواء الطبيعة …
تراءت عن بعد أبنية مركزالحدود…
لم يخفيا فرحتهما ، فالجزء الأبعد من الرحلة قد أنجز ..
و لكن …..
ما أن اقتربا من بوابة المركز ، حتى تباطأت حركة الم
رور فازدحمت بعشرات المركبات من كل الأحجام و الأنواع و الألوان .
كانت إجازة الصيف السنوية في مدارس و دوائر ست دول خليجية قد ابتدأت لتوها معا ، و كان عيد الفطر كذلك على الأبواب .
كل العاملين في ست دول خليجية و أسرهم تحركوا في وقت واحد نحو مساقط رؤوسهم إن في مصر أو في بلاد الشام ، و جميعهم يتجمهرون الآن أمام بوابة مركز الحدود …
محركات العربات تنفث عوادمها المحملة بجميع أنواع السموم ، و ترفع حرارة الجو .
هديرها يضاعف التوتر ..
تشرئب الأعناق من النوافذ نحو بوابة الدخول …
يهبط البعض من عرباتهم ، يتطاولون فوق رؤوس أصابع أقدامهم ، يلقون نظرة نحو بوابة الدخول … ثم يعودون إلى عرباتهم يائسين …
لا زالت البوابة بعيدة يرددون …
و العربات لا زالت تزحف بسرعة الصفر ..أربعا أربعا ….
تتحرك لثانية ثم تقف لدقائق …
تصيح أم الوليد محاولة التغلب على ضجيج المحركات :
– ضع ( الكمامة ) على وجهك يا رجل ، فقد تقيك شر هذه السموم !
أزمة جديدة تهاجم أبا الوليد ..
يتناول عدة بخات من دوائه ..
يشعر ببعض الراحة …
و لكن صفير صدره لا زال يدوي …
و البوابة اقتربت و لكنها لا زالت بعيدة !
ينظر الناس إلى وجهه مشفقين ..
و لكن عاجزين …
يكابر أبو الوليد و يستمر بالتحرك بعربته كلما سنحت له الفرصة
بلغوا البوابة الآن !!!
المسؤول يسمح لهم بالتقدم بعد إلقاء نظرة على جوازاتهم .
يعثرون بعد لأي على مكان للتوقف .
افترش النساء و الأطفال الأرض ، بينما توجه الرجال إلى مبنى الأمن …
الفوضى عارمة ، يتدافعون ، كل يحاول أن يتجاوز الآخر .الصياح يعلو ، شجار هنا و مناقشة حادة هناك .
ثمت شرطي عند أول درجات السلم المؤدي إلى المركز يبعد الرجال بخيزرانته و لا يسمح بالصعود إلا لاثنين بعد اثنين …
كثيرون أصابتهم لسعة خيزرانته …
” لقطة من الذاكرة – كانت الرحلة بين الخليج و إسبانيا ، إجتاز نفق القمة البيضاء ( Le Mont Blanc ) بين إيطاليا و فرانسا ، يتوقف عند مركز الحدود ، يتقدم منه رجل الأمن ، يطلب منه راجبا إبراز جوازات السفر ، يلقي عليها نظرة ، ثم يقول له : أهلا بك و بعائلتك في فرانسا ”
يجد أبو الوليد نفسه في قلب الزحمة ..
يشعر بالإختناق مجددا ..
يخرج من بين الجمع بعد جهد ..
يصل إلى زوجته محطما في حالة يرثى لها …
يتناول دواءه..
ثم يستنشق بضع بخات ..
يجلس على الأرض و قد أنهكه التعب ثم لتهاجمه أزمة ربوية جديدة .
يخرج الكلمات بصعوبة و هو يقول لزوجته يائسا :
– إنه كيوم الحشر ، لن أتمكن من مراجعة الأمن قبل انحسار هذه الجموع .
” لقطة من الذاكرة – موظف الأمن في بلد عربي آخر ، يبلغ جميع المسافرين أن عليهم الحصول على إذن خروج ، يعترض و صحبه من المسافرين :< نحن نحمل تأشيرة مرور ، و لا ننوي الإقامة > يجيبهم موظف الأمن بغلظة : < تلك هي الأوامر ، عودوا إلى العاصمة و احصلوا على إذن الخروج > ؛ يعود إلى العاصمة ، يبحث عن الدائرة المسؤولة ، يقف في طابور الإنتظار ، يدخل قاعة كبرى ، أربع و عشرون موظفا يجب مراجعتهم جميعا ، ثم مراجعة رئيسهم ، ثم إلى شباك التأشيرات ، ثم إلى طابور آخر ، ثم يتكرم الموظف بختم تأشيرة الخروج ؛ ثم يعود إلى رئيس القسم ليوقع على التأشيرة مع عبارة عبور بلا توقف ”
يعلق لزوجته قائلا :
– لا قيمة للإنسان في بلادنا …
تزداد وطأة الأزمة الربوية …
تستنجد بمن حولها ….
يتجاهلونها !
فمن ينجدها و الرجال جميعا أمام مركز الأمن يكافحون ؟
يرفع المؤذن أذان العشاء …
يتوجه كثيرون نحو المسجد ..
و كذلك يتوقف رجلا الأمن عن عملهما ..
الشرطي صاحب الخيزرانه يأمر الجميع بالمغادرة فورا .و هو يصيح : صلاة … صلاة…صلاة….
يعود البعض إلى أسرهم ..
و يتوجه البعض إلى المسجد ..
رجل شهم سمع من زوجته بمشكلة أبو الوليد …
يتطوع بالذهاب إلى مكتب الإسعاف ..
ينتظر حتى فراغ الموظف من أداء صلاته ، ثم من تناول عشائه ..ثم …..ليطلب الموظف منه أن يحضر المريض !!!
يمر عن بعد موكب أمير المحافظة ..
يبدو أنه كان يستمتع بالفرجة على هذه الجموع التي لم يشهد لها المركز مثيلا من قبل .
– ربما يأمر بزيادة عدد موظفي المركز !!!!
يعلق البعض متفائلين …أو ساخرين…
و لكن الموكب يمضي بدون توقف ..
يصل أبو الوليد إلى مكتب الإسعاف بمعاونة ذلك الشهم .
يقرر المسعف أن حالته سيئة جدا و أنه بحاجة إلى الأكسيجين وهو غير متوفر ! .
يتصل المسعف طالبا سيارة إسعاف .
تصل سيارة الإسعاف بعد حوالي ساعة أو تزيد ..
ينقلونه و زوجته إلى مستشفى البلدة المجاورة ..
و في الطريق يهمس إلى زوجته بصعوبة :
– يبدو أن الصحراء تحقد علينا !!
ثم يضيف بصعوبة أكبر :
– إذا مضيت تجملي بالصبر ثم بلغي حبي لأولادي و لأولادهم و للأهل و الأحباب ..
يستدعون الطبيب من بيته ، يحضر متمهلاً ، يلقي نظرة على وجهه الشاحب ، يجس نبضه ، يضع سماعته على صدره ، ثم يلتفت إلى زوجته متأسفا :
– لقد فارق الحياة !
انتحبت أم الوليد ..
جاء محققون من الأمن ..
كانوا على عجلة من أمرهم ..
سجلوا الواقعة ….
تفحصوا جواز سفر المرحوم …
ثم التفت أحدهم نحو أم الوليد قائلا بحزم :
– يا حرمة ، الميت ، يحمل تأشيرة عبور فقط ؛ و لا يمكنك دفنه هنا !َ
————–
سوري مغترب