جلس عصام و جلال في مقهى الأدباء يتسامران ، فهما كاتبان مغموران ، لم يجاملهما الحظ بعد ، كما جامل نجيب محفوظ و يوسف السباعي و توفيق الحكيم و علي القاسمي و ممدوح عدوان و غيرهم من المشاهير ، و لكنهما يشعران بقرارة نفسيهما أنهما أديبان رغم معاكسة الظروف ، و قد دئبا على الاجتماع كل يوم خميس في ركن من مقهى الأدباء .
بعد أن أخبر كل صديقه بما أنتج في الأسبوع المنصرم ، و ما تم نشره في الصحف المحلية و المواقع الألكترونية بادر عصام صديقه بالتساؤل التالي فقال :
يقال يا أخي أن النساء إذا تبوأن مناصب رفيعة يصبحن متزمتات ، متمسكات بالنصوص و لا يعترفن بروح النصوص ، و يقرأن السطور إلا أنهن لا يأبهن لما بين السطور ، و يتعاملن بكل ما أوتين من شدة مع مرؤوسيهن تطبيقا للوائح بلا أدنى مرونة ، فما هو رأيك يا صاحبي بهذا الطرح ؟
يصمت جلال مفكرا ، يهز رأسه يمنة و يسرة ، ثم يجيبه بتؤدة و ثقة عالية بالنفس :
– أنت يا عصام ، تقحم نفسك فيما يسمى بخطأ التعميم ، فالتزمُّت الوظيفي يطال بعض النساء كما بعض الرجال ؛ فقد مرَّ في تاريخنا المعاصر نساء كثيرات تبوأن أرفع المناصب و لم يكنَّ متزمتات ؛ و إليك مثلا رئيسة وزراء حكمت إحدى الدول العظمى عشر سنين على الأقل ، و التي ….
يقاطعه عصام قائلا :
– عرفتها ، و لكنها كانت في غاية التزمت فأسموها المرأة الحديدية ، ففي زمانها أدارت مثلا حرب جزر الفوكلاند و رفضت أن تجري بشأنها أية مفاوضات إذ اعتبرتها مسألة كرامة وطنية ، كما كانت متشددة جدا في مؤازرة الدولة الصهيونية و عدائها للعرب ، لأن مشروع الدولة الصهيونية في الأصل مشروع بريطاني ، و غير مسموح لأي كان أن يعارض وعدا قطعته حكومة بريطانية ، حتى لو كان منذ مائة سنة !
يجيبه جلال بشيء من الحدة :
– مع ذلك لا يجب التعميم ، فقد كنت أعمل في إدارة حكومية رئيستها سيدة محترمة ، كانت تتعامل مع جميع موظفيها بكل تواضع و دماثة خلق و استطاعت بذلك تحويل الادارة إلى عائلة واحدة يعمل فيها كل في مجاله بمنتهى الجدية و برغبة منبعثة من صميم الذات . ثم ترقت المديرة إلى منصب وكيلة وزارة ، و حل مكانها إحدى رئيسات الأقسام ، و على عكس سابقتها ، كانت دائمة العبوس و الصرامة ، كثيرة الأوامر ، لا تقبل نقاشا أو اعتراضا ، فتحولت الادارة في زمانها إلى بؤرة توترات …
هز عصام برأسه موافقاً و هو يجيب صاحبه :
– أنا معك ، لا يمكننا التعميم….. و لكن ؟!!
يقاطعه جلال مبتسما :
– منذ البداية ، أدركت أنك تنوي الحديث عن واقعة ما !
يبتسم عصام ، ثم يجيب صاحبه قائلا :
– لقد أجدت التخمين كعادتك ، فاستمع إلى قصتي مع صحافية تدير موقعا على الشبكة الألكترونية الدولية (الأنترنيت) ، أرادت به أن تفهرس لللمبدعين العرب في كل مجال أدبي كان أم فني أم علمي ، و لكن من خلال نقاشي معها ، أدركت أنها بلورت مواصفات للمبدع لا يجوز تجاوزها ، فالمبدع برأيها يجب أن يكون معروفا و مشهورا ، و لديه إصدارات أدبية مطبوعة ، و مشاركات في ندوات و محاضرات أدبية و ثقافية ، تؤهله لهذا اللقب !!! أما الأدباء المغمورين الذين لم تؤاتهم فرص البروز رغم روعة إنتاجاتهم الأدبية ، فإلى الجحيم !!! .
أرسلت لها بداية – أي قبل أن أتعرف على طريقة تفكيرها – عملا من إنتاجي ، فردت بالحرف الواحد : ” لقد بخلت علينا بسيرتك الذاتية مقترنة بصورتك الشخصية إن أمكن . “
فأرسلت لها السيرة و الصورة ، و لكنها لم تنشر العمل و لم تذكر شيئا عن السيرة أو الصورة ، و ظل فهرسها الأدبي خاليا من إسمي ، قلت لعلها نسيت ، فأرسلتُ لها أستفسرها ؟! فكانت إجابتها في غاية الغرابة :
” سلامي
يا أبتي (ربما قالتها تتهكماً) ، نعم وصل كل ما أرسلته ، و لكن حيائي هو ما جعلني لا أرد على طلبك ( ؟؟!!)
أستاذي و معلمي ، للتتميز و الابداع تفاعله مع المجال نفسه. لا يمكن اعتبار النصوص فقط هي المقياس للابداع ، طالما أنك غُيبت عن الوسط الأدبي ، و بقي كل ما كتبته مجرد مخطوطات ( ؟؟!!)
اعذرني لردي و لم أشأ أن أقسوَ عليك يوما ، أحببت طموحك و اعجبت بكل ما كتبت ، لكن هل ممكن أن يكون مثلا علي القاسمي أو ممدوح عدوان ، على سبيل المثال لا الحصر ، و غيرهما تواصلا مع أدبياتهما و استمرا بالبحث و الدراسة و التعمق و النشر و العمل في مجالات ثقافية . اعذرني لألف مرة ، و كل يوم أتعلم منك المزيد مما تنشره ، فرغم أني صحافية على الشبكة المعلوماتية منذ 5 سنوات متواصلة ليل نهار ، و رغم أني أصمم و أحرر و أضيف من و إلى الشبكة ، و أراسل الجميع ، و أفتح قنوات بمفردي و بمجهود شخصي، إلا أني سيدي لا أعتبر نفسي مبدعة أو مميزة ؛ لك مني كل الاحترام و التقدير “
يجيبه جلال :
– أكاد لا أصدق ما سمعت ، فبينما نرى أديبة عربية مصرية معروفة بابداعاتها و بغزارة إنتاجها و تكريسها حياتها للأدب و الأدباء ، فأنشأت من مالها الخاص مسابقة للقصة ، تشجيعا منها للكتاب المغمورين ؛ نرى السيدة التي ذكرت ؛ تقع في أسر المواصفات و القواعد ، هذا و الله أعجب ما سمعت !
يقاطعه عصام قائلا :
– ليس هذا فحسب ، يا أخي ، فقد أرسلت لها عدة صفحات من تعليقات الأدباء و القراء حول أعمالي و ما كتب حولها تعريفا و تقريظا و ما أعتبره أوسمة منحني إياها كبار الكتاب ، أوسمة تزين أعمالي بكل فخر و اعتزاز ، و كلها إشادة و اعتراف بابداعي و مكانتي الأدبية ، فأجابتني بالرسالة التالية :
” أستاذي الفاضل
لم أقل أنك لست أديبا و كل التعليقات على قصصك قَصَّرت بحقكك ؛ يا سيدي ، ألم أقل اني أتعلم منك ؟ ألم أذكر أنك عملت بصمت ؟ وعلى ما اعتقد ما ذكرته سابقا كان كافيا ، أنك لم تشغل مناصب أو اصدارات، بمعنى أنك لم تتفاعل بالسابق بمجالك الأدبي ! و أرجو أن تعذرني ألف مرة ، و شكرا “
صمت جلال طويلا ثم قال :
– ألم تخبرها أنك كنت تكتب في الصحف منذ أكثر من نصف قرن ؟ و أن قصتين من قصصك على الأقل أصبحتا ضمن المناهج الأدبية المقررة للمرحلة الثانوية في بلدين عربيين ؟
يجيبه عصام :
– أمام إجاباتها المتصلبة ، و حتميتها المطلقة ، و تشبثها برأيها ، آثرتُ أن أتوقف !
——————————————-
سوري مغترب