قصة قصيرة
نزار ب الزين*
الزمان : الساعة السادسة من مساء الخامس من أيار/مايو عام 2028
المكان : قاعة شتوية في في مقهى و مطعم “الوليد بن عبد الملك” في قمة جبل قاسيون المطل على دمشق .
النوافذ الزجاجية العالية مشرعة عن آخرها و النسمات الرطبة أخذت تتدفق منهية سكون قيظ ثقيل هيمن على القاعة منذ الظهيرة ، رغم ارتفاع المكان .
“أبو الوفا” شاب فارع الطول كث الشاربين ثاقب النظرات ، جم النشاط ، قلب لتوه إحدى الطاولات بعد أن نزع غطاءها ، و أخذ ينقب فيها و على فمه لحن “سنرجع يوما” ، بينما كانت ذاته تهمس إلى ذاته : “أجهزة التنصت أصبحت بالغة الدقة ، من يدري فلعل ما يظنه المرء دبوسا ، إن هو إلا واحد منها ، لا بد من توخي الحذر.”
رجفة كهربائية في ساعده نبهته ، فقرب معصمه إلى أذنه ، ثمت صوت هامس يستفسره عن الأوضاع ، فاقترب من إحدى النوافذ مدنيا جواله – و هو على شكل ساعة يد – من فمه و أخذ يهمس قائلا : “حجزت جميع الطاولات في الركن ، طاولة الإجتماع فرغت لتوي من تفتيشها ، ندلة المقهى طعمتهم باثنين من المخابرات ، عدة عناصر مسلحة وزعتها في مكامن مخفية فوق المقهى و حوله .”
رد محدثه بلهجة آمرة : “في الثامنة تماما سيمسون جميعا إلى جانبك ، قائد سرب يعرب ستنقله حوامة إلى مبنى التلفزيون ، و من ثم سيتمشى إلى المقهى ، أما الباقون فسيصل بعضهم في باصات سياحية و بعضهم في الحافلة المعلقة ” تلفريك” .. و لكن هل أوليت مسألة الطعام اهتمامك ؟ ” أجابه : ” أجل سيدي العماد ، سيصل الطعام من مطبخ السرية “1015” عبر مطبخ المطعم”
و ما أن ارخى يده المتعبة حتى شدت الفيحاء انتباهه ، فقد أخذت ترتدي حلة الليل ، خطوطا من الأنوار البرتقالية المبهرة تنبثق هنا و هناك ، ما لبثت خلال دقائق حتى شكلت شبكة واسعة امتدت إلى الأفق البعيد تتخللها أضواء البيوت تناثرت كالنجوم في كبد السماء .
اتسعت دمشق خلال العقدين الأخيرين بشكل مذهل ، همس في سره ، ثم أتم : حتى أنها التهمت كل رقعة غير ذات زرع ، حتى سلسلة جبل المانع جنوبا ، و من قطنا إلى الديماس غربا ، و من تلال قاسيون حتى تلال الثنايا شمالا ، ثم التفت شرقا من وراء الغوطة حتى كادت تبلغ موقع “أبو الشامات” الحدودي ، فأصبحت الغوطة كحديقة العاصمة العملاقة ” المتروبوليتان” للجمهورية العربية السورية .
و عندما خفض رأسه بدا تحته تماما مثلث “أبو رمانة – المالكي” لألاءً كعروس ليلة زفتها و من ورائه ساحة الأمويين حيث تصعد من جوارها رحلة الحافلة المعلقة ، و على قاعدة المثلث ارتفعت عدة ناطحات سحاب على أنقاض مدينة معرض دمشق الدولي القديمة .
و بينما كان أبو الوفا سارحا مع المتغيرات السريعة التي طورت مدينته الحبيبة ، نبهته الرجفة الكهربائية إياها ، فقرب معصمه من أذنه مصغيا إلى مخاطبه -: ” أبو الوفا ، الساعة الآن الثامنة إلا ربعا ، قم بجولة استطلاعية أخرى ، و لا تسمح بترك أية ثغرة ، فالاجتماع بالغ الخطورة ، ربما مصير أمتنا العربية يتوقف عليه …”
*****
بينما شغل رواد المقهى المطعم الجانب الغربي من القاعة ، فقد بدا الجانب الشرقي – كما أريد له- مخلخلا تماما ، توزع على بعض طاولاته عناصر من المخابرات من الجنسين ،تعمدوا الظهور كثلل من الشبان المرحين .
أما الطاولة رقم “19” فقد التف حولها ثمانية رجال بملابس مدمية ، أخذوا يتناولون عشاءهم بشهية ، بينما دار الحديث بينهم هامسا يشوبه بعض الهزر المتعمد من حين لآخر ، إمعانا بالتمويه .
افتتح الحديث السيد “ن” فقال :
– بصفتي المحلل لسياسي للموقف المحلي ، يمكنني التأكيد أن وقت الحسم أزف ، فلقد مضى على الهجرة ثمانون عاما ، و على هزيمة ال”67″ واحد و ستون عاما ، و خمس و خمسون عاما على حرب تشرين/أكتوبر المجهضة ، و قرابة السنوات العشرين على مجزرة ” الرصاص المصبوب” فوق غزة ؛ و القضية لا زالت تراوح في حلقتها الفارغة ، و كل يوم يلتهم العدو قضمة جديدة من الأرض الفلسطينية ،حتى أن المستوطنات أحاطت بكافة المدن الفلسطينية إحاطة الكوبرا بحمل وديع ، و بلغ بهم الصلف و الغرور حد كتابة عبارة من التوراة على يافطة علقوها في مدخل مدينة الخليل التي أسموها “حبرون” ، تؤكد أن الفلسطينيين بحكم شريعتهم أصبحوا عبيدا للإسرائليين ، تقول العبارة ما معناه : ” حين تقترب من مدينة لكي تحاربها ، استدعها للصلح ، فإن فتحت لك ، فكل الشعب الموجود فيها يكون لك للتسخير ، و تستعبد لك ” ، و لذا فإن أول ضربة يجب أن توجه إلى مستوطنة “كريات أربع” المجاورة للمدينة ، فقد أذاق الصهاينة سكانها الذل و الهوان .
رد عليه الرائد “ف” و هو رئيس الجلسة ، على الفور :
= سيد “ن” ، لا تخرج عن الموضوعية من فضلك ، و عن أسلوب النقاش المنظم ، فنحن في صدد التحليل السياسي المبني على الدراسة العلمية ، أرجو ألا تتجاوزه .
– عذرا سيدي الرائد ، الذل الذي لحق بشعب لواء الخليل ، فوق كل احتمال .
= شعبنا كله يجري قهره و إذلاله منذ أربعينيات القرن الماضي ؛ تابع موضوعنا الرئيسي من فضلك .
هز السيد “ن” رأسه علامة الموافقة ، مستأنفا حديثه :
– كما هو معلوم لديكم ، فالإحاطة هي مقدمة الإبتلاع ، الإحاطة استغرقت كل هذه السنوات ، إلا أن الإبتلاع لن يحتاج لأكثر من سنوات قد لا تتجاوز العقد الواحد ، و هذا يعني ضياع شعبنا إلى الأبد و محو قضيتنا من الوجود ، و لذا أعود فأقول ، بأن أوان الحسم قد أزف و أن الخطة ” س- 14 ” يجب أن تنفذ بلا إبطاء .
= شكرا سيد “ن” ، قالها الرائد “ف” باقتضاب ، ثم التفت إلى السيد “ف” متسائلا : ” ما ذا عن الموقف الدولي ؟ ” فرد “ف” على الفور :
– لا زال بدوره يدور في حلقة فارغة ، أكوام من قرارات الأمم المتحدة ، بلغت حجم مبنى الأمم المتحدة ذاته ، ظلت دوما بلا تنفيذ ، و أكثر من خمسة عشر قرارا لمجلس الأمن ، في كل منها بند غامض ينفذ منه الإسرائيليون إلى مزيد من التسويف ، و أمريكا كما هو معروف مستمرة بتأييد إسرائيل بشكل ثابت و علني ، أما أوربا فلا زالت تلعب لعبتها ، كما هو مخطط لها في دائرة حلف الأطلسي ؛ أما ألمانيا و هولندا و الدول الاسكندنافية فهي كالأمريكيين ما زالت في تأييدها المطلق لإسرائيل من وراء قناع ما نعتوه بالموقف المتوازن ، في حين تستمر الأولى بتقديم تعويضاتها عما يسمى ب “جرائم النازية” ، تعويضات هائلة تتدفق باستمرار غالبها على شكل إمدادات عسكرية كالغواصات المتطورة مثلا ، أما فرنسا فلا زالت عند موقفها المخاتل حيث تلعب لعبة الوجهين ، أما اللبوة البريطانية فلا زالت تتفنن في صياغة القرارات الدولية الغامضة التي تحتمل أكثر من تأويل ، و الأسوأ من الجميع جامعة الدول العربية المشلولة و مواقف أكثر دولها الضعيفة و المتذبذبة .
أيها السادة ، أصبح لا بد – و الحال كذلك – من هزة عنيفة ، تنشِّط عدالتهم المخدرة بمورفين الدفاع عن وجود اسرائيل و حمايتها من عداوة جيرانها العرب الكثر (!) .
هنا ، تحول السيد “ف” بنظره نحو الرائد “ك” متسائلا : “ماهو موقف إخواننا السوريين ؟”
– سيدي الرائد ، سورية وحدها في الميدان منذ حرب تشرين/أكتوبر المجيدة ، القوى التي تصارعها ، أكبر بكثير من إمكانياتها المادية و البشرية ، و المؤامرات لإضعافها من الداخل و الخارج لما تنقطع لحظة واحدة ، و الجولان يعج بالمستوطنات الصهيونية ، و لإروائها تمكنوا من سرقة معظم مياه جبل الشيخ ، محولين سفوحة إلى ما يشبه الصحراء ، و هي إذ تطمنكم بأنها بنت قوة دفاعية يمكن الركون إليها ، فإنها تضم صوتها إلى مؤيدي الخطة ” س- 14 ” و تؤكد استعدادها لتأمين الغطاء المناسب سياسيا ة عسكريا .
يحملق الرائد “ف” في وجوه الجميع و هو يطرح سؤاله الأخير : “هل من معترض على تنفيذ الخطة ” س 14″ في الحال ؟”
*****
الزمان : الساعة الرابعة و النصف من صباح الخامس من حزيران عام 2028
خمسون طائرة من طراز “فلسطين 1” و “فلسطين 2” يقودها طيارون إنتحاريون ، و مشحونة بأشد المتفجرات فتكا ، تنطلق في وقت واحد مخترقة دفاعات العدو ، لتفجر شريطا من المستوطنات الإسرائيلية يمتد من كريات أربع جنوبا و حتى عين زيفان في الجولان شمالا ، تناثرت كالعهن المنفوش .
*****
الزمان : الخامسة و النصف من صباح الخامس من حزيران/يونيه 2028
المكان : مقر الحكومة الإسرائيلية في القدس
وزير الدفاع الإسرائيلي يخرج مثخنا بالجراح ، فقد أطبق عليه بعض زملائه فأوسعوه ضربا ، إذ لم تفلح لهم تبريراته المستندة على طبيعة العملية الإنتحارية و التي هي فوق طاقة أي جهاز دفاعي .
رئيس الوزراء يقيل الوزير المذكور و يتسلم في الحال مسؤولية وزارة الدفاع ، و يعلن سلسلة من القرارات عبر الهاتف بما فيها إعلان حالة الإستنفار في كل اسرائيل و التأهب على الأخص في ديمونة .
الهاتف المباشر مع البيت الأبيض في واشنطن يطلق رنينه ، الرئيس الأمريكي يحذر رئيس الوزراء الإسرائيلي من مغبة اللجوء إلى السلاح النووي ، و يطالبه بعدم اتخاذ أية خطوة مضادة قبل وصول مبعوثه الشخصي الذي هو في طريقه الآن .
إلا أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يرد عليه بلهجة جافة مشيرا إلى أن الطيران الإسرائيلي هو الآن في الميدان .
هاتف من القيادة العسكرية يؤكد أن نصف الطائرات الإسرائيلية عادت دون أن تحقق شيئا و النصف الآخر جرى تدميره …
رئيس الوزراء الاسرائيلي ، يتناول مسدسه ، و يدخل فوهته في فمه ، ثم يطلق رصاصة جعلت دماغه يتطاير …
*****
الزمان : الخامسة من مساء الخامس من حزيران/يونيه سنة 2028 للميلاد
المكان : مقر الحكومة الفلسطينية
رئيس الحكومة الفلسطينية يستقبل سفيري الولايات المتحدة الأمريكية و ألمانيا الغربية ممثلة لحلف الأطلسي مجتمعين ، ليبلغانه باعتراف حكومتيهما و الحلف بالحكومة الفلسطينية ، ممثلة لكافة الفلسطينيين ، و يرجوانه قبول المفاوضات مع الإسرائيليين مباشرة أو غير مباشرة ، مع وعد قاطع بانسحاب الإسرائيليين من المستوطنات التي بنيت بعد عام 1967 .
رئيس الحكومة الفلسطينية يعد بدراسة الأمر مع أعضاء حكومته .
*****
صعد أبو الوفا بعد زوجته و ولديه إلى الحافلة المعلقة “تلفريك” ..
كانوا جميعا جذلين ، و عندما ولجوا مقهى و مطعم الوليد بن عبد الملك المطل على مدينة دمشق ، أشار إلى الطاولة رقم “19” مخاطبا أفراد أسرته : ” على هذه الطاولة – أحبائي- جرت كتابة أنصع صفحة سطرها التاريخ العربي و كنت من شهودها .
كان ثمت سهم ناري قد تجاوز عنان السماء ، مفجرا عشرات المفرقعات الملونة ، شد انتباه أسرة “أبو الوفا” فهرع أفرادها نحو النافذة المجاورة ، ليطلوا على الفيحاء و هي تحتفل بالعرس الفلسطيني .
——————
سوري مغترب