قصة

نزار ب. الزين*

( سيدي عمود في الأصل ، ضريح أحد الأولياء الى جانب أحد الأعمدة الأثرية ، حولته العامة إلى (مقام سيدي عمود) ثم سمي الحي بهذا الاسم (حي سيدي عمود)، وهو ما يطلق عليه اليوم (حي الحريقة) .

(*) ثار السوريون على الحكم الافرنسي منذ لحظة هزيمتهم في ميسلون و قد استطاع الثوار احتلآل أجزاء من مدينة دشق  فكان رد فعل  الافرنسيين قصف المدينة و محاصرة الأحياء التي اشتبهوا بوجود الثوار فيها فكانت مذبحة جميع ضحايا ها  مدنيون

في حارة تم تبليطها بالحجارة حديثا من حي سيدي عمود(*) الواقع بين الدرويشية و البزورية  غربا و  شرقا  و  سوقي  مدحت  باشا  و  الحميدية  جنوبا  و شمالا  في  أول  هذه   الحارة  يقع  بيت أبو  سعيد   الطرابيشي الذي  أقفل  بابه  عن  خمسة  قلوب مفعمة بالشوق و القلق  على بكر الأسرة  الغائب.  كان أبو سعيد قد صلّى صلآة العشاء لتوه قبل أن يلج سريره النحاسي مرتلا الدعاء إثر الدعاء راجيا من الله حماية ابنه سعيد و رفاقه من كل سوء و متوسلآ أن يلتئم شمل العائلة من جديد ؛ كان على و شك الإغفاء عندما قرع الباب ! حجظت العيون  و شحبت الوجوه و لهجت  أم سعيد “ياساتر” و لكن عندما استمر الطرق ملحاحا ، التفت أبو سعيد الى زوجته قائلا بصوت مرتعش: “حضري لي  البقجة” و مضى نحو الباب . و لكنه أحس بالراحة تغمره عندما أدرك أن الطارق ليس ضابطا ( من الجندرما ) بل كان شابا  بملآبس ريفية و كوفية بيضاء تغطي معظم رأسه ووجهه.

– أنا من طرف سعيد ! قال الشاب.

– سعيد ابني. 00 ما به ؟ ، سأل بصوت مرتعش  0

– هو بخير إطمئن 0 سأخبرك بكل شئ اذا أذنت لي بالدخول.

– أنت من رائحة ولدي تفضل يابني تفضل فالدار دارك0

و على نور الفانوس الشاحب المعلق في منتصف الدهليز برز وجه الزائر بعد أن كشف كوفيته و اذا به سعيد ابنه  … بلحمه و شحمه ،  فضمه طويلآ قبل أن  ينادي و لده الثاني خالد ذي الثلآثة عشر ربيعا.  صاح هذا مأخوذا بالمفاجأة : ” أخي سعيد ؟! ” و اندفع يحتضنه ، قال له والده اذهب و أخبر الحريم و لكن برفق فقد تذهب المفاجأة بعقل أمك أو قلبها.

و بين دموع الفرح و زغاريد البهجة  المكتومة قضت العائلة أحلى ساعتين من سويعات العمر  قبل أن يعلن سعيد أنه مضطر الى الذهاب.

– يابني. 00بنادقكم و خناجركم لن تخترق مدرعاتهم أو تقاوم مدافعهم ، قال أبو سعيد يائسا.

– أبتاه  لا تحاولنّ  تثبيط عزيمتي ، نحن أصحاب حق ؛  نحن نقاوم مغتصب.  أجابه سعيد متحمسا .

– أنتم قلة و هم كثر.

– وكم من فئة قليلية غلبت فئة كبيرة !

قالت أمه و هي تبكي  :

– لقد اعتقلوا والدك و أهانوه و لم يراعوا شيخوخته

– اتهم يعتقلون شعبنا بأسره فاعتقال أبي كان  في سجن صغير ضمن السجن الكبير .  رد عليه سعيد ، ثم إنزلق خارج المنزل و ما لبث أن اختفى

***********************

في نقطة التقاء  سوق البزورية بسوقي الحرير و الصاغة ،يقع قصر العظم الذي بناه أحد ولاة العثمانيين على أنقاض قصر معاوية بن أبي سفيان كما يزعم البعض ، كان هذا القصر قد جدد حديثا بعد أن تقرر أن يكون مقرا لاحتفال الافرنسيين  بذكرى الثورة الافرنسية في الرابع عشر من تموز0   فازدانت مداخل القصر و ردهاته بالأعلآم الأفرنسية و لافتات تمجد فرانسا و ثورتها ، التي نذرت على نفسها أن تنشر العدالة و المساواة و الحرية على الأرض في مشارقها و مغاربها (!)

هذا  و  قد بنيت سدة خاصة لكبار المدعويين فرشت بالسجاد العجمي المستعار – غصبا – من سوق الأروام ، و سلطت عليها الأضواء الكهربائية التي كانت حكرا على دوائر الحكومة و أثرياء المدينة ، أما باقي المدعويين فقد نضدت مقاعدهم  حول البحرة الكبيرة المتوسطة لصحن القصر الرئيسي .

أما في الخارج فقد غصت الساحة المجاورة للقصر بخليط من الجنود الأفارقة  ، و هم مرتزقة من المستعمرات الإفرنسية كالسنغال و مالي و تشاد و الغابون ، إضافة الى مصفحتين  و إلى  فرقة موسيقا عسكرية بملآبس أفرادها الزاهية ،  وقفت  الى جوار الباب مباشرة تصدح بالمارشات العسكرية الافرنسية المشهورة  بسرعة ايقاعاتها ، حيث أخذ الصبية المنجذبين اليها و الى الأنوار الكهربائية المبهرة ، و هم  من الأحياء المجاورة ، أخذوا  يصفقون و يرقصون  على أنغامها جذلا  ، و كلما كان الجنود الأفارقة يحاولون إبعادهم يعاودون الاقتراب بعناد و دون الالتفات الى لسعات الخيزرانات التي كانت تبدو شديدة الوطء أحيانا . و ثمت فرقة موسيقية أخرى كانت بجوار سذة كبار المدعووين ، كانت تشنف  آذانهم بضرب آخر من الألحان الخفيفة كاوبرا كارمن ، أو الراقصة بين قالس و فوكستروت .

كانت المقاعد فد امتلأت عن آخرها  ، العسكريون بملآبسهم المزينة بالنجوم الذهبية مزروعة على الأكتاف و أوسمة متناثرة على الصدور و خيوط ذهبية تزين عمراتهم المكعبة و الى جانبهم نساؤهم مرتديات فساتين الشارلستن ، و كان من بين الحاصرين عدد من المتعاونين مع سلطة الإنتداب الفرنسي من أبناء المدينة و منهم على سبيل المثال لا الحصر ، نور الدين بك شمسي باشا و زيور بك الباشكاتب   و مطانيس بك التنبكجي و جرجي بك مرقدة و ميشيل أفندي كرشه  و مهيب بك العابد  ( و كلها ألقاب من أيام العثمانيين لا زال أصحابها  متشبثين بها ) إضافة الى لفيف من المديرين وكبار الموظفين.

و ما أن سمع الحضور نشيد المارسلييز يصدح من بعد حتى هبوا حميعا  واقفين و عيونهم شاخصة نحو مدخل القصر ، و اذ أطل سعادته بوجهه الصارم و جبينه العابس و الى جانبه زوجته المترهلة تختال كالطاووس و من خلفه و حوله حاشيته و حراسه ، حتى التهبت الأكف بالتصفيق و الحناجر بالهتاف ( فيف لا فرانس Vive la France  ) أي  تحيى فرانسا ثم عزفت الاركسترا في الداخل ( المارسلييز ) ثانية  ثم  ابتدأ الندلة  بملآبسهم الفولكلورية ، الشروال و الصدّار و الطربوش الأحمر ، يوزعون  الشمبانيا و النبيذ النورمندي الفاخر و افتتح سعادة المندوب السامي الحفل بفالس ( السين المغامر ) متكرما إفتتاح الرقص ثم ابتدأ الآخرون يحذون حذوه زوجا بعد زوج .

و أمضى المحتفون بذكرى ثورة الحرية و  العدالة و المساواة الهزيع الأول بين رقص و غناء و تبادل الأنخاب و المسامرة ثم أعلن عريف الحفل عن تفضل سعادته بالقاء كلمة  بهذه المناسبة الغرّاء !

قال سعادته :” نحن أتينا هنا للأخذ بيد هذا الشعب الذي امتص العثمانيون دماء أبنائه و تركوه معدما يعصف به المرض و الجهل و الفقر “.

علق سعيد هامسا لصديقه رمزي من مخبئهما فوق أحد أسطح القصر : ” عندما دخل الجنرال غورو دمشق- منذ أربع سنوات –  أنذر السكان بضروروة تسليم ما يملكون من ذهب ، لقد جاؤوا من أجل هذا يا صاحبي !” ثم أتم سعادته : ” لقد فوجئنا بأن مدينة دمشق لا تملك غير مدرسة ثانوية واحدة و كليتين جامعيتين فقط احداهما عسكرية ! ”

علق سعيد :” مكتب عنبر مغلق منذ بداية الثورة ، كلية الحقوق ملؤوها بالجواسيس و اعتقل معظم طلآبها ، المدرسة الحربية حولوها الى معسكر ، و لم يبق في الميدان غير مدرسة الفرير و العازارية و اللاييك و كلها تدرس أبناءنا بالفرنسية  ! ”

” لقد فوجئنا أيضا بأن دمشق لا تملك غير مصرف واحد ضعيف فأنشأنا بنك سورية و  لبنان  مدعوما  بالفرنك  الفرتسي  لخدمة  تجارة  البلدين  و تنميتهما إقتصاديا و إجتماعيا .” أضاف سعادنه ؛ فعلق سعيد : “لقد جعلوا قيمة الليرة الذهبية خمس ليرات سورية ورقية من اجل ابتزاز المزيد من الأصفر الرنان لصالح خزينتهم في باريز ”

و أضاف سعادته أيضا : ” و لقد فوجئنا أيضا بعدم و جود نظام متحضر للبلديات فقمنا بتطوير بلديتكم  و دعمناها بالأموال اللآزمة و الموظفين الأكفاء .”علق سعيد : ” لقد وحدّوا  ميزانيتي بيروت و دمشق و جعلوا نسبة 85% لصالح بلدية بيروت أما الموظفون الأكفاء فمعظمهم إفرنسيون  !”

واستمر سعادته يتثر الدرر فأضاف قائلآ : ” و على الرغم من كل ما تقدمه فرنسا  من أجل تقدم سوريه  و إدخالها الى نادي المعاصرة و التحضر فهناك من يتمرد هنا أو هناك ، الا أن الجيش الإفرنسي ، المنتصر دائما و أبدا ، يتصدى لهم جميعا بحيث تجري ابادتهم أو تقديمهم الى العدالة .” و هنا تغير تعليق سعيد فتحول إلى رصاصة أطلقها باتجاه سعادنه فأخطأته للأسف و أصابت مرافقه  ثم انهال الرصاص على الحضور من كل صوب .

دب الفزع و الفوضى في أركان القصر إلا  أن كبار الضباط أحاطوا بسعادته و استطاعوا إخراجه من القصر إلى احدى المصفحات التي ذهبت به الى مقر القيادة في بوابة الصالحية مباشرة ، بينما  أصيب الكثيرون من المحتفين بذكرى الثورة الافرنسية ،  ثم إستطاع الثوار  إحتلآل القصر و المناطق المجاورة ، قبل أن يتمكن  الكثيرون  من المحتفلين  من اجلآء نسائهم الا أن الثوار أبوا أن يحتفظوا بهن كرهائن فتم   ترحيلهن .

و اذ طاب النصر لسعيد و رفاقه الثوار  فإنه  لم يطب لسعادة المندوب السامي الذي قرر أن يقود حملة الانتقام بنفسه ، فقد أنزل المصفحات السريعة و الدبابات و ما يملك من جنود و ترسانة ، جنود من مختلف الأقوام المنضوية تحت جناح فرنسا الإستعماري  ،فاضافة الى الأفارقة كان هناك مراكشيون و جزائريون و بربر ؛ و كان هناك أيضا بدوا  قرر شيخ عشيرتهم التعاون مع الفاتحين منذ ميسلون ، و كان شباب عشيرته نواة فرقة الهجانة ، و ابتدؤوا جميعا منذ خيوط الفجر الاولى بمحاصرة حي سيدي عمود  و البزورية و مأذنة  الشحم و أحاطوا بها جميعا من جميع الجوانب  أما الفتحات المطلة على الدرويشية و أسواق الحميدية و مدحت باشا و البزورية و سوق الحرير فقد سدت جميعها بأكياس الرمل و الأسلآك الشائكة ،و اتخذ الجنود مواقعهم القتالية و راء الإستحكامات  و المصفحات، استعدادا  لإشارة الهجوم ؛ أما المدافع بعيدة المدى المنصوبة على قبة السيار و جبل الدف المقابل و تلآل المزة فقد جهزت  للإطلاق ، أما الأخرى متوسطة المدى و الهاونات  المنتشرة قي البرامكة و شارع النصر فقد جهزت بدورها أيضا .

و في تمام الساعة السادسة صباحا سقطت أول قذيفة فهدمت منزل آل العيطة، و قتلت من فيه بمن فيهم رضيعة حديثة الولادة ، و أخذت النار تشتعل و تنتشر سريعا فبيوت دمشق القديمة بنيت كلها من الخشب الملبس بالطين .

ثم ما لبثت القذائف أن توالت فهب الناس من مراقدهم مذعورين و أخذت النسوة  يتصايحن  و يخرجن إلى الحارات حاسرات الرؤوس حافيات الأقدام  و اتجهوا جميعا صغارا و كبارا يطلبون النجاة على غير هدى ، نحو  مخارج الحي ليجابههم جنود ( الحرية و العدالة و المساواة ) بالرصاص و القذائف، فيعودون لتفتك بهم القنابل و حصار النار  ، كانت القذائف تتساقط بمعدل أربع قذائف كل دقيقة  كان  جحيما  حقيقيا  و  مذبحة جماعية قل أن يشاهد التاريخ مثيلآ لها ؛ و من لم يسقط برصاص الجنود أو شظايا القذائف التهمته النار أو حاصره الحطام أو داسته الأقدام .

رفض أبو سعيد مغادرة المنزل بداية و لكن النار التي ابتدأت تلتهم جدار البيت المجاور  اضطرته لأن يغادر مع أفراد عائلته ، توجهت العائلة أولا نحو الدرويشية ، و لما بلغوا الفتحة المقابلة لحمام الملكة انهار عليهم الرصاص  فعادوا القهقرى ، فتوجهوا نحو حارة البيمارستان  ،و إذ اقتربوا من العصرونية انهال عليهم الرصاص مجددا  ، فأصيبت عائشة ، فاندفعت أم سعيد نحو استحكامات الجنود صائحة : “حرام عليكم ألستم مثلنا مسلمون ؟؟” كانت االإجابة واضحة و مقتضبة ، تسع رصاصات أردتها للحال مضرجة بدمائها ، حاول خالد الاقتراب من أمه فمنعته صلية رشاش ، فعاد  مصعوقا  ،فحمل عائشة و عاد مع شقيقته الثانية و أبيه المكلوم  في اتجاه منزلهم ؛ و لكن قذيفة سقطت الى جوارهم جعلت أنقاض بيوت  مجاورة محترقة  تتساقط عليهم .

كانت الحرائق تشتعل في كل  مكان و القذائف تصفر ثم تفرقع مختلطة بعويل النساء و الأطفال و  إستغاثات الجرحى .

أما سعادة المندوب السامي فقد عاد قبل قليل الى دار الانتداب في حي العفيف ، فوقف على الشرفة المطلة على المدينة  عن بعد ؛ و أخذ يتشفى بمشاهدة حريق حي سيدي عمود بأهله و لعله  كان في تلك اللحظة يتصور نفسه نيرون و لكن بلآ قيثارة ؟!

ثم  بدأت إفرازات الكيمانسانيا ، و فود  نعقبها و فود ، مختارو الأحياء ، رجال الدين مسلمين و مسيحيين ، و جهاء المدينة ، الأصدقاء  المتعاونون ؛ جاؤوا جميعا مهنئين سعادته بنجاته من محاولة الإغتيال ،طالبين الصفح و الغفران  و  وقف المجزرة ، و تعهدوا بأنهم لن يقدموا للثوار أي دعم و لن يسمحوا لهم بالعودة إلى المدينة ثانية .

و ابتدأ القصف يخف بالتدريج و ما لبث أن انقطع مع غياب الشمس ، الا ألسنة النار ظلت تداعب سحب الدخان الفاحمة  ، و  فرقة الإطفاء البتيمة و  المحدودة الطاقة عدا و عدة ، إضافة إلى عشرات المتطوعين  ؛  عجزوا جميعا عن إخماد الحرائق التي استمرت بضعة أيام أخر .

بعد ستة أشهر و نيف  إستطاع سعيد أن يتسلل  بين أنقاض الحي و أن يقف حزينا أمام قوس الليوان المتبقي من بيته ، تساقطت بضع دمعات حارة رغما عنه ، لم تكن حزنا على رسم من بانوا  ، بل لوعة على من بانوا ، فقد علم أن جميع أفراد عائلته مع ما يزيد عن سبعة آلاف آخرين من جميع المقاسات الإنسانية قد ذهبوا جميعا ضحية مذبحة حي سيدي عمود  .

——————

*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب