قصة واقعية
نزار ب. الزين*
كانت جهان و طفلتها ذات السابعة من العمر ، قد فرغت لتوها من وضع حقيبتها الصغيرة على الرف الذي ما لبثت أن أغلقت بابه ، ثم أجلست صغيرتها ، وهمت بالجلوس عندما ، لمحت سيدة في العشرينيات دامعة العينين ، جالسة على المقعد المجاور للنافذة .
حيتها و لكنها لم ترد التحية ، فتركتها لشأنها و بدأت من ثم ترد على استفسارات صغيرتها .
” متى ستقلع الطائرة يا ماما ،
و متى سنصل إلى لوس أنجلس يا ماما ، و هل سيكون بابا في انتظارنا يا ماما ” .
تسمع جهان نشيج جارتها ، فتسألها باهتمام :
– إنه ألم الفراق ، أليس كذلك ؟
كتمت السيدة نشيجها ، و مسحت دموعها بمنديل تحمله ، ثم أشاحت بوجهها دون أن تنبث ببنت شفة .
تحركت الطائرة
صوت نسائي رخيم يطلب من الركاب ربط أحزمتهم ، فقامت جهان بتثبيت حزام ابنتها ، ثم حزامها ، ثم اختلست نظرة نحو جارتها فلاحظت أنها لم تفعل ؛ فنبهتها إلى ذلك متجاهلة تحفظها ، إلا أن السيدة لم تأبه بها و ظلت على صمتها ، و لكن هاهي تثبته أخيرا بعد أن نبهتها المضيفة إلى ضرورة ذلك .
*****
نامت الصغيرة و ما لبثت أمها أن تبعتها ، أما نوال ، فظلت تستعرض شريط الذكريات : ” الجاهة المكونة من عشرة رجال أو يزيد ، هم أقارب العريس و وجهاء جيّه ،
الكلمات الحلوة التي رددها عمُّها والد العريس ،
عُمَر الشاب الذي حضر من المهجر خصيصا لخطبتها و الذي سيكون زوجها ، يظل مطرقاً رأسه خجلا كل الوقت ، كانت تشاهد كل ذلك من وراء ستار يفصل غرفة الضيوف عن المطبخ ، بينما كان قلبها الصغير يخفق و يخفق ، إثارة و فرحا يشوبهما بعض القلق ، فلسوف تنتقل قريبا إلى أحضان إنسان لا تعرفه و الذي سيقتلعها من أسرتها الحانية إلى المجهول ! ”
سمعت الصغيرة تنادي ، ماما ماما ، فخاطبتها نوال هامسة :
– هس ، الماما نايمة يا حلوة ، حرام لا توقظيها ، تعال إليَّ لأريك الدنيا من تحتنا .
تحركت الطفلة ببراءة و جلست على حضن نوال و كأنها تعرفها من سنين ، ثم تركتها تتفرج على المتغيرات المتتالية من تحتها ، ثم مالبثت الطفلة أن بدأت تطرح الأسئلة ، عن الطيران و الطيور و الغيوم و تشكيلاتها الغريبة و البحر و السماء …
فتحت جهان عينيها ، فتملكتها الدهشة عندما شاهدت ابنتها في حضن نوال ، فابتسمت لها ثم قالت لها معتذرة :
– لقد سرقني النوم ، و أرجو ألا تكون سحر قد ضايقتك ..
– أبداً و الله ، ابنتك لطيفة جدا و ودودة جدا ، ابنتي سها في عمرها ! …
– لِمَ هي ليست معك ؟
– منحوني تأشيرة الزيارة شريطة أن أتركها عند أهلي كضمان لعودتي ..
ثم أشاحت بوجهها من جديد ..
استغربت جهان استمرار تحفظها ، فسحبت ابنتها إلى مكانها في انتظار الوجبة التي بدأت المضيفات توزيعها .
كانت نوال قد عادت إلى بكائها الصامت ، بينما بدأ شريط الذكريات يدور في مخيلتها من جديد : ” سها ملتصقة بها ، فقد شعرت بألم الفراق قبل الفراق ، ثم يأتي يوم الفراق ، تبتعد نوال عنها في خطى متثاقلة في طريقها إلى الطائرة ، تصرخ سها : ماما … ماما خذيني معك .. يا ماما ، صوتها يرن صداه فتتجاوب له جدران القاعة .. صوتها لا يزال يرن في أذنيها … ماما … ماما .. ماما ..ماما ! ألا ما أشقها لحظة الفراق ! و لكنه مصيري و مصيرك يا يا سها ، سامحيني .. يا بنية ! ”
تعود جهان للتحرش بها :
– إفتحي الحمّالة ، فالوجبة قادمة وشيكا ..
– أشكرك ( ما لي نفس ) !
– كُلي قدر استطاعتك فالرحلة طويلة يا أختي .
تستجيب نوال ، فتزدرد بضع لقيمات ثم تعود إلى شريط الذكريات :
” ظروف عمله تضطره للعودة إلى أمريكا في أقرب وقت …. ظروف عمله تضطره للعودة إلى أمريكا في أقرب وقت ..ظروف عمله .. ظروف عمله .. ظروف عمله .. ظروف عمله …يكررونها ، كرروها عشرات المرات ، إنهم يسابقون الزمن……جهاز العروس ، شبكة العروس ، مصاغ العروس ، الدعوات و توزيعها من أجل زفاف العروس ، كل شيء يجب أن يتم خلال أسبوع .. خلال أسبوع .. خلال أسبوع ، .. ظروف عمله … خلال أسبوع ، .. ظروف عمله ……. و ينتهي الأسبوع ، و تسهر العائلتان حتى الفجر ، يزفونها إلى غرفتها في الفندق ثم …. يتركونها مع عمر ! …..
يقوم عمر بواجبه كعريس ، ثم يدير ظهره و يستسلم للنوم .. لم تسمع منه عبارة حلوة .. لم تحظ منه على قبلة واحدة …لم يكرمها بابتسامة.. قام بواجبه – كأنه يقضي حاجة – ثم استسلم للنوم ”
أدركت جهان أن نوال تعيش مأساة ما ، و أنها تركت ابنتها مرغمة ، دموعها لم تجف طوال الرحلة ، إلا أنها و خلال السويعات الأخيرة من الرحلة كشفت عن جانب من همومها ، فقالت :
– قبل ثماني سنوات تزوجني عمر و عاشرني معاشرة الأزواج لدقائق كانت كافية لأن أحمل منه ابنتي سها .. ثم مضى إلى غير رجعة .
كنت و أهلي نأمل أن يطلبني إلى جواره خلال شهور قليلة – كما أكد – بانتظار الإجراءات القانونية ، إلا أن هذه الإجراءات طالت إلى سنوات ثماني ……”
ثم أضافت :
– وأخذ من ثم يقدم الحجة تلو الحجة : ” الإجراءات تعقدت ، قوانين جديدة للهجرة تعرقلها ، الملف ضاع ، و يجب تقديم الطلب لملف جديد ، بدأت و أخوتي مشروع عمل جديد يستنفذ كل وقتنا ، لا وقت لدينا لمتابعة الإجراءات . و إلى ما لا نهاية من الحجج و الأكاذيب كان يسوقها لأهلي و لأهله ” .
ثم حدثتها عن لهفة ابنتها للتعرف على والدها : ” كانت تلح عليَّ كل يوم بتساؤلاتها ، متى سأرى أبي يا أمي ، هل سيحبني كما يحب الآباء أولادهم ؟ هل سيحملني بين ذراعيه ؟ كما يحملني جدّاي ،هل سيصحبني إلى الملاهي كما يفعل آباء صديقاتي ؟ ” .
و أضافت نوال بصوت حزين :
” كانت تكبر و تكبر معها تساؤلاتها و أحزانها ، كما كانت العائلتان ، أهله و أهلي تشاركاننا همينا .
همي بزواج موقوف ، و هم ابنتي بأبوة موقوفة! ”
*****
و عندما أعلن قبطان الطائرة أنه يستعد للهبوط ، كانت كل منهما تشعر أن الأخرى أصبحت صديقتها ، فاتفقنا على التزاور في أقرب فرصة. ثم كان الوداع .
*****
بعد ثلاثة أشهر
رن الهاتف عند جهان
كانت نوال
– أين أنت يا نوال ، كل هذه المدة
ظننتك نسيتيني
تساءلت جهان ملهوفة ، فأجابتها نوال :
– أبدا و الله ، ، فللأسف الشديد أضعت رقم هاتفك ، و اليوم فقط عثرت عليه صدفة !
لقد جرت أمور كثيرة ، خلال هذه الفترة يصعب شرحها لك على الهاتف يا جهان..
ثم اتفقتا على اللقاء في أحد الأسواق المغطاة ..
و في اليوم التالي ، و ما أن فرغتا من التحية عناقا و قبلاً ، حتى اندفعت نوال تحكي لصديقتها عن كل معاناتها خلال تلك المدة ؛ قالت بصوتها الحزين :
” بعد أن تركتك بين يدي رجال الجمارك ،فوجئت بزوج متجهم يستقبلني بجفاء يرافقه شقيقاه و كانا أكثر تجهما ، و كأن كارثة حلت بهم جميعا ، و ليست زوجة تجشمت عناء السفر للقاء زوجها بعد سنوات من الإنتظار المرير ! ”
و أضافت نوال بعد فترة صمت و دموع :
” و بدأت من ثم تتكشف الحقائق ، واحدة بعد أخرى ، رغم جميع محاولات التكتم ؛ فلدى زوجي الخائن إمرأة أخرى ، لا أدري إن كانت زوجة أم عشيقة على الطريقة الأمريكية ، و أن له منها طفلان ، و هي قريبة لزوجَتَي أو عشيقتي أخويه ، و أنهم يسكنون معا في منزل واحد و يأكلون من طبق واحد ، و أنه – أي عمر – تعمد إرسال زوجته أو عشيقته لزيارة أهلها عندما علم بقدومي ، و لكنها ما أن عادت حتى طردني مما كنت أظنه غرفتي ، لأنام في غرفة الجلوس فوق أحد المقاعد كخادمة .
كنت.كلما حاولت مناقشته حول وضعنا الشاذ هذا ، يتوتر و يتشنج و يصيح بي ، و بكل قحة : (( أنا لم أطلب حضورك ، أهلي أرغموني على استقبالك ، أنا لست مسؤولا عنك فأهلي هم الذين اختاروك ، فليتحملوا – هم – النتائج !))
ثم يضيف بقحة أكبر :
(( أنا ما أحببتك قط منذ البداية ، و لكنني لم أشأ أن أخذل والديَّ كسبا لرضائهما)) .
و كان في منتهى القسوة و الوحشية عندما أضاف : ((أنا لا أعترف أن لي بنتا منك ، فقد نمت معك ليلة واحدة ، فما يدريني إن كانت سها ابنتي أم ابنة غيري ؟؟!!! ))
” كلمات كلها تجريح و إهانة ، جعلتني أفكر منذ الساعات الأولى بالعودة إلى أهلي و ابنتي ، لولا حملي من جديد ، فعلى الرغم من جميع هذه الكراهية و اللامسؤولية ، فقد عاشرني عمر مرارا معاشرة الأزواج فحملت منه ثانية . ”
” ناشدته أن يطلقني و أن يشتري لي تذكرة العودة ، و أن يشفق على ابنتنا فيخصص لها نفقة تمكنها من العيش بكرامة ، و أنني لا أطالبه بأكثر من ذلك فأخذ يسوفني و يماطلني ، و حتى اللحظة لا زال يماطلني . ”
ثم أضافت دون أن تتمكن من كبت نشيجها : ” إنني أشعر بالضياع يا جهان ، و لا أعلم لمن أشكو أمري فينصفني ، إني أشعر بالشلل التام يسري في عروقي يا جهان ، فحتى أهلي يمنعونني من الإتصال بهم . ”
*****
تأثرت جهان بقصة صديقتها نوال ، ثم حكت لزوجها ما سمعته منها فتأثر بدوره ، ثم دبت في نفسه الحمية ، فسهر تلك الليلة يسطر مقالا يشرح فيه مأساة نوال و أمثالها من الفتيات المخدوعات بالحلم الأمريكي ، و بشبان آخر زمان المتأمركين منهم و غير المتأمركين .
و في أقل من أسبوع ظهر المقال في صحيفة تصدر باللغة العربية ، مع تعليق ناري ، لرئيس التحرير ، أبدى فيه استعداده لمعاونة نوال في رفع مشكلتها إلى القضاء !!
*****
و تحت وطأة الخوف من قانون لا يرحم مخالفيه ، قدموا ا لها – صاغرين – كل ما أرادته
——————
سوري مغترب