قصة واقعية

 نزار ب. الزين*

في الرابعة عشر كان عمره

وحيد أهله بعد أربع بنات

في موسم المدرسة يدرس ، و في موسم الصيف يعمل

كحال معظم الغلمان في قريته الصغيرة محدودة الدخل كان

فعلى طول ضفتي النهر أنشأ أهل القرية المطاعم

و منذ أواخر الربيع و حتى أوائل الخريف  تزدحم  بروادها من ذوي الدخل المتوسط من سكان المدينة ، و تزدحم أكثر و أكثر أيام الجمعة ..

يتوافدون بمختلف وسائل النقل ، بعضهم في قطار النزهة ، بعضهم بحافلات الباص الكبيرة أو الصغيرة ، و بعضهم بسيارات الأجرة ، و الأيسر حالاً بسياراتهم  الخاصة .

مهنة عبد الرحمن في الصيف ، ترتيب مواقف المتنزهين و غسيل سيارات من يرغب منهم .

كان عبد الرحمن يوفر بمكسبه الجيد  لشراء اللوازم المدرسية  و الملابس ، و يسلم والده ما يفيض .

شعلة من النشاط و الذكاء  ، و شخصية قيادية ، إذ سرعانما تزعم رفاقه العاملين في نفس المجال ، فكان  يوزع  العمل بينه و بينهم بالعدل و القسطاط  مقابل حصة بسيطة …

*****

و في يوم ازدحمت فيه القرية و تكدس في مطاعمها المائات  ،  اشتد الضغط على عبد الرحمن و رفاقه ؛

في ذلك اليوم المشؤوم وقعت الحادثة .

فبينما كان عائدا من النهر بدلوين ملأهما من مائه ، إذا بسيارة  أجرة تدهسه ، فارتمى على الأرض فاقد الوعي ..

استغل قائد السيارة تجمع الناس حول المصاب محاولين إسعافه ، فلاذ بالفرار ..

أصيب رفاقه باضطراب و ارتباك  كبيرين

تمر شاحنة أبو محمود الصغيرة ذات العجلات الثلاث

يوقفونها

يلقون عبد الرحمن فيها  كما لو أنهم يلقون شوال بطاطا

يصحو ..

يتأوه ..

(كسر في عظمة فخذه بدأ ينهش العضلة المجاورة )

يصرخ ..

صاح صائح :

– خذه يا أبو محمود إلى المشفى

= شاحنتي بطيئة  يا جماعة و ممنوع عليَّ أن أدخل بها إلى المدينة.

صاح آخر :

– دبر راسك يا أبو محمود ، إذا سألك أحد قل له أن معك حالة إسعاف

صاح ثالث :

– فليرافقه أحد

و بلمح البصر صعد  أبو فياض إلى جانب السائق ، و أبو علي  إلى جانب المصاب .

تحركت الشاحنة الصغيرة ببطء ،

صعدت إلى الطريق العام بصعوبة

عبد الرحمن يصيح متألما مع كل هزة

( ضلع من قفصه الصدري بدأ ينبثق خارج الجلد )

يهدئه أبو علي ..

يصرخ أبو علي قارعا على نافذة السائق الخلفية :

إنه ينزف بغزارة ، أسرع أكثر يا أبو محمود ..

و أبو محمود يتجاهله ، فهذا أقصى ما يمكنه من سرعة .

*****

في قرية مجاورة لمح أبو محمود سيارة أجرة واقفة

توقف بدوره

هُرع نحوها

خاطب السائق

أقنعه و رفيقاه بضرورة إسعاف المصاب

رضي على مضض

حملوه كما

كما لو أنهم يحملون شوال بطاطا

المصاب يصرخ

أدخلوه إلى السيارة بصعوبة

إزداد صياحه

تحشرج صوته

اصفر وجهه

( ضلع أخر من قفصه الصدري بدأ يحفر رئته اليمنى )

أغمي عليه ثانية

انطلقت سيارة الأجرة به  بأقصى سرعة

وضع السائق يده على البوق فأخذ يعوي محاكيا سيارة الإسعاف

 

*****

عند مفترق الطرق أوقفته دورية شرطة المرور

– إعطِنا أوراقك ، تجاوزت  السرعة  المقررة ، و  أزعجت  المارة  بصوت     ( زمورك )

– معي حالة إسعاف يا أخوان

= هات أوراقك ( بلا كتر حكي )

– المصاب في حالة خطرة يا أخوان

= هات أوراقك في الحال و إلا ….

يتدخل أبو فياض :

– يا إخوان المصاب بحاجة لإسعاف فوري ، إنه ينزف  ، بدأ  الدم  يخرج من فمه.

يسأله شرطي :

= لماذا لم تطلبوا سيارة إسعاف ؟

هز أبو فياض رأسه و قد ارتسمت على شفتيه إبتسامة ساخرة :

– في الأسبوع الماضي طلبنا سيارة الإسعاف لأم رضا جارتنا  بعد أن وقعت من أعلى درجات السلم فتكسرت عظامها ؛ وصلت سيارة الاسعاف بعد ساعة من وفاتها !!!

يتقدم  قائد الدورية  من السائق سائلا :

= لعلك أنت من  دهسه ؟

أنت موقوف  حتى استكمال التحقيق !

– انا  لم  أدهس  أحدا  يا  بك ،

أنا إنما اقوم بعمل خير لإنقاذ هذا المسكين .

يصيح أبو علي من الخلف :

– الدماء غطت كل ملابسه

وجهه أصبح أبيضا

إنه يرتعش إنه ينازع

الرحمة يا أخوان

*****

يتقدم أبو محمود من قائد الدورية

يهمس بأذنه

يضع شيئا ما في جيبه

يبتسم الشرطي العريف

يسمح له بالانطلاق

*****

ها هو ذا المشفى

يزفر أبو فياض بارتياح

تتوقف السيارة عند بابه الرئيسي

يحملونه  كما لو أنهم يحملون شوال بطاطا

يصحو من غيبوبته

يصرخ متألما

( ضلع ثالث من قفصه الصدري بدأ يذبح قلبه )

يزداد صياحه مع كل حركة

يدخلون به إلى فسحة الاستقبال

تصيح مسؤولة الاستقبال :

– ما ذا تفعلون ؟؟

من أنتم ؟

ماذا تحملون ؟؟

من أرسلكم  إلينا ؟

يجيبها السائق و هو يلهث :

= دهسته سيارة

إنه ينزف

لا وقت للكلام  يا أختي ..

أسعفوه-  الله يرحم أمواتكم –

تجيبه باستكبار :

– هذا مشفى خاص يا أخ !

= و هذه حالة إسعاف خاصة يا أخت ، يجيبها أبو علي منفعلا ..

تصيح في وجهه :

– ( بلا كتر حكي ) يا سيد

ليس لدينا  هنا  قسم إسعاف !!

نحن لا نستقبل حالات الإسعاف !!!

يشتد الجدال ، تعلو الأصوات ، يخرج لهم مدير المشفى

يهرعون إليه مستنجدين

يجيبهم و قد قطب جبينه و لوى فمه :

قالت  لكم  الست ، ليس لدينا قسم إسعاف ، خذوه إلى المشفى الحكومي !

يصيح في وجهه أبو فياض  :

الشاب يكاد يموت بين أيدينا و تقول خذوه إلى المشفى الحكومي ؟

أنت إنسان أنت ؟

أنت ملاك رحمة أنت ؟!

إن مات عبد الرحمن الخضرا ، ستحمل أنت و موظفتك ( الكركمة ) هذه ، وزره إلى يوم الدين !

و يعقب أبو فياض :

هذا مشفى أم إسطبل ؟!

*****

يحملونه من جديد كما لو أنهم يحملون شوال بطاطا

يفيق من إغمائه للمرة العاشرة

يصيح متألما مع كل حركة ثم مع كل هزة سيارة

( عظامه المكسورة تنهش بلحمه و أعصابه )

يصلون إلى المشفى الحكومي

يفحصه الطبيب المناوب

يلتفت نحوهم قائلا :

– وصلتم متأخرين يا أخوان !

——————

*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب