قصة
نزار ب. الزين*
خميس ( و هذا هو إسمه ) شاب في مقتبل العمر ، و لكنه قصير جدا حتى لقبه رفاقه بالقزم .
إضطر لترك المدرسة مبكرا و الإتحاق مع مجموعة من الشبان للعمل داخل الخط الأخضر ، و رغم نشاطه الجم و قوته العضلية فقد ظل موضع سخرية زملائه للسبب نفسه .
في البداية كان يغضب و يصرخ محتجا و يتشاجر و أحيانا يتعارك ، و لكن الآخرين كانوا يمعنون في إيذائه ، فيصفعونه على قفاه تارة ، أو يعرقلون سيره بأرجلهم فيقع أرضا ، كلهم بلا إستثناء ما فتئوا يفعلون ذلك ، فقط لأنه قميء .
فكر كثيرا أن يترك العمل برفقة هؤلاء العدوانيين ‘ ليبحث فيما بعد عن عمل آخر ، و لكن أهله بحاجة لشيكلاته القليلية ، فالوالد مقعد و طريح الفراش لإصابته بالشلل الدماغي منذ أكثر من سنة ، و الوالدة تشكو من آلام (الروماتزم) المضنية و محتاجة إلى ثلاثة أنواع من الدواء غالي الثمن ، و إخوته لا زالوا في المدارس يحتاجون إلى مصاريف مستمرة ؛ و أمام هذه الحقائق الفجة ، كان يسكت على مضض و يصبر على مرارة ؛ و لكن حين كان يأوي إلى فراشه كان يبكي بصمت .
و ذات يوم …
و في معبر حدودي بين بلدته و داخل الخط الأخضر ..
و بعد إنتهاء التفتيش الدقيق الذي استغرق ما يزيد على الساعة ..
و بينما كان يهم بإعتلاء الشاحنة التي ستقله مع زملائه نحو ورشة العمل ، عرقله أحدهم ، فاختل توازنه و ارتطم رأسه بمؤخرة الشاحنة ، و على الفور إنبثق الدم من أنفه و جبينه ، ثم نهض مترنحا و هو يشتمهم جميعاً بأقذع ما تعلمه لسانه من قاموس الشتائم المتضخم ، بينما كانوا يتضاحكون لمنظره الطريف (!)…
و لكنه استمر ينزف ، مما لفت نظر أحد جنود حرس الحدود ، الذي أشفق عليه فاستدعى سيارة نجمة داود الحمراء التي أقلته بسرعة نحو أقرب مستشفى .
و بعناية فائقة أدهشته ، أوقفوا نزفه ثم ضمدوا جراحه …
و لدهشته أيضا حضر محقق من الشرطة !
و أخذ يطرح عليه الأسئلة : من ضربه ؟ ، من دفعه ؟ من بدأ الشجار ؟ هل أسبابه سياسية ، هل ينتمون لمنظمات إرهابية ؟؟؟
إلا أن خميس أكد للمحقق أن الأمر مجرد مزاح و أنه إعتاد على ذلك ، منكراً معرفته بمن تسبب بجراحه ..
و كان من حين لآخر يوجه إليه اللوم لأنه لم يرفع أمر أيٍ منهم إلى الشرطة أو إلى القضاء …
ثم فاجأه أكثر و أكثر عندما أخبره أن جميع من كانوا برفقته رهن الإعتقال و التحقيق ..
و بعد أن كتب المحقق تقريره ، طلب منه التوقيع عليه ثم مضى ..
*****
” متى سأخرج من المستشفى ؟ ” سأل خميس ممرضة وردية الليل ، فأجابته : ” ربما غدا ! ”
ثم جاء الغد ، و لكنهم لم يسرحوه …
أجروا له فحصا شعاعيا .. ثم مسحا مغناطيسيا ..ثم ثم راقبوه بعد أن تناول طعامه للتأكد من عدم تعرضه لإرتجاج المخ ..و أجروا له تحاليل مخبرية …و عندما طلب الإتصال بأهله سمحوا له بذلك ..
معاملة طيبة للغاية لم يكن يتوقها البتة من عدو !
*****
في اليوم التالي ، نقلوه فوق كرسي متحرك إلى غرفة في الطابق العلوي ؛
غرفة خالية إلا من طاولة واحدة و كرسي واحد ، مكث فيها مدة طويلة و هو في أشد حالات الضيق ، تتقاذفه الأفكار : ” أسعفوني ، تأكدوا أن إصابتي ليست خطيرة ، أكرموني ، أطعموني مما لم أذق مثله في حياتي من فاخر الطعام ، حققوا معي بكل لطف و كياسة ، و ها انا قد استرديت عافيتي فماذا يريدون مني بعد ؟ ”
و إذ هم بأن يصرخ طالبا تسريحه ، إذا بالباب يفتح فيدخل منه رجل في الأربعينيات إرتدى معطفا أبيضا و رسم على شفتيه إبتسامة عريضة ، ثم حياه بحرارة معرفا بنفسه : ” أنا الدكتور سيرجي غوزالسكي من هيئة المستشفى ، جئت خصيصا للإطمئنان عليك و الدردشة معك ..مستر خميس !”
<< مستر خميس أنا ؟ >> تساءل في سره ؛ و في غمرة دهشته من هذه المعاملة التي لم يتوقعها إطلاقا ، و هذا الإحترام الذي لم يلقَ مثله طيلة حياته ، و الذي تساوى فيه جميع من احتكوا به منذ صعوده إلى سيارة الإسعاف ، فوسّع خميس حدقتا عينيه و فتح أذنيه جيدا مصغيا و مركزا على كل كلمة ينطق بها الدكتور سيرجي :
– علمت من مجريات التحقيق ، أن زملاءك اعتادوا على إيذائك ، فما هو مبررهم برأيك ؟ ..
= أبدا ، إنهم يمازحونني ، و لكن مزاحهم يصبح ثقيلا أحيانا ..كما حصل بالأمس …
– هذا إضهاد يرقى إلى مرتبة الإضطهاد العنصري ، نعم … إن معاداة الآخر أمر شائع في الشرق الأوسط ، قد يكون الآخر من دين مختلف أو طائفة أخرى ، أو عرق مغاير ، أو من حزب معارض ، أو حتى من مختلف شكلا مثلك ، و هذا برأيي ظلم فادح لا بد أنك عانيت منه الكثير يا مستر خميس …..
و استمرت الجلسة ساعات ؛ و قد تمكن الدكتور سيرجي خلالها التعرف على كافة ظروفه و معاناته مذ كان في المدرسة الإبتدائية ، ثم من التعرف على ظروفه العائلية و مدى ما تكابده أسرته من فاقة و عوز …
و قد دفع اسلوب الدكتور سرجي الودي ، دفع خميس إلى مبادلته الحديث بدون تحفظ .
و إذ حان موعد تناول العشاء إستأذن الدكتور سيرجي منصرفا ، بينما أعادوا خميس إلى غرفته في الطابق الأرضي .
*****
منذ صباح اليوم التالي قدمت إلى المستشفى والدته و إحدى شقيقاته ، سمحوا لهما بإجتياز المعبر الفاصل بين بلدتهما و داخل الخط الأخضر ، ثم التوجه إلى المستشفى دون أية مضايقات ، و ما أن انتهت زيارتهما ، حتى نقلوه فوق كرسي متحرك إلى الغرفة إياها في الطابق العلوي ..
دخل الدكتور سيرجي ثانية و استمر معه ساعة أو تزيد …تمكن خلالها من إقناعه بأن شعبه يحب السلام و يريد السلام و لكن المتطرفين و الإرهابيين من أمثال زملائه في العمل ، لا يرغبون به ، و أنه لولا التطرف و الإرهاب لما جرت كل هذه الحروب و الصدامات بين الشعبين ..
*****
مستغلين عدم نظافة جرحه و ارتفاع حرارته – كما أدعوا – أبقوه في المستشفى ، ليتوالى على مقابلته نساء و رجال ، هذا يدعي أنه طبيب و تلك تؤكد أنها من دائرة العمل الإجتماعي و ثالثة تتصنع أنها صحافية و رابع يدعي أنه من جماعة الحقوق المدنية ، ثم صارحه آخر الزوار ، أنه سيجنده لمحاربة التطرف و الأرهاب ، و أنه إن فعل سيكون بطل سلام ، و سيكون أعلى شأنا من جميع من إضطهدوه طيلة حياته..
ثم
بدأت الإغراءات المالية ، راتب شهري كبير ، و مبلغ مالي أكبر بعد كل عملية ناجحة توضع في البنك لحسابه في أحد المصارف السويسرية ..
ثم
جاءه من ينذره ، أنه إذا ما تلاعب ، أ و حاول التهرب من التنفيذ ، فسوف ينسفون منزله بمن فيه ….
ثم
عرض أحدهم على شاشة حاسوب ، منظرا علويا لبلدته بشوارعها و بيوتها ..و أمام ذهوله أشار له إلى منزله .
*****
تكررت زيارة خميس للمستشفى بحجة أو بأخرى ،
ثم ما لبثوا أن أفهموه أن المسألة بغاية البساطة :
” هما خطوتان لا غير ، أولاهما التعرف على الإرهابي المطلوب ، و على وسيلة تنقله و أوقات تحركاته ؛ و الخطوة الثانية هي زرع جهاز صغير نزودك به لا يتجاوز حجم حشرة في المكان المناسب سواء في سيارته أو دراجته أو على باب بيته ، و نحن نتكفل بالباقي ..
و لم يخفوا عنه أن الجهاز المذكور يرسل ذبذبات لاسلكية تساعد في تحديد المكان و دقة التصويب ..”
ثم أكدوا له كذلك ، أن أحدا من المتطرفين لم و لن يحاول تفتيش سيارته قبل ركوبها بسبب نزعتهم القدرية ، و هذا عامل مساعد آخر على إصطيادهم بسهولة .
*****
بعد أيام قليلة ، و بينما كان محمد حسنين ، زميل خميس في العمل و المتسبب بإصابته التي أقعدته في المستشفى أكثر من أسبوع ، بينما كان متجها فوق دراجته النارية لغرض ما ، إذا بصاروخ ، أطلقته حوامة ، يفجره و دراجته ، لتختلط أشلاؤه بحطامها ، كما أدى الإنفجار إلى إصابة عدد من المارة و بتحطيم زجاج عشرات المنازل ؛ و وقف خميس عن بعد ينظر إلى المأساة التي صنعتها يداه ، شامتا متشفيا .
————————
سوري مغترب