قصة
نزار ب. الزين*
بلدة صغيرة ، ساحلية استقرت بدلال في أحضان تلال الصنوبر بينما أمتد ذراعاها تعانقان – بشغف العشاق – شاطئ البحر …
مذ لمح عن بعد قلعتها الأثرية الشامخة فوق هامة التل ، أخذ قلبه يخفق ؛ و لكن قلبه بدأ يضرب بعنف حين بلغ مدخل الميناء ، فهو مقدم على تنفيذ حلم لطالما راوده و خطط له .
و إذ بلغ رصيف الميناء ، تحرك بسيارته السوداء الفارهة من العبّارة نحو اليابسة ، و قد ارتسمت على شفتيه إبتسامة حملت مشاعره المشرقة كلها ؛ من زهو و ثقة مطلقة بالنفس ، إلى طمأنينة شاملة غمرت جسده و روحه ، إلى شوق و لهفة للحظة اللقاء …
فذاك الصبي الذي غادر البلدة الساحلية الصغيرة و هو لا يملك شروى نقير ، يعود اليوم من المهجر رجلا ناضجا بجيب مليء و سيارة من أرقى الأنواع و أغلاها ثمنا .
يتمم الإجراءات الحكومية نافذ الصبر ، يتحرك بعربته خارج منطقة الميناء ، ليجد في استقباله خطيبته و أكثر أهلها و أمه مع أكثر أهله..
كان يعرف حياة صغيرةً ، و عندما زكَّتها له أمه كزوجة ، وافق بلا أدنى تردد ، ثم أخذا يبنيان معا عش الزوجية الإفتراضي عبر الهاتف تارة و عبر الأنترنيت تارة أخرى .
و هاهو اليوم يراها بأم عينيه شابة حلوة ، و أجمل كثيراً من الصور التي أرسلتها إليه .
يتبادل سْليم* العناق و القبل مع كلٍّ من مستقبليه ، ثم يتقدم بشيء من التردد من خطيبته ليختطف من خديها الموردين قبلتين رنانتين جعلتاها تذوب خجلا ، بينما أخذت النسوة يصدحن بالزغاريد
*****
كانت تلك بداية الأفراح و الليالي الملاح …
زغاريد …
طبول و دفوف و مزامير ….
و حناجر تصدح بالأهازيج و الأغنيات الشعبية ..
وشطح* تتبارى فيه فتيات العائلتين و صديقات العروس ..
و موائد حفلت بالطاجن و الكسكسي و بريكات التونة و السلطة المشوية* ….
سبعة أيام بلياليها… أشبه بليالي أمراء ألف ليلة و ليلة …
فاليوم الأول هو يوم الحَمّام ..
ثم ليالي الحِنَّة و النقش ..
ثم ليلة عقد القران و قبول النقوط* و الهدايا …
طقوس تبتدئ بعد الغياب و تستمر كل ليلة حتى منتصفها ….
*****
ثم يجيء يوم التجميل..
فتتوجه العروس و صحبها إلى صالون ( الحجّامة )* حيث تبتدئ عمليات تجميل العروس مع جميع من يرافقها .
و في المساء يقبل العريس بسيارته الفارهة ، و قد زينها بالشرائط البيضاء و البالونات ، تتبعه و تتقدمه عدة عربات متنوعة الحجم و الغرض ، غاصة عن آخرها بالأقارب و الأصدقاء رجالا و نساء ، بما فيها شاحنة صغيرة تربَّع فوق أرضيتها ثلاثة عازفين بملابسهم الشعبية و آلاتهم الموسيقية التقليدية ، بينما وقف إلى جانبهم المصور، ملتقطا مشاهد الحفل ( بكاميرة فيديو ) نصبها فوق حامل ثلاثي الأطراف .
يحتلون الشارع المجاور بمفارقه الأربعة ، و يبدؤون بالرقص فرادى و جماعات في إنتظار خروج العروس و صحبها من حانوت ( الحجامة ) .
و أخيراً تخرج العروس بثوبها الأبيض ، فيعَلو الهتاف و التصفيق و تتجاوز الزغاريد عنان السماء ….
و ينطلق – من ثم – الموكب الطويل بعرباته التي ما فتئت تزأر بأبواقها و تخطف الأبصار بأضوائها ، في رحلة عبر شوارع البلدة الصغيرة ، قبل أن يتجه الموكب إلى شارع الفنادق الكبرى .
*****
يدخل العروسان متهاديين ،
تصدح الأهازيج و الزغاريد ،
تبدأ فرقة موسيقية باستقبالهما ،
تبدأ مطربة بالغناء لهما ،
يتوجهان إلى عرش الزفاف خطوة خطوة …
يجلسان بوقار الملوك …
و لكن …
ثمت جدل يدور بين والدتي العروسين ،
و جدل آخر يدور بين والدي العروسين ،
ذلك أن والدة العروس فوجئت باحتلال الطاولات الأمامية من قبل أقارب العريس ..
تنادي أم العروس مدير القاعة لتزفه بعبارات اللوم و التقريع ، و تتهمه بسوء التصرف و التدبير ، و البعد عن الأصول و الأعراف و التقاليد ….
و لكنه …
مبرئا نفسه ، يلقي اللوم على أم العريس ..فكل الأمر من تدبيرها ..
يبتدئ الجدال من جديد ..
يتحول الجدال إلى شجار ..
يتدخل آخرون ، بعضهم يناصر أم العريس و بعضهم يناصر أهل العروس ..
تحاول فئة ثالثة فض الشجار ،
يقترحون إعادة الترتيب ،
جناح لهؤلاء و جناح لأؤلئك ..
و لكن الجالسين يرفضون تبديل أماكنهم ..
فيعلو الصياح من جديد ..
و تتجه أم العروس غاضبة نحو عرش الزفاف ، عازمة على إيقاف الحفل و الإنسحاب منه ، مقسمة أغلظ الأيمان بأن هذا الزواج لن يتم طالما بقي في صدرها نفس .
و لكنها …
تفاجأ بخلو العرش من مليكيه ..
و تكتشف – متأخرة – أن العروسين إنسلا من باب خلفي ، و اتجها إلى غرفتهما في الفندق
———————————
* حياة : اسم الفتاة
* سْليم : بتسكين السين كما يلفظه عرب شمال أفريقيه
* النقوط : الهدية المالية أو العينية
* شطح : رقص
* الحجَامة : مصففة الشعر
* الطاجن ، الكسكي ، البريكات ، السلطة المشوية : مأكولات مغربية
——————
سوري مغترب