قصة واقعية*
نزار ب. الزين*
أحببته بكل جوارحي ، و أحبته كل خلية من خلايا جسدي و كل نبضة من نبضات قلبي ، حتى أنني لم أعد أرى في الدنيا سواه …
و لكن …..
وا أسفاه كان من دين غير ديني ، نبهتني صديقاتي إلى ذلك و لكنني لم آبه لكلامهن ، فهو أولا و آخرا إنسان مثلي ، لا يختلف عن باقي البشر في شكل أو لغة أو طريقة تفكير ، ابتسامته العذبة لا تختلف عن ابتسامات الشباب المنتمين إلى ديني ، و صوته الملائكي لا يختلف جرسه عن أي منهم ، فهو لم يأتِ من الزهرة أو المريخ ، هو إنسان مثلي و مثلك و مثل كل الناس ، إنسان طيِّب المعشر و السريرة ، إنسان ذكي متفوق في دراسته ، إنسان خلوق لم يسمع منه أحد كلمة نابية و لم يتصرف مع أحد إلا بكل ود و احترام ، إنسان أحبني ، فما شأني في عقيدته ؟ ألسنا كلنا في النهاية نؤمن بإله واحد ؟؟
و لكن ….
و لكن أمي عندما علمت بأمر حبي ، وقفت في وجهه ، ” إن كنت ستمنعينني عنه فأنت قاتلتي ” ، قلت لها فأجابتني : ” موتك أهون عليَّ من لعنة القريب و البعيد ، من لعنة رجال ديننا ، من لعنة الآباء و الأجداد …” ، “و هذا الذي في بطني يا أمي ؟ إنه حشاشة كبدي ، إنه ثمرة حبي ، ابدا لن أرضَ إجهاضه ، حتى لو قطعتيني إربا إربا..”
ذويت و ذبلت كورقة النعناع بعد يوم من قطفها ، تحجرت معدتي فلم تعد تقبل الطعام ، صارت حروف كتبي تتراقص أمام عيني ، هل كانت تهزأ مني أم ترثي لحالي ؟ فتوقفتُ عن الدراسة ، ثم ضعف جهاز مقاومتي فتوالت عليَّ الأمراض ، و بت أتطلع إلى الموت كمنفذ لي من محنتي ، و لولا خشيتي على جنيني لفعلتها بيدي ! .
ثم ….
كانت الصفقة ، عقدتها أمي ، و قبلتها على مضض !..
حبيب قلبي و عمري و رفيق روحي و أحلامي سليم
أنجبت في الأسبوع الماضي غلاما ذكرا ، هو صورة طبق الأصل عنك ، أسميته لؤي ، تيمنا باسم والدك ، لم يشاركني سهيل فرحتي و كأن الأمر لا يعنيه ، فهو لا في العير و لا في التفير ، مسكين إبن خالتي و زوجي هذا ، تنحصر كل اهتماماته بعمله و بطنه و غرائزه ، لا يعرف كيف يتحدث ، ففي صوته خنة و في كلامه لجلجة ، و لا يعرف كيف يعاشر الناس فلا صاحب له و لا صديق ، فما أن يعود من عمله حتى يتناول طعامه بشراهة ، ثم يستلقي على مقعد الصالة بثيابه المتسخة المقرفة ، ليأخذ سنة من النوم ، ثم يجلس أمام التلفاز يشاهد الرسوم المتحركة فيضحك كما يضحك الأطفال حتى يكاد ينقلب على قفاه ، و عندما يترقى قليلا ، يشاهد مباريات كرة القدم ، فينفعل و كأنه الحكم أو كأنه أحد اللاعبين ، فيصفق و يهلل ، و يعلو صوته مشجعا تارة و لائما تارة أخرى ، أما فرحته الكبرى فتتجسم عندما تهز كرة أحد لاعبي فريقه المفضل شباك الفريق الآخر ، فيصيح كالمجنون : ” كول … كول … كول ..” و يبدأ بالقفز و الرقص ؛ ذلك هو زوجي و ابن خالتي سهيل ..
عندما كنا صغارا كان سهيل مصدر تفكهنا ، كنا ندبر له المقالب ، و كان السيئون منا يصفعونه على قفاه بمناسبة و بغير مناسبة فيبكي حينا تألما و يضحك حينا مسايرا، فكنا نضحك و نضحك و نضحك …، و أما في غيابه فكان مصدر تندرنا و متعة حديثنا ، و دارت الأيام و أصبح هذا السهيل زوجي !
قالت لي أمي : ” الزواج شيء و الحب شيء آخر ، تزوجي سهيل و ابقي على صلتك مع سليم ، فقط كوني حذرة من كلام الناس ! ” و لم أجد أفضل من هذا الحل ، و لم أكن أدري أنها ترتب لي مؤامرة ، فسرعانما سافر سهيل إلى هذا البلد الخليجي للعمل فيه ، و كان لا بد لي من مرافقته ، ألست زوجته ؟ .
إنني أعيش في مدينة صغيرة اسمها أم الفحيل ، و في مجمع سكني مشكل من عدة بنايات ، يحمل اسم مجمع البوشهري ، عمارة رقم 21 شقة رقم 1 ، و راتب زوجي كنجار فني ممتاز ، و هو لا يبخل عليَّ في اي ما أطلب ، أما جاراتي فهن في غاية اللطف ، و نحن نتزاور أحيانا ؛ و مع ذلك فإنني أشعر بوحشة كبيرة بعيدة عنك ، و بأني أعيش ليلا طويلا طول عمري و بلا نهاية ، و السبب أنت تعرفه …
حبيبتك إلى الأبد و أم ولدك لؤي ، عايده .
أتلومني و تشكوني لمالك مجمع السكني ثم تهاجمني علنا ، لأنني أجلس طويلا على شرفتي ، و اتظاهر بقراءة جريدة مثقوبة ، تتيح لي أن اشاهد ما أشاهد ، في عمارتك يا سيد وضاح مومس و الماء يجري من تحتك و تحت جيرانك الآخرين ، و أنتم إما عميان أو تتعامون ، تفضل معي في الساعة الثامنة صباحا ، بعد أن يذهب كل إلى عمله ، و سترى العجب العجاب ..
و قبيل الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي كان وضاح على شرفة جاره في العمارة المقابلة ، و قد ثقب بدوره جريدة ، و أخذ يراقب الشارع معه : ” هل ترى هذا السيارة زرقاء اللون ، ركز عليها …” قال له .
يهبط منها شاب في أواخر العشرينيات من عمره ، يتجه مباشرة إلى العمارة التي يقطن فيها وضاح ..
تفور الدماء في رأس وضاح ، يهرع إلى منزله فيجد زوجته تقوم بواجباتها المنزلية ، يجرها من يدها ، و يقرع أبواب جيرانه بابا بابا ، و الكل مستغرب جنونه هذا : ” سأخبركم و أزواجكم فيما بعد ” يقول لهن معتذرا ، ثم يقرع باب سهيل و عايده ، فلا يجيبه أحد ؛ تلمع في راسه فكرة يهرع مع زوجته و فاطمة جارتهما في الطابق الثالث ،و التي استبد بها فضولها بدورها ، يهرعون نحو باب العمارة ، فيشاهدون الشاب – إياه – يقفز من شرفة عايدة إلى الشارع ، ثم يجري نحو سيارته الزرقاء ، يحاول وضاح اللحاق به و لكن الشاب كان أسرع منه .
يقرع وضاح باب جاره سهيل ثانية ، و برفقته زوجته و جارتهما فاطمة ، و قد تجمعت جارات أخريات ، يقرع الباب بإلحاح مثنى و ثلاثا و رباع فلا من مجيب ، بينما كانت زوجته تحاول ثنيه : ” مالنا نحن و مالهم .. و ما شأننا بهم . ” يجيبها و قد استبد به الغضب : ” إنها سمعتنا ، قيل لي أن في عمارتك مومس ، لم يحددوا لي في أية شقة هي ، يعني أن كل واحدة منكن ، كانت مشبوهة ، لقد أوصلت عايدة – لعنها الله – سمعتنا جميعا إلى الحضيض ! “
أنا أم عايدة ، جئت خصيصا من بلدي قاطعة مئات الكيلومترات و مجتازة حدود ثلاث دول عربية ، لأقول لك يا سيد وضاح و لزوجتك ، و لجميع جيرانك ، جملة واحدة لا غير : ” دعوا ابنتي عايده و شأنها ! ” يسألها وضاح : ” أتعلمين بما تفعله ابنتك ؟ ابنتك لديها عشيق يا سيدة ! ” تجيبه ببرود : ” أعلم ، أنا راضية ، و سهيل زوجها لا يعترض ، فقط كفوا بلاءكم عن ابنتي !!!..” يجيبها وضاح و قد اكفهر وجهه غضبا : ” لم يبقَ سوى حل واحد ، هو أن ترحل ابنتك و أسرتها عن العمارة ” تجيبه بكل صفاقة : ” و لِمَ لا ترحلوا أنتم ؟؟؟؟ “
=======================
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب