قصة واقعية
نزار ب. الزين*
الفصل الأول
دخل إلى مكتب الأخصائي الإجتماعي مندفعا دون إستئذان
كان وجهه مكفهرا و أطرافه ترتعش
اقترب من طاولة المكتب و هو يلهث و بشفتين مرتجفتين قال:
– لن أسمح للأستاذ نواف أو لغيره أن يضربني !
و بصوت أعلى أضاف :
– من تمتد يده عليّ سوف ( أشقه شق )
و بصعوبة بالغة تمكن الأخصائي الإجتماعي من تهدئته ، عندما اقتحم الباب و بدون استئذان أيضا ، الأستاذ نواف ، رافعا عصاه محاولا الإنقضاض على الطالب ( غصين ) .
هرع الأستاذ منجي ليقف في وجهه محذرا و هو يقول له :
– أستاذ نواف أرجوك ، لا تنس أنك في مكتب الخدمة الإجتماعية
فأجابه و هو ينتفض غضبا :
– مكتب الخدمة الإجتماعية ، أم مكتب الميوعة الإجتماعية ؟
ثم أستدارعلى عقبيه و خرج من المكتب و هو في أشد حالات الإنفعال .
**********
– أنت من الطلاب المتفوقين و من القلة الجادة في المدرسة ، ما الذي دفعك إلى إستثارة أستاذك على هذا النحو ؟
و لكن غصين ظل صامتا و هو لا زال يرتعش
– غصين ، يا بني ؛ ساعدني كي أتمكن من مساعدتك ، هناك إدارة مدرسية قد يفلح الأستاذ نواف بتأليبها ضدك ، صارحني من أجل مصلحتك ، ما الذي حدث ؟
و بصعوبة بالغة استطاع غصين أن يخرج الكلمات ، متقطعة ، متلجلجة مصحوبة بلهاث سريع و متواصل :
– شتمني ، و وصمني بأبشع النعوت ، أكبرها ( يا ابن الشوارع ) و أصغرها ( يا حمار ) لمجرد أنني أجبت زميل مجاور على سؤال !
– أهذا كل شيء ؟
– بل أجبته غاضبا : ” لا يحق لك أن تشتمني يا أستاذ “
فجن جنونه و رفع عصاه يبغي تحطيمها فوق رأسي كما قال ، فأزحتها عني و مضيت مباشرة إليك .
**********
يدخل المدير غاضبا ، يلحق به الوكيل غاضبا ، و معهما الأستاذ نواف الذي لا زال غاضبا ، يخترقهم غصين جميعا ، بلمح البصر و يولي هاربا .
يحاول المدير اللحاق به
يحاول الوكيل اللحاق به
يحاول الأستاذ نواف اللحاق به
يأمرون عمال المدرسة بالإمساك به
يتزايد الصياح
تتحول الساحة المجاورة للباب الرئيسي إلى سباق ماراثوني وراء غصين
إلا أن غصين يفلح بالإبتعاد عنهم جميعا
يلتفتون الآن إلى الأستاذ منجي :
الوكيل : – أنت تفسد سلوك الطلاب يا أستاذ منجي !
المدير: – أنت تخرِّب النظام المدرسي يا سِِِ ِ منجي !
الأستاذ نواف : – أنت مقرف إجتماعي يا ………
تطول ألسنتهم أكثر ، يعلو صياحهم أكثر و أكثر
و يتكاثر المتطفلون
بعضهم يحاول تهدئة الموقف
و بعضهم يغذي نار الموقف
أما الأستاذ منجي ، فقد شبك ذراعيه فوق صدره ، و وقف ينظر إلى وجوههم الكشرة و أجسامهم المتوترة ، دون أن ينبث ببنت شفة .
**********
يغادر الأستاذ منجي المدرسة بدون إستئذان
يتوجه مباشرة إلى الإدارة المسؤولة
تتشابك خطوط الهواتف حول الأستاذ منجي و الطالب غصين
يتفق المسؤولون على ضرورة تنفيذ النشرة الخاصة بإنشاء مكاتب الخدمة الإجتماعية في المدارس و صلاحيات تلك المكاتب
تتوجه لجنة وزارية إلى المدرسة في اليوم التالي
يقابلون المدير ثم الوكيل ثم الأستاذ نواف
ثم تنصرف اللجنة ، دون أن يعلم ما دار هناك
و لكن
يحضر غصين إلى المدرسة في اليوم التالي و معه ولي أمره ، فلم يعترضهما أحد .
توجها رأسا إلى مكتب الأستاذ منجي دون أن يعترضهما أحد .
أرسله الأستاذ منجي إلى صفه ، فلم يعترضه أحد .
**********
– أنا أخوه ، الواقع أن والديه ذهبا إلى رحمة ربهما منذ وقت مبكر ، و قد توليت أمره منذ وقت مبكر أيضا ، تساعدني بذلك زوجتي التي تعتبره أحد أبنائها .
أخي هذا ( بحالِه) منطوٍ على نفسه ، فلا صديق له سوى كتابه .
لا يحتك كثيرا بأولادي و لا يلعب معهم أو يحادثهم ، و ليس لديه أصدقاء يزورهم أو يزورونه ، لديه غرفته الخاصة ، و تلفازه الخاص مع جهاز فيديو ، أتدري ما هي الأشرطة التي يشتريها و قد تكدست مكتبته بها ؟ كلها تدور حول أفلام الجرائم و مسلسلاتها و المحاكمات المتعلقة بها ، حتى الكتب التي يشتريها أو يستعيرها من المكتبات العامة ، تدور كلها حول الموضوع نفسه : ( الجريمة و العقاب ) .
صدقني يا أستاذ منجي أن غصين لا يقضي سوى دقائق لحل واجباته المدرسية ، ثم ينصرف إلى كتبه أو أفلامه البوليسية .
كثيرا ما أظن أنه مصاب بلوثة ، و لكن عندما تأتيني نتائجه الشهرية يذهلني .
لعله قرأ في معرض قراءاته القانونية عن الأنظمة المدرسية المتضمنة منع المعلمين من ممارسة العقاب البدني على تلاميذ المدارس أو إهانتهم ، لعله قرأ عن ذلك مما جعله يتصدى للأستاذ نواف حين حاول إنزال العقاب البدني عليه ؟!
اؤكد لك يا أستاذ منجي ، أنه- أبدا- لم يعتدِ على أحد أو يسىء الأدب تجاه أحد ،
و لكنه ……..
يكره مثلا والدتي و زوجَتَي والدي الأخريين ، و لا يتقبلهما باي شكل من الأشكال ، عندما كان صغيرا كان يصرخ عاليا إن حاولت إحداهن التعامل معه سلبا أو إيجابا ، و اليوم و بعد أن كبر قليلا ،أصبح يشيح ببصره إذا صادف إحداهن ، و يرفض أن يجلس معهن على مائدة واحدة ، و يرفض حتى أن يقرئ عليهن السلام ، إنها كراهية مزمنة، لا يعلم أحد سببها ؛ و لكنه يتقبل التعامل مع زوجتي فقط ، حتى عندما يطلب مصروفا يطلبه منها ، و لا أدري هل هي ملامح حقد دفين لا يعرف سببه أحد ، هل هي ملامح مرضية ؟ أم ترى لأنه فقد أمه في وقت مبكر؟ إن هذا الغصين يحيرني كما يحير أهل الدار جميعا .
**********
حمود أخي و ليس شقيقي ، و هو وصي عليّ و ينفق عليّ من ميراث والدي حتى أبلغ الحادية و العشرين أي بعد أربع سنوات، عندئذ سوف أتابع طريقي لوحدي .
أنا لا أكرهه و لكنني لا أثق به ، و أعتقد أنه يتعدى على حصتي من الميراث مستغلا وصايته ، و لكن عند بلوغي السن القانونية سوف لن أسامحه بفلس واحد .
الإنسان الوحيد الذي أثق به هو زوجته ، التي عطفت عليَّ منذ البداية ، و حمتني من شرور زوجات أبي . تسألني ما سر كراهيتي لهن ، فأجيبك أن الموضوع شائك – يا أستاذ منجي- ، و لن تصدقني – كما لم يصدقني أحد من قبلك – إذا نقلت إليك الحقيقة ، فدع ما في القلب للقلب .
قالوا لي – جميع أهل الدار بما فيهم والدي قبل وفاته – قالوا أنني أتخيل أو أتوهم ، و وصموني بالجنون حينا و بالعِته حينا آخر و أكدت إحداهن أن شيطانا أو جنيا قد تقمصني ، و حاولت إيذائي من هذا المنطلق أكثر من مرة ؛ و عندما لجأت إلى الصمت كفوا عني و ظنوا أنني نسيت . و لكنني لم و لن أنسَ و لسوف أقتص منهن واحدة بعد الأخرى .
أجل …..
هدفي أن أصبح محاميا و أول قضية لي ستكون ، قضية والدتي ، سأحيي الماضي و سأنتقم لكل قطرة دم أهدرت من دماء والدتي !
نعم يا أستاذ منجي لقد ذبحوها ذبح النعاج و لدي الدليل..
قالوا أنني معتوه ، و أنني أتخيل ، و لكن لدي الدليل
قالوا أنها عشقت و فرت مع عشيقها ، و لكنني سأظهر الحقيقة و سيعرف القاصي و الداني أنها بريئة مما يهرفون ، و لدي الدليل .
هل قرأت – يا أستاذ منجي – قصة شجرة الدر ، التي قتلت بالقباقيب في حمام قصرها ؛ هكذا قتلن والدتي ، و لكن ليس بالقباقيب بل بالمقصات و سكاكين المطبخ .
كنت صغيرا جدا ، لا أذكر بأي عمر كنت ، ربما سنتين أو ثلاث ، أخذت أصيح رعبا ، حملتني إحداهن و حبستني في إحدى الغرف ، و من شقوق في الباب تمكنت من رؤية جميع فصول الجريمة .
علا صياحهن بداية ، و لا أذكر علام تصايحن ، ثم ألقينها أرضا ، ثم كبلن يديها ، ثم وضعن في فمها قطعة ملابس ، ثم شرعن بذبحها ، و لن أنسَ ما حييت كيف تناثرت دماؤها في ساحة الدار ، و كيف تعاونَّ جميعا على إخفاء آثار جريمتهن .
كان غصين يحاول ضبط نفسه بصعوبة بالغة و لكنه فجأة إنفجر باكيا .
و عندما استعاد سيطرته على نفسه ، أضاف :
والدي ، كان تاجرا و لديه قطيع من الإبل ، في البادية ، و هناك تزوج والدتي ، و لكن عندما حملت بي أحضرها إلى المدينة .
و أقول الحق أن والدي بذل جهدا كبيرا في البحث عنها ، فقد قالوا له أنها عشقت أحدهم و هربت معه ( ! ) ؛ و عندما تجرأت و اقتربت منه ذات يوم وهمست له : ” عمّاتي ذبحن أمي ” صفعني ، و لازالت صفعته ترن في أذني حتى اليوم .
و بدأن منذئذ يلقبنني بالمجنون ، إلى أن تزوج أخي حمود ، فتولت زوجته حمايتي من شرورهن .
ثم أغلقت فمي و لكنني لن أغلقه إلى الأبد .
كلا
أبدا لم أفكر في يوم أن أنتقم منهن بذراعي ، فأنا لا أقوى على قتل صرصار ، و لكنني سأفعل بقوة القانون .
———————————-
سوري مغترب