قصة واقعية
نزار ب .الزين*
عماد ، معلم في مدرسة إبتدائية في إحدى مدن النفط في مكان ما من الخليج العربي .
كمعلم كان أداؤه متوسطا ، أما كإنسان فكان أداؤه الإجتماعي جيدا ، و باعتباره أعزب ، استطاع أن يكوّن صداقات مع زملائه ، فقد كان يحسن الترحيب بهم لدى زيارتهم له في سكنة العزّاب ، و يؤنس جلساءه بأحاديثه الطلية ، و يدعوهم غالبا إلى لعب الورق ( الكوتشينة ) حيث كان أداؤه ممتازا ، و كان من ضيوفه الكثر مدير مدرسته ، يحضر للمشاركة في اللعب مرة في الأسبوع على الأقل .
*****
عاد عماد بعد قضائه إجازة ذات صيف في مسقط رأسه ، و اتجه فورا إلى مديرية الإسكان طالبا سكن عائلي ، فقد تزوج عماد ، و سوف تحضر عروسه حال توفر السكن .
و ذات مساء شوهد عماد متأبطا ذراع عروسه ، يمشيان الهوينى على الرصيف المحاذي لمساكن عائلات زملائه ، و قد شعر كل من رآه يومئذ أنه يكاد يطير فرحا ، كما أحس كل من رآه ذلك اليوم أيضا بالفارق الفيزيائي بين العروسين.
أكثر الساكنين – و كلهم من المعلمين أو العاملين في مدارس البلدة – كانوا في حدائق منازلهم يتسامرون أو يشرفون على لعب أطفالهم في عصر يوم دافئ ، كان يقف تجاه كل منهم فيحيي زميله و من معه ، ثم يعرّف بعروسه دون أن يحاول إخفاء فرحته العارمة .
– هذه زوجتي فيروز
و لكن ما أن يمضي بعيدا حتى يبتدئ اللغط ، فقد كان الفارق واضحا ، كان قصير القامة و هي طويلتها ، كان طويل الأنف و كبير الفم بينما كان كل ما فيها متناسقا ، و كان أصلعا أو يكاد بينما كانت تتحلى بشعر مرسل و كثيف.
*****
ثم ابتدأ الزملاء وزوجاتهم بزيارته تباعا و تقديم الهدايا المناسبة ، و كان لا يمل من الحديث عن جمال فيروز و رقتها و أناقتها و مواهبها الأدبية ، فتبتسم الزوجات متعجبات من سخفه ، بينما يجامله الزملاء هازين برؤوسهم علامة الموافقة، و ما أن يخرجوا حتى تبتدئ التعليقات اللاذعة :
فهذه تقول : هجين وقع على سلة تين ( يقصد المثل بالهجين راعي الجمال )
و تلك تعلق ضاحكة : القرد يتغزل بحسنائه ! (إشارة إلى رواية الحسناء و الوحش )
و ثالثة تهمس : الأحدب يعشق غجريتة ( إشارة إلى رواية : أحدب نوتردام )
و أخرى تبتسم هازئة و هي تعلق : الأصلع يتباهى بشعر إمرأته ( إشارة إلى المثل الشعبي القرعاء تتباهى بشعر إبنة أختها )
و الجميع كانوا يخرجون من زيارته بانطباع ، أن عماد مصعوق و يكاد لا يصدق أنه حصل على زوجة بهذا الجمال .
و كان من ضمن زائريه أبو مفيد ، مديرالمدرسة و زوجته، فما أن وصل عماد إلى إمتداح مواهب زوجته الشعرية ، حتى تصدى لها أبو مفيد طالبا منها متلطفا ، أن تطلعه على بعض إنتاجها ، فهو أيضا يقرض الشعر ، و سرعانما إندمج أبو مفيد بحديث طويل مع فيروز حول الشعر و الشعراء جعل زوجته تشعر بالملل و بعض الغيرة ، فنبهته إلى ضرورة الإنصراف ، فالأولاد لوحدهم منذ مدة طويلة ؛ هنا فقط أحس أنه زوج و مسؤول فاعتذر مرغما ، حاملا معه مجموعة فيروز الشعرية ليطلع عليها على مهل .
*****
عندما عاد إلى منزله وضع المجموعة بدرجه الخاص ، و منذ بزوغ الفجر بدأ يطالعها باهتمام ، فقد كان بعضها محاولات شعرية ركيكة و بعضها الآخر خواطر شعرية و لكنها لا تمت للشعر الحقيقي بصلة.
و في المدرسة ، ما أن استقرت الأمور ، حتى أدار قرص الهاتف على رقمها الذي كانت قد دسته بين أوراق المجموعة:
– صباح الخير سيدة فيروز ، أنا أبو مفيد
– يا ( مية ) مرحبا بالأستاذ أبو مفيد، لكم أنا سعيدة بسماع صوتك
– و أنا كذلك
– هل قرأت شعري؟
– أجل فعلت ، شعرك يدل على إحساس مرهف و مشاعر فياضة و لكن اعذريني إذا صارحتك بأنه يحتاج إلى تصحيح بعض الأخطاء الإملائية و النحوية و ضبط بعض الأوزان .
– إذاً أنا بحاجة لمساعدتك ، هل لديك وقت يا أستاذ؟
– أخلق الوقت من أجل عيون عروستنا الفاتنة .
– الله يديمك يا أستاذ ، أخجلتني بإطرائك !
– تستحقينه حقا ، سأخاطبك عند الإنجاز .
– إني عاجزة عن الشكر لإهتمامك بي، فالشعر محور حياتي منذ بدأت المرحلة الثانوية .
– و أنا تحت أمرك في كل حين ، مع السلامة .
– مع ألف سلامة .
*****
و تكررت من بعد الحوارات الهاتفية ، إلى أن أن طلبت منه ذات يوم أن يتكرم بزيارتها لتطلعه على محاولة شعرية جديدة :
– هذا أمر صعب يا فيروز ، و إن كنت أتمناه .
– أتخشى الناس ؟
– أخشى على سمعتك كزوجة و سمعتي كمدير مدرسة ، و لا تنسي أن زوجك معلم في مدرستي .
– إذاً أزورك في البيت بعد الدوام .
– و هذه أيضا لا أحبذها لأن زوجتي تغار منك و تتهمني أنني معجب بك .
– تلك الدبّة تغار مني ؟ كيف تحملتها كل هذه السنين ؟
– و أنت كيف تتحملين زوجك رغم هذا الفارق الكبير بينكما ؟ أليس هذا قدرنا ؟!
– زوجي فرض عليّ ، قالوا لأهلي أنه شاب خلوق و راتبه ممتاز و مركزه الوظيفي واعد ، فضغطوا عليّ حتى قبلت ، و اتضح لي – من ثم – أن لا مركز له و أن راتبه لا يغطي ثمن ملابسي الداخلية التي كان يشتريها لي أهلي ، إضافة إلى أمور أخري أستحي من ذكرها .
*****
كان أبو جهاد ، وكيل المدرسة ( أي نائب المدير ) ، يتجسس على مكالمات أبو مفيد و على رسائله الشخصية أيضا، فهو – أي الوكيل – إضافة إلى وظيفته الرسمية ، فهو رجل مخابرات ، منتدب من قبل دولته – و هي دولة مخابراتية عميلة – لدعم أجهزة مخابرات تلك الدولة حديثة الإستقلال ، فقد كان أبو مفيد ذات يوم منتمٍ إلى الحزب الشيوعي عندما كان شابا ، فكان إهتمام أبو جهاد منصبا على التأكد من إستمرار أبو مفيد في علاقته بالحزب المذكور أو مازال يتعاطف معه أو لا زالت له علاقة ببعض أعضائه ، أو ما زال يمارس أي نشاط سياسي غير مرغوب فيه . و هي المهمة التي تشمل أيضا بقية المعلمين و الموظفين العاملين في المدرسة (!!!!!).
و ما لبث أن تبين له أن سعادة المدير عاشق ، و أنه يتحدث مع محبوبته أكثر من ساعة كل يوم و أكثر من مرة في اليوم الواحد .
ثم بدأ يلاحظ أن ( أبو مفيد ) يكثر من خروجه من المدرسة أثناء الدوام ، و بحكم فضوله المخابراتي ، كلف ( فرّاشا أي مستخدم تنظيف ) يثق به أن يتبعه عن بعد ، ليرى أين يذهب ، و كانت المفاجأة الكبرى ، عندما أبلغه هذا ، أن المدير يوقف سيارته في شارع مجاور لمساكن المعلمين ، ثم يمشي الهوينى كأنه متوجه إلى بيته لينعطف من بعد إلى زقاق التخديم ، ثم يدخل أحد البيوت من بابه الخلفي ؛ و سرعانما تبين أن هذا البيت هو بيت الأستاذ عماد ( !!!! ) .
أما عماد فلم يخطر بباله على الإطلاق أن ما يحدث قد يحدث ، فكلما سأله أحد زملائه عن أحواله ، أجاب واثقا : ” متركز و عال العال و في أقصى حالات السعادة ، و أعيش في شهر عسل طويل “
*****
كانت العلاقة بين فيروز و أبو مفيد قد تطورت بسرعة ، بدأت بالحديث عن الأدب و الشعر ثم انتقلت إلى الشكوى و التنفيث عن الهموم العائلية ثم تطرقت إلى أدق الخصوصيات ، ثم تحولت إلى بث لواعج الهوى و الغرام .
و ذات يوم اصطدم عماد مع الوكيل بجدل حول حصة إنتظار ( الدخول للتدريس محل معلم غائب ) ، فقد خلاله عماد أعصابه فقال للوكيل : ” أنت ظالم ” فثارت ثائرة ( أبو جهاد ) و قال له : ” أنا إنما أنفذ اللوائح ، و لكن إذهب و ابحث عن ظالمك الحقيقي في بيتك ” فاستاء عماد و أجاب الوكيل صائحا : ” أنت ما شأنك و شأن بيتي؟ ” فربت الوكيل على كتفه متهكما : ” الذي بيته من زجاج لا يرجم الناس بالحجارة ” فجن جنون عماد و كاد يصفع الوكيل لولا أن تمالك نفسه في الوقت المناسب .
عاد إلى غرفة المعلمين ، و هو يغلي غضبا ، فحاول بعض زملائه تهدئته فانفجر بهم ساخطا ، ثم قرر أن يقدم شكوى رسمية عن طريق المدير ، إلا أن المدير لم يكن في مكتبه .
و أخذ يتساءل في سره : ” ترى ما الذي يقصده أبو جهاد ؟ و إلامَ كان يلمح ؟ ” ثم ومضت برأسه فكرة فبادر لتنفيذها على الفور ، و بدون استئذان غادر المدرسة متوجها إلى بيته ؛ و ما أن فتح الباب ، حتى صعقته المفاجأة ، فقد كان سعادته مستلقيا على أريكة في الصالة و قد توسد رأسه حضن زوجته فيروز !
– أنت يا أبو مفيد ؟
أنت يا فيروز ؟
ثم ما لبث أن انهار مقهورا و أخذ يبكي كطفل .
فأخذ أبو مفيد يهدئه مؤكدا أنها علاقة صداقة ليس إلا ، و أنه شعر بصداع فاستلقى على الأريكة و أن فيروز كانت تدلك جبينه – مشكورة – في محاولة لتسكين الألم .
إلا أن عماد ظل صامتا ، فنهض أبو مفيد فارتدى سترته و انصرف ، و إذ تقدمت نحوه فيروز لتلطف من الجو ، هب في وجهها شاتما ثم ما لبث أن بدأ يصفعها و يركلها و هي تقاومه صارخة مولولة ، ثم صاحت به : ” طلقني طلقني طلقني طلقني أنا لا أريدك .. أنا أكرهك ! ” .
كانت الجارات قد تجمهرن حول المنزل ، ثم تجرأ أحد الزملاء و هو من أعز أصدقائه – كان قد عاد لتوه من المدرسة فقرع الباب في محاولة للتدخل و التهدئة ، ففتح عماد الباب ، ثم هب بزميله و أخذ يشتمه و كل من يلوذ به حتى الجد السابع ، ثم التفت إلى السيدات المتجمعات فصب جام غضبه عليهن و طردهن من حديقة منزله شر طرده .
كان عماد في تلك اللحظات كالثور الهائج الذي أفلت عقاله .
و في اليوم التالي شوهدت فيروز تحمل حقائبها إلى سيارة زوجها الذي قادها إلى المطار من غير رجعة .
*****
لفق وكيل المدرسة بحق ( أبو مفيد ) تقريرا اتهمه فيه بالاتصال بمشبوهين لم يستطع تحديد هوياتهم ، و إن هي إلا أيام ، حتى دخل إلى مكتبه شابان ، طالبين منه مرافقتهما ، فقد تقرر ترحيله ، حيث بقي قيد التوقيف في أحد المخافر بضعة أيام ، ريثما تسلمت عائلته شيكا بكامل تعويضاته مع رواتب بقية العام الدراسي ، و في الطائرة – فقط – استطاع أن يلتقي بعائلته .
و سرعانما رقي أبو جهاد و كلف بإدارة المدرسة محل أبو مفيد .
*****
أما عماد فظل على إكتئابه و سلوكه العصبي رافضا الحديث مع زملائه ، قاسيا في تعامله مع تلاميذه ، و فجأة و بينما كان يعاقب أحد تلاميذه أصيب بالإغماء ، فنقل إلى المستشفى حيث تبين أنه مصاب بأسوأ أنواع سرطان الدم ( اللوكيميا ) و خلال أقل من أسبوع وافته المنية .
—————————-
سوري مغترب