قصة واقعية

نزار ب. الزين*

   يدخل المدرسة كعادته كل يوم ، يراه (ناظر المدرسة*) من النافذة ” أنا لست هنا ” يقول (للفراش*) ، يراه الوكيل يحث الخطى من بعيد  ، يغادر إلى غرفة المدرسين على عجل ؛ فأبو عبد الله هذا صار حديث المدرسين و الإدرايين و الفراشين ، يدخل المدرسة كل يوم حاملا  شكوى جديدة  تخص ولده عبدا الله ..

يقول أستاذ الرياضيات : ” لقد اقتحم صفي ، و وقف يخاطب الطلاب المذهولين : ” من اعتدى على ولدي عبد الله بالضرب فليعترف في الحال ، ثم نادى إبنه المحرج آمرا : ” أرشدني  من  هو  ( ولد الكلب ) الذي ضربك !! ” و يضيف الأستاذ عرفان ” كل ذلك و كأنني غير موجود ، و قد أخرجته من الصف عنوة بمساعدة الفراشين “.

و يقول أستاذ اللغة العربية مبتسما : ” فوجئت به ذات يوم و هو يناديني باسمي مجردا ” ثم  يخاطبني مهددا : ” إن لم تكف عن الإنحياز ضد ( ولدي عبد الله ) فسوف اشكوك لوكيل الوزارة بل للوزير بذاته ” .

و يقول أستاذ الرسم ، هاجمني ذات مرة و هو يتهمني أنني أخفض لإبنه  درجاته بمادة الرسم لكي أخفض ترتيبه في الإمتحان ، و ذلك إنحيازا مني لإبن زميلي مدرس اللغة الإنكليزية ، فوالله لولا أنه عجوز مخرف لطردته شر طردة.

و أصبح  – من ثم – أبو عبد الله حديث المدرسين و العاملين ، فمنهم من وصفه بالمهووس و منهم من قال أن الوسواس الخناس تقمص دماغه ، و منهم من أكد أنه مجنون أو في طريقه إلى الجنون ..

و ذات  يوم دخل إلى مكتب الأخصائي الإجتماعي و هو يرتعش غضبا ، و بادره  في  الحال : ” كلهم يتهربون مني ، و كأنني وحش قادم لافتراسهم ، و الله و بالله  سأسعى لتسريحهم جميعا من أعمالهم ، فهم لا يستحقون الرواتب العالية التي يتقاضونها !” .

 يحاول الأخصائي الإجتماعي  تهدئته …

 يصمت قليلا ثم يضيف : ” ألستُ ولي أمر ؟  ألا تقول لوائحكم أن من حق أولياء الأمور ، مراجعة المدرسة – أنى شاؤوا – لمناقشة أحوال ابنائهم ؟ لِمَ ينزعجون من وجودي إذاً؟!!!! ألست ولي أمر شأني شأن الآخرين ؟!!! “

يطلب له الأخصائي الإجتماعي ( إستكانة*) شاي  ثم يجيبه : ” لك كل الحق ، يا أبو عبد الله و لكن يبدو أنك كنت تقرع الأبواب الخطأ ، فناظر المدرسة مثلا مشغول دائما بشؤون ألف و مائتي تلميذ و خمسا و أربعين مدرسا و عشرين فراشا ، يساعده في مسؤوليته الجسيمة وكيل المدرسة ، أما الزملاء المعلمون فكل منهم يحمل مسؤولية منهج ، عليه أن يتمه في فترة زمنية محددة ، و لا يسمح لهم وقتهم بمقابلة أولياء الأمور ! “

يبعد أبو عبد الله (إستكانة) الشاي عن فمه ، يضعها فوق الطاولة بشيء من العصبية ، ثم يجب الأخصائي غاضبا : ” يعنى كلامكم عن الترحيب بأولياء الأمور ، مجرد  كلام  فارغ  من   أي مضمون … “

يبتسم الأخصائي و هو يجيبه : ” بل صحيح – يا أخي –  مائة بالمائة ، و لكن في هذا المكتب ، فأنا متفرغ لمتابعة  مشاكل التلاميذ و مقابلة أولياء أمورهم ، تلك هي وظيفتي يا أخي ، فقر عينا ، لأنني مستعد لاستقبالك كل يوم و في أي وقت تشاء !..”

يبتسم ابو عبد الله للمرة الأولى ..

يكمل ارتشاف الشاي ..

يبتسم ثانية و هو يخاطب الأخصائي الإجتماعي  بود : ” لا حرمنا الله منك يا أستاذ ! “

ثم يبدأ أبو عبد الله بسرد شكاواه الكثيرة ، و يعترف أنه  متعطش لأن يرى ابنه الوحيد شابا ناجحا قبل أن يوافيه الأجل .

عندما شعر الأخصائي الإجتماعي أن دواعي غضبه قد زالت ساله مستغربا كيف حدث أنه ابنك الوحيد ؟

فأجاب : ”  تزوجت أمه متأخرا ، أنجبته لي ثم توقفت ! “

” ألم  تراجع  طبيبا  لعلاجها ؟ ” سأله  الأخصائي ، فأجابه  أبو عبد الله  و هو يغص  بريقه  :  ” المشكلة مني يا أستاذ … ” ، ثم اطرق برأسه خجلا .

بعد فترة صمت ، أضاف الأخصائي الإجتماعي متسائلا : ” هل تسمح لي أن أطرح عليك سؤالا آخر ؟ ” يجيبه ابو عبد الله  و قد  أنس  تماما  للأخصائي الاجتماعي : ” تفضل … تفضل .. خذ  راحتك .. “

سأله : ” ما الذي أخر زواجك لهذه السن المتقدمة يا أبو عبد الله ؟ “

يجيبه و قد  دمعت  عيناه : ” كان لي أسرة أخرى من قبل …أربعة أبناء ذكور و أنثى واحدة  ، عدمتهم  جميعا  مع أمهم  خلال شهرين ، فقد اكتسحنا مرض يسمونه  الجدري ، و لم  ينجُ منه غيري ! “

 ثم أجهش بالبكاء .

*****************

(ناظر المدرسة*) : مديرها

(الفراش*) : الآذن أو الحاجب

( إستكانة*) : كأس صغيرة تستعمل فقط لشرب الشاي

——————————

*نزار بهاء الدين الزين

   سوري مغترب