قصة قصيرة

نزار ب. الزين*

    يرتجف رعبا (( انتهيت يا كريم ))
ترتعش هلعا (( انتهيت يا ندى )) يداها لا تطاوعان … يداه تتخاذلان
تجر نفسها الى المرحاض ، تغلقه ، عزمها المتحلل و قوتها المتلاشية ، تجمعهما معا لتقفل بابه بالمفتاح … ثم تنهار .
يسوي الفراش ، يداه لا تقويان على الارتفاع لكي يسوّي شعره المشعث .
القصف على الباب يتواصل و يتسارع .

الباب ينسف الآن بركلة متمرسة ، قطعة منه حطت فوق احدى قدميه لتسبب أولى الجراح .
يدخل أحدهم بثياب مدنية و يسأل :
– أين هي يا كلب ؟
يبلل الفراش .. يزداد تشبثا بالفراش ؛ تنهال اللكمة الأولى على أنفه و فمه معا ، ينفر الدم و معه سِنّان ، تتضخم الشفة العليا الى ضعفين ثم أربعة أضعاف .
يتكور كقنفذ انتزعت أشواكه .

(( انتهيت يا كريم )) ظل يهمس الى ذاته
– إنهض يا نغل ( أي يا ابن الحرام ) .
ركلة تسحق جنبه تنهضه قفزا …يعوي ألما .
(( انتهيت يا كريم )) ظلت ذاته تردد أما لسانه فظل يعوي ألما .
يدخل ثان بثياب مدنية أيضا ، يدخل ثالث بثياب عسكرية
لكمات .. صفعات .. أيد كثيرة و أرجل تمارس فنونها السادية ..
صياحهم يصم أذنيه : أين هي يا (كلب)

أين هي ؟ مجتمع بحاله يسأل … مدنيون و عسكريون ينهشون جسده و يصيحون (( أين هي .. أين هي .. )) أيد تتهاوى .. أقدام تركل … أقدام سوداء ، نعال ملونة ترابها يملأ خشميه .
أيد ترفعه : (( أين هي )) ثم تسقطه من جديد ككومة قمامة : (( أين هي .. أين هي ))
قدم أخرى متمرسة تنسف باب المرحاض …
(( ضعت يا ندى ))

يد مدربة تتناول شعرها الأسود الناعم المسترسل الطويل
تجذبها .. عويلها يدوّي ….
أكف عريضة تنهال على كل موضع .. ثوبها الداخلي يتمزق … ثديها الصغير ينفر .. تسحقه لكمة .
أحدهم يتقدم بخطى مضطربة و الدموع تغشى عينيه ، يسحب غطاء .. يلقيه عليها ثم يلفها به ,
تتشبث بالغطاء و باليدين معا متوسلة :- ” عماه أنقذني (( أبوس رجليك )) !
يشيح بوجهه :- ” أنا لست عمك .. أنا بريء منك… .أبوك في قبره بريء منك… أسرتك بريئة منك .. عائلتك بريئة منك… الناس كلهم بريئون منك .. أنت فاضحة مفضوحة .. أنت ملعونة الى يوم الدين “

يتناول سكينا من بين تشكيلة فواكه تبعثرت لتوها ، ينقض عليها ..
و لكن يمنعونه في الوقت المناسب .
يصيح :- ” دعوني أذبحها و أغسل عاري و عارها بدمها “
أحدهم يتناول عمرته من بين الأقدام
ثم يقبض على شعرها الناعم من جديد ، تتسرب خصلات مشعثة من بين أصابعه … يجرها .. تولول .. تنفلت يداها من هول الألم .. تتحركان عشوائيا كطير ذبيح .. فيتساقط الدثار ، نصفه في الداخل و نصفه الآخر على عتبة الباب .
نساء بمباذلهن يتأوهن .
رجال بمناماتهم يهمهمون .
أطفال بأعين نصف مغمضة يتململون .
يتراجعون هلعا ثم يتضاممون .
همسات :- ” من تكون ؟ انها طفلة .. انها جميلة “
همسات – ” الملعونة . .. المسكينة . .. الملعونة … المخدوعة … الملعونة “
همسات :- ” أين كان أهلها ؟ حتما هي يتيمة …من يدري … ربما هي تحت سلطان أم مستهترة أو زوجة أب ظالمة ؟! “
همسات :- ” لكنها طفلة .. حلوة … يا لضياعها “
خرج الآن كريم زاحفا …

يصيحون به مع ركلة في الأست : – ” انهض يا كلب ” يعجز عن النهوض فيرغمونه ، ينهض ككلب سرك درب حديثا على الوقوف ، إلا أن ضربة جديدة على قفاه تجندله فينبطح بطوله ، رأسه مليء بالفقاعات و الثغرات المدماة و خطوط حمراء من شتى القياسات حولت ظهره الى لوحة تجريدية لرسام من أهل الجحيم … سرواله الأبيض الطويل ينزلق ، تشيح النساء بوجوههن .. يتضاحك الأطفال الخبثاء .. و بيد ضعيفة يعيده … وذاته لا زالت تهمس لذاته (( انتهيت يا كريم ))
قالت سيدة :- ” هذا الكريم ليس بقليل “
أجابتها أخرى : – ” هذا الذي كنا نقول عنه خلوق خجول ، (و القط ياكل عشاه ) ؟! “
أدخلوها إلى سيارة ما انفك ظهرها يومض بلون أزرق انعكس على الوجوه المحتارة بين شماتة و إشفاق ,
إحداهن تهرع اليها بالدثار فتلقيه عليها .
(( ضعت يا ندى )) ظلت تكرر في سرها
أما هو فألقوه في شاحنة صغيرة ككيس قمامة و فوق رأسه حارسان لا زالا يتسليان بنمزيق عضلاته و بتحطبم عظامه .

*****
و ضعوه في زنزانة منفردة
صور مهزوزة تتلاحق في دماغه المصدوع
زورق صدئ فوق أمواج متلاطمة
شبان مفتولو العضلات رصوا في بطنه كسمك السردين في علبة معدنية …
الكل خلفوا أفواها فاغرة و أحشاء خاوية .
يؤمرون : ” القوا بأنفسكم في اليم “
القوي يبلغ الشاطئ بعد ساعة أو تزيد ..
و الضعيف تلتهمه الجراجير و القروش ..
و سيء الحظ تبتلعه السجون …
كان من الفئة المحظوظة .. ضحكت له السماء .. صار حارس عمارة ، بسرعة اكتسب ثقة السكان ؛ يلبي احتياجانهم و يقبض ..يغسل سياراتهم و يقبض .. يكتم أسرارهم و يقبض ، امتلأ صندوقه و فاض .. أرسل لأهله الكثير .. عرّف إخوته اليتامى على طعم اللحم ، ذاق طعم التفاح .. تعرف على طعم البرتقال .. صارت له ملابس نظيفة يختال بها .
ذات مساء ابتسم لندى بينما كان يتمشى على الشاطئ فابتسمت له.
ذات مساء ثان أشار اليها أن تتبعه فتبعته الى زاوية منعزلة فتعارفا .
ذات مساء آخر أشار اليها أن تتبعه الى غرفته فتبعته .
ثم عميا معا عن كل ما عدا حبهما المجنون .

*****
دخل عمها الى دار أهلها يجر نفسه ثم تهالك على أول مقعد : –
” ضبطوها مع حارس عمارة ” قال بصوت مكلوم .
تفجعت .. لطمت خديها .. نفشت شعرها و أخذت تردد : ” يا لضياعك يا ندى .. يا لضياعك يا ندى “
– ” يريدون لها ثيابا” قالها بصوت مرتعش.
دخلت حجرة ندى ، لم تكن تجرؤ على اقتحام خلوتها من قبل فقد صارت صبية (!!!) .
ندى المدللة .. ندى المرفَّهة .. ندى الستة عشر ربيعا ، ترتبط بحارس عمارة ؟ انها لوثة .. جنون .. ربما سِحر …
تبكي بحرقة :- ” يا لضياعك يا ندى “
يدخل أخو المرحوم من خلفها ، يلقي نظرة سريعة..
أكوام من الكتب .. قلّبها .. حكايات و روايات حب كلها .. كل عنوان يتضمن حبا و كل صفحة تتضمن حبا .

بجوار المسجلة أكوام من ( الكاستات ) عربية و أجنبية .. كل عنوان يتضمن حبا ..
على رف مجاور قرب التلفاز و ( الفيديو ) رصت أشرطة الأفلام .. كل عنوان يتضمن حبا ..
على السرير كراسة تناولها .. أخذ يقرأ ما فيها .. كلها أبيات شعر ملتهبة بالحب و عبارات رقيقة كلها حب…
هز برأسه عجبا و أسفا ثم مضى متثاقلا و بيده صرة الملابس و هو يهمس في سره : –
” يا لضياعك يا ندى “

****************************
*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب