قصة

نزار ب. الزين*

            كان سعيد بطبعه أبعد ما يكون عن العواطف المشحونة بالخيال ، إنه عملي و عملي جدا ؛ فجفاف تنشئته و افتقار مناخ أسرته إلى الدفء بوفاة والدته المبكر ، جعلاه واقعيا و أقرب ما يكون إلى ما يتخيله كناب قصص الخيال العلمي عن الإنسان
( البيوني ) أي الإنسان نصف الآلي .
و جاء سفره إلى أوربا لإتمام دراساته العليا ، جاء معمقا لخطوط الصورة ؛ فهناك كل شيء واقعي جدا ، و الرومنسية التي نشأت هناك دفنوها مع ملايينهم الأربعين التي التهمتها حرب السنوات الست العالمية .
و تمتع سعيد بواقعية أوربا ، إلا أنه كان من الذكاء بحيث استثمر كافة جوانبها بما في ذلك الجدية وقت الجد و النظام حيثما يتوجب النظام ، و التخطيط البعيد حتى في الأمور العاطفية التي نظر إليها – مثلهم – كحاجة بيولوجية حتى أنه لم يسمح لنفسه أن بستقر في علاقة ما أكثر من أيام أو أشهر خشية التعلق أو الإرتباط ، فلما عاد إلى البلاد عاد خاليا من أية مسؤوليات عاطفية و لكن بذكريات عذبة تكفي لملء أوقات فراغه حتى آخر العمر .
أما رشا فقد أصابت من الحب الوالدي ما جعلها تشعر بالإشباع ، أما رصيدها من الجمال فقد أتخمها بدوره بعبارات الثناء و الإعجاب و الغزل ، بحيث لم تعد بحاجة إلى أكثر مما نالته ، فامتنعت عن الخطاب و أيدها والداها من طرف خفي ؛أما والدها فقد عاف الطب تحت إغراء السياسة ففشل في كليهما معا ، و والدتها المحامية التي أصابت نجاحا في مطلع حياتها العملية بدفعة قوية من نفوذ شقيقها السياسي و الصحافي المعروف ، و لكن تحت تأثير الهزات السياسية التي تعرض لها البلد ، خبا نجمها بنفس السرعة التي تألق بها ؛ و هكذا تحول فشلهما المأسوي إلى مجموعة من الأنماط التعويضية ، أولها توهم الفوقية و آخرها إجترار ذكريات الأمجاد و حكايات المؤامرات التي حيكت ضدهما ، و ظلا كذلك حتى نفّرا الناس منهما ، فتقوقعا و ضما من ثم ابنتهما إلى قوقعتهما.

*****

عاد سعيد إلى بلده بنية طيبة ليقدم إليه ما اكتسبه من علم و معرفة ، فجابهته دوائر يحكمها التخلف ، و مديرون يخشون العقول المتفتحة ، فبدأت حماسته تخبو ونواياه الطيبة تختنق ،و إن هو لم يعد إلى جامعته في أوربا التي قدم إليه أساتذتها كل إغراء ممكن لإبقائه في كنفهم فقد هم ؛ و بينما هو في أوج أزمته تعرف عليها .
كان قد أعد برنامجا لإحياء صلاته بأقاربه و كانت زيارة القوقعة في ذيل القائمة ،و هناك رآها لؤلؤة فريدة بهرته و أنوثة طاغية صعقته ، و الأغرب أنه بهرها بدوره و صعقها ، و على الطريقة الأوربية طلب منها مرافقته في جولة و تجاوزا لانطوائيتها العتادة وافقته، و من خلال دهشة والدتها و ذهول والدها تسللا خارج القوقعة .
أسلمت يدها ليده دونما تحفظ و حدثته عن نفسها و كأنها تعرفه منذ سنين و حدثها عن نفسه كمن يتحدث إلى نفسه ، و في آخر المشوار قال لها بواقعية فاقت كل رومنسية : ” أحببتك يا رشا ” فردت عليه دون إبطاء أو تردد أو شعور بالحرج : ” و أنا أحببتك يا سعيد ” .
و في اليوم التالي ، ذهبت إحدى قريبات الطرفين لتجس النبض – و هم يفعلون ذلك في الشرق العربي تجنبا للمواقف المحرجة – و من وراء أنفه الشامخ و ركام عقده النفسية ، أجابها ببرود : ” أنا لا أزوج ابنتي إلا لمن كان أبوه طبيبا و أمه محامية !!!!! “
صدمه الرد و جرحه ، إلا أنه بعقليته الواقعية تمكن من لعق جرحه و امتصاص صدمته ، فلم تقتله كما فعلت بروميو و لم تفقده رشده كما فعلت بقيس و لكنها دفعته إلى الغربة من جديد ، فقد لاحت له فرصة عمل جيدة في إحدى دول الخليج فسعى إليها بدون إبطاء .


*****

و دارت عجلة الزمن خمس دورات و نصف الدورة ، حقق فيها سعيد نجاحا مرموقا و رصيدا ماليا جيدا ، و ذات يوم دخل إلى أحد البنوك لمتابعة إحدى معاملاته و عندما لم يجد مدير البنك قادته السكرتيرة إلى نائبته ، و خلف مكتبها الفخم رآها ، اللؤلؤة الباهرة نفسها و الأنوثة الطاغية ذاتها . شد على يدها هامسا و قد باغتته المفاجأة : رشا ؟؟!! فردت عليه بابتسامة أذابت معها كل فتنتها ، و من خلال زفرة حارة خرجت من شفتين ملتهبتين نطقت باسمه : سعيد ؟؟!!! و تعانقت من ثم العيون ؛ و من خلال دهشتها أدركت السكرتيرة أنها أمام موقف فوق العادة فآثرت الإنسحاب.
نظرت إلى خاتمه بضيق ثم سألته بنغمة مزجت العتاب بالأسف :
– تزوجت ؟
– في بلد لا يصلح للعزاب لا بد من الزواج .
– جميلة ؟
– لم يعنني الجمال كنت أطلب زوجة و حسب .
– أهي من عائلة أعرفها ؟
– بالتأكيد ليست من مستواكم ، فأمها ليست محامية و أبوها ليس طبيبا !!!!
فضحكت كما لم تضحك من قبل و هي تجيبه متسائلة :
– ما زلت تعاني من العبارة ؟
– ما زلت أشعر بالغثيان !
– أهذا ما أبعدك إلى الخليج ؟
– أتسخرين ؟ و أنت ماذا أبعدك ؟
– تعرّف والدي إلى سفير هذا البلد فرجاه …
– رجاه و توسل إليه أن يتواضع فيقبل العمل في بلاده !
فضحكت ثانية ثم سألته :
– أناقم عليه إلى هذا الحد ؟
– ……………………….
– كنت أتوقع منك بعض نضال …
– كان الرد موحلا بحيث بحيث شل حركتي ، و أنت هل ناضلت ؟
– فعلت و تمكنت من إقناعهما بعد لأي ، و لكنك كنت قد فررت بعيدا!
– رشا ، اعذريني ، كانت الصدمة أكبر مما أحتمل .
صمتا بعض الوقت ثم قالت و هي تغالب دموعها :
– دعك من حادث طوته السنون ، ثم سألته بغتة:
ثم أضافت :
– تحبها ؟
– اعتدت عليها !
– سعيد معها ؟
– بل تعيس ، قدمت لها كل ما تريده و لم تقدم لي و لطفليّ غير النكد ، تذمرها لا يتوقف و جشعها بلا حدود ، و قد تنكرت بلؤمها لكل الناس بما فيهم هؤلاء الذين عرّفوني بها ، فأصبح حالي – إجتماعيا – كحال عائلة أرستقراطية أعرفها الزوج فيها طبيب و الزوجة محامية !
– سعيد أرجوك توقف عن التنديد بهما فهما والدي .
– و أنت؟ ألم تتزوجي ؟
– صعب علي أن أتركهما فقد تقدمت بهما السن ؟
– عاجزان ؟
– كلا و لكنهما طفلان كبيران و أنا أمهما الحانية ؟
– ألم يحن وقت فطامهما ؟
– سعيد ، لعلك تنتقم منا بكلامك الجارح هذا ، ألن تكف ؟.
– رشا ، اعذريني فقد طعنت و الجرح لما يندمل .
– سلامتك !
قالتها برقة أججت جمر الهوى المكبوت فاشتعل و أنار المتواريات كافة بما فيها تلميحاتها الخجلة ، و ما لبثت شرارة مجنونة أن افلتت من عينيه فنقلت إليها النار .
و صمتا من ثم لفترة يحاولان إخماد اللهيب و لكن دون جدوى .
دعاها لتناول طعام الغذاء في أحد الفنادق فقبلت بلا تردد ثم ما لبثا أن أكملا المشوار !


*****

في المساء هتفت رشا إلى والدتها هامسة و لكن حاسمة : ” ماما .. آن الأوان لأبتعد عن حضانتك التي طالت إلى الثلاثين و أعتقد أنني من النضوج بحيث أملك اختياري ، قبلي والدي و قولي له أن شروطه أهدرت ست سنوات من عمري ، و لكن تأكدا أنني أحبكما . “
و هتف سعيد إلى زوجته : ” سيتصل بك محاميّ غدا ، ليناقشك حول حقوقك و حول مصير الطفلين تفاهمي معه بهدوء رجاء “

—————————–

*نزار بهاء الدين الزين

 سوري مغترب