قصة قصيرة

نزار ب. الزين*

المكان : منزل صغير ملحق بمسجد جامع  في أحد أحياء دمشق القديمة .

الزمان : أربعينيات القرن العشرين .

الأبطال : ثلاث نسوة – سيدة و ابنتيها الشابتين –  يقمن كل مساء  بلف التبغ على شكل  

( سغاير ) ثم يضعن كل مائة لفيفة في صندوق  ؛ اذ لا زال بعض المدخنين يميلون الى شراء التبغ الملفوف يدويا و خاصة اذا كان التبغ حمويا . أما أثناء النهار فالفتاتان تذهبان الى ( المعلمة ) لتعلم الخياطة و التطريز ، و قد أوشكتا على اتقان الصنعة .

بطل آخر : هو ( الشيخ أبو الخير )  زوج السيدة والد الفتاتين ، هو مؤذن الجامع و شيخ الكتّاب،  حيث يرسل اليه أهل الحي صبيانهم لدراسة القرآن .

محور حياتهم جميعا : محمد خير الذي يلقبونه ( خيرو )  فهو آخر العنقود. عندما حصل ( خيرو ) على الشهادة الثانوية (البكالوريا )  اقترح أن يكمل دراسته الجامعية في مصر ، رغبته أن يكون مهندسا زراعيا فهذا التخصص لا زال نادرا في سورية .

و كان ما أراد ، و بادارة أم الخير الصارمة  تمكنوا من إرساله الى مصر و من تزويده من ثم بأسباب حياة جامعية  مقبولة .

 و هكذا أصبح ( خيرو ) أملهم جميعا بانتشالهم من الفقر .

*************

أربع سنوات تمضي و ( خيرو) بعيد عن الأعين ساكن في القلوب ؛ و هاهو الآن  يعود حاملا شهادته الجامعية و أيضا  لقب  مهندس زراعي .

 لقد أقبل الفرج ، سوف تستريح الوالدة من لف السجاير و يستريح الوالد من تعليم الصبيان  و سوف تلتفت الفتاتان الى نفسيهما فقد بدأتا تشتهران كخياطتين بارعتين إلا أنهما رفضتا عروضا كثيرة للزواج ؛ فقد كان  لديهما هدف أنبل هو بناء مستقبل جيد لشقيقهما ( خيرو)  و قد حصل !.

و لكن في ذهن ( خيرو ) كان ثمت ( موال آخر )

لاحظوا اكتئابه :-

– ( تقبرني خيرو ) أخبرني ما الذي يزعجك  ؟  سألته أمه متلهفة !

– ( تكفني خيرو ) ما الذي يضايقك ؟ سألته شقيقته عاتكة بإلحاح !

( عيوني خيرو ) شاركني همومك نفسي فداك ! ناشدته شقيقته عائشة !

أجابهنّ بعد تردد طويل :- ” عرضوا علي وظيفة مدرس في ثانوية ريفية براتب لن يغطي ثمن ملابسي ” سألوه :- ” هل بالامكان أفضل مما كان ؟ ”  أجابهم متحسرا :- ”  توجه زملائي  الى بلد مجاور للحصول على درجات علمية أكبر ترفع من شأنهم ” .  فحلّفوه و ألحوا عليه أن يواصل و هم من ورائه .

**************

لم تتمكن أم الخير من متابعة لف التبغ فقد أصبحت عمشاء و لم يستطع الشيخ أبو الخير من متابعة ادارة الكتّّاب  فقد تكررت اصابته بالدوار و حالات الاغماء ، كما لم يعد بوسعه الصعود الى المئذنة للقيام بواجبات الأذان ، و ما لبث أن فصل من عمله ثم طلبوا منه ترك المنزل  فهو منزل   مخصص للمؤذن و حسب .

الا أن الفتاتين و قد أصبحتا خياطتين شهيرتين ، تمكنتا من استئجار بيت مجاور ثم من شرائه  و كذلك  من متابعة  الهدف  دون ابداء أي تذمر ، ذلك ان   ( خيرو ) – الله يرضى عليه –  يتقدم و أخباره من  ( استمبول ) مفرحة  تفيد بتفوقه المستمر  و لسوف يحصل على درجة  علمية متقدمة  قريبا .

 كان محمد خير متقدما بالفعل ، خلوقا و ودودا ، حاز على اعجاب أساتذته وحب زملائه ، و منذ السنة الثانية عيّنه  مدير القسم رئيسا لمجموعة بحث تضمن ادارة حدائق ثلاثة قصور لأثرياء محليين اضافة الى حديقة البلدية . و كلها أعمال مأجورة ملأت جيبه  الا أنه لم يتوقف عن قبول  مساعدة   شقيقتيه .

حزن محمد خير عندما علم أن مرضا عضالا أقعد والده و جعله طريح الفراش غير قادر حتى على تناول طعامه ، فأرسل لعاتكة شقيقته الكبرى  رسالة  رقيقة طلب منها في نهايتها ألا تهمل و شقيقتها مداواة والده و العناية به مقترحا ايقاف مساعدته الشهرية فقد أصبح لديه ما يكفيه . أرسلت اليه عاتكة  كبرى شقيقتيه  تستشيره  حول خطوبتها فقد طلب أحد الأقارب يدها ، فرد عليها مباركا و بنفس الوقت متسائلا : – ” هل تفهم خطيبك ظروفك المادية و مسؤولياتك تجاه والديك ؟

 كان ( خيرو )  قد تعرف على ابنة استاذه مشرف البحث و بدأت تتكون بينهما علاقة وطيدة ما لبثت أن تحولت الى عاطفة حب شجعها والدها  و كانت هديته لهما ترشيح ( خيرو ) – وقد نال  درجته العلمية بمرتبة شرف –  إلى وظيفة كبرى في احدى  منظمات  الأمم المتحدة .

 الفصل الثاني

المكان : منزل صغير عبارة عن قبو عمارة في احد أحياء المدينة الجديدة

الزمان : ستينيات القرن العشرين

( خيرو ) يقرع باب المنزل فتهرع شقيقته لاستقباله معانقة باكية ، ست عشرة سنة مضت دون أن ترى وجهه .

– ستة عشر عاما يا ظالم ؟!

–  هي الظروف يا ( عيوش ) أنت تعلمين ظروف الزواج و العمل.

– والدك توفي و هو يردد اسمك ، كان لفظ اسمك يستغرق  منه خمس دقائق أو أكثر بينما عيناه ملآى بالدموع  وأمك –  يا حسرتي – كانت تلهج باسمك و هي على فراش الموت ، أمنيتها كانت أن تراك قبل أن تمضي . و أجهشت بالبكاء ، ثم أضافت بعد أن تمالكت نفسها :-

– ظل والدك طريح الفراش سنة كاملة  و هي تخدمه ، و لم تكمل المسكينة أشهرا من بعده !

– تلك هي حال الدنيا يا أختي ! ليس بوسعنا غير تقبل قضاء الله و قدره !

نفث زفيرا حارا ثم أضاف :

– و عاتكة ماهي أخبارها ؟ لكم أنا مشتاق إليها .

 – مشتاق ؟ ( خيرو )  مشتاق ماهذه الكلمة الكبيرة ، انها أوسع منك .

 – أتتهكمين عليّ يا عيوش  بعد كل هذه السنين ؟  

– أعوذ بالله إنما أنا أمزح و حسب ؛  أخبارها تعيسة ، جد تعيسة ؛  لم توفق بزواجها ، أصيبت بتكلس العمود الفقري الذي حولها الى نصف عاجزة ، لم يحتمل زوجها الوضع فتزوج من أخرى .

– عديم الوفاء . قالها بغضب شديد .

 – الوفاء ؟! انه تعبير فارغ من المضمون ! أجابته ساخرة و أضافت : لقد ولّى زمان الوفاء يا أخي !  

– عدنا الى التهكم ( و تلطيش الكلام ) ، قالها  بشيء من الغضب ، فتداركته قائلة :

-لا تتحسس مني رجاء ، فقد حرمتنا منك ستة عشر عاما ، تزوجت و أنجبت  ( و ختيرت ) و أنت بعيد عنا و كأنك  لست  منا ؛  ثم  انتبهت  فجأة     فسألته متلهفة :

– أين زوجتك و وولديك ، لم لم تحضرهم  معك ؟

 – في الفندق ، ظننت أن بحثي عن عنوانك سيستغرق مني وقتا طويلا فآثرت تركهم يستريحون من وعثاء السفر . لم لا ترتدي ثيابك و ترافقيني لزيارة عاتكة ، ثم أصحبكا معا الى الفندق لتتعرفا على أسرتي الصغيرة ؟

– لم لا تذهب فتحضرهم بينما أقوم باستدعاء عاتكة ؟

 سألته مقترحة فأجابها على الفور :

– للأسف ليس بوسعي ذلك ، هذه الليلة سوف نغادر ؛ انتدبت الى دولة خليحية و عليّ أن أتسلم عملي خلال يومين !

– أبعد كل هذه السنين نراك كعابر سبيل ؟ ماذا فعلنا لك لتكون بكل هذه القسوة ؟ لقد توفي  والداك  بحسرة فراقك و ها أنت  تقتلنا بيديك !

 – ( عيوش )  لا تظلميني ؛  الظروف أقوى و الحياة  تحتاج الى  واقعية  و عمل دؤوب.

 – تقصد لا مكان للعواطف في قلبك  أو للأهل الذين فنوا حياتهم من أجلك !

 أطرق برأسه – ربما خجلا – إلا أنه لم يجبها ، فأكملت قائلة برنة حزن :

 – ستجد عاتكة في حالة مادية سيئة ، فزوجها يقدم إليها و أولادها الحد الأدنى ، و لم يعد بوسعها الخياطة ، و أنا  أيضا لم يعد بوسعي الخياطة ، لدي رجفة في يدي ،  أنا الآن موظفة براتب محدود كمعلمة خياطة في مدرسة للتعليم الفني ، أساعدها قدر استطاعتي إلا أنني أشعر أني مقصرة . أجابها على الفور متأسفا:

 – ليت بامكاني مساعدتها  ، ولديّ  بالمدارس الأمريكية بسبب ظروف عملي في الأمم  المتحدة و تنقلي من  بلد  إلى  آخر ، و هي  مدارس  تأكل  مني  الأخضر  و اليابس  !

أنا آسف يا أختي !!

آسف!!

——————————

*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب