أقاصيص واقعية   

نزار ب. الزين*

1– واقعة كالخيال *

     الطفلة حياة و عائلتها في جولة سياحية ، قادتهم في نهايتها إلى جوار السد العظيم ، الطفلة ذات العاشرة تعشق الطبيعة رغم صغر سنها ، فلكم أذهلتها – و هي بنت الصحراء – قمم الجبال بثلوجها ، و سفوحها بغاباتها ، و ذاك الساحل الجميل الممتد إلى ما لانهاية ، و أمواج البحر تداعب شواطئه ، و اليوم هاهم أمام السد العظيم الذي طالما سمعوا عنه .

     و قفت تتأمله و الشلال الهادر المنحدر من نفق فوق جانب جسمه الشاهق ، لترتطم مياهه الساقطة بسرعة ، ببداية المجرى الجديد للنهر ،  مشكلة غيمة ضبابية من الرذاذ ، الذي أخذ الهواء يقذف  بعضه نحو وجهها ، فتضحك مبتهجة ، ثم تفرد ذراعيها لاستقبال نفحة جديدة ، ثم لتضحك مسرورة من جديد .

    و أخذت تقترب من الحافة غير هيابة ، أملا باستقبال كم أكبر  من الرذاذ ؛

و لكن …

و على حين غرة  ، زلت قدمها فوقعت باتجاه النهر الهادر ؛  انتبه /علي/ شقيقها الأكبر ، فصاح : ” حياة وقعت في النهر يا أبي !!! ” ؛

و هرع  الوالد باتجاه النهر ..

و هرع من ورائه الرجال الذين تصادف وجودهم هناك …

و هرعت وراءهم الوالدة و هي تلطم خديها  و تولول كمن أصابها مس من الجنون ….

و إذ لمحها  والدها و قد أخذت المياه تتقاذفها ، ألقى بنفسه في النهر،

ثم ..

تبعه بعض الشبان ،

ثم …

 تمكن أحدهم من الإمساك بثوبها ،

ثم ….

جرها إلى الشاطئ ..

   عندما مددها على الأرض المعشوشبة ، كانت جثة هامدة ، فو جهها الذي  فقد دماءه  فغدا أبيضا  كالكلس ، و نفسها  المتوقف ، و قلبها  الذي  كف  عن  النبض ..كلها  مؤشرات  على وفاتها .

  كادت الصدمة تفقد والدها حياته ، أما الوالدة فأخذت تصيح  : ” حياة ما هي بميتة .. حياة حية .. انهض يا ابا علي ، فلننقلها إلى المستشفى حالا .. هيا يا أبا علي ، عد إلى رشدك فلا وقت  للأحزان .. ابنتك  حيّة  يا  رجل.. قلبي  يحدثني  بذلك ..قلبي  يحدثني  بذلك ..و قلب الأم  دليلها !.”

هب أبو علي ،  فحمل الطفلة إلى سيارته و ألقاها – من ثم – في حضن أمها في المقعد الخلفي ، و صعد علي إلى جانبه ، ثم انطلق بأقصى سرعة

و  في أحد المنعطفات ، انحرفت السيارة لتصطدم بالصخور …

أصيبوا جميع بجروح مختلفة …

و لكن حياة عادت إلى الحياة !

2 – من ترح إلى فرح

     أبو فياض و هذا هو لقبه ، شاب في الثلاثينيات ،  أمّي لا يميز بين الأف و العصا كما يقال ، و لا يتقن من الأعمال سوى حمل الأثقال ، يكلفه تجار السوق بنقل البضائع من و إلى مخازنهم ، و ما يحصله من مال  مقابل تسخير عضلاته ، ينفق منه على عائلته الصغيرة المكونة من والدته ، و زوجته الشابة ، و طفله حديث الولادة …

     و ذات يوم ، عاد أبو فياض ، من عمله متعبا ، هرعت زوجته كعادتها ، فأحضرت         ” طشت*” الماء الساخن و ابتدأت تدلك قدميه ..

و فجأة ..

    انقلب الرجل فوقها ، و بصعوبة تمكنت زوجته بمساعدة حماتها ، من الخلاص ، و عندما قلبتاه على ظهره ، لاحظتا الزبد و قد تجمع  فغطى فمه ، و لات من نفس ؛ فأخذت المرأتان تولولان .

    تجمع الجيران ، ثم تمكنوا من الدخول عنوة ، ليشاهدوا الرجل و قد فقد الحياة ، إلا أن والدته رفضت الإعتراف بموته ، و توسلت أهل الخير ليحضروا له الطبيب أو ينقلوه إليه ..

كان الوقت متأخرا .. و لكن الطبيب حضر ، ليعلن وفاته ثم ليكتب لهم شهادة وفاته ..

أما زوجته الثكلى فلم تكف عن الندب و البكاء ،

     و أما والدته المكلومة فما انفكت تردد : ” ابني ليس  ميتا .. قلبي يحدثني بذلك  !”

غسَّلوه .. سجوه  في التابوت .. رفعوه على الأكتاف ، و كلهم أسى و حزن على شبابه ..

حتى تجار السوق خرجوا  في جنازته و قد تكفلوا بجميع مصروفاتها ، و كلهم يلهجون بطيب أخلاق المرحوم أبي فياض و أمانته …

    أما زوجته الثكلى فلم تكف عن الندب و البكاء و الإشادة بطيب أخلاقه و طلاوة لسانه  و حسن معاملته …

   و أما والدته المكلومة فما انفكت تردد : ” ابني ليس بميت .. قلبي يحدثني بذلك .. و قلب الأم  دليلها …و قلب الأم لا يخيب حدسه …! “

في منتصف الطريق إلى المقبرة ، شعر حاملو التابوت بحركة غير عادية فيه ، ظنوها في البداية كرامة ،

ثم ..

سمعوا نقرا ،  فأجفلوا ..

ثم …

أنزلوا التابوت على الأرض و قد انعقدت ألسنتهم دهشة ،

ثم ….

رفعوا الغطاء ،

ثم …..

ابتعدوا مذعورين ، حين شاهدوا الميت و قد جلس و هو يحاول التخلص من كفنه ؛

ثم ……

انقلب العزاء إلى فرح ….

———————-

*الطشت : وعاء عميق

3 – الحاسة المجهولة*

     اشتعل وجهه بالحمى و أخذ يهذي ، أمه القلقة جثت إلى جواره و ما انفكت تبلل راسه بماء بارد ، عسى أن تطفئ به جمر حرارته ، بينما كانت عيناها شاخصتين  نحو الباب .

    عندما حضر الطبيب متأخرا ، جس نبضه ، استمع إلى ضربات قلبه الواهنة ، أعد العدة لحقنه بالدواء ، و قبل أن يغرس الحقنة في جلده ؛ ارتعش جسد المريض

ثم … تشنج ،

ثم…. همد .

هز الطبيب رأس  يمنة و يسرة ، ثم أعاد الحقنة إلى موضعها في حقيبته .

في ليلة دفن الطفل “إدوارد” حلمت به أمه حيا يصرخ مستغيثا بها …

في الليلة الثانية تكرر الحلم …

في الليلة الثالثة ، صاحت بمن أحاطوا بها : / إنني لا  أحلم ، إنه  يستغيث ، و سأغيثه !

ثم ..

توجهت إلى المقبرة ، فلحقوا بها ..

ثم …

و بعد إلحاحها ، نبشوا القبر …

ثم ….

فتحوا التابوت ,,,,

فاقشعرت أبدانهم عندما رأوه  متكورا على نفسه ، في غير وضع الإستلقاء الذي سجّوه به !

نقل بسرعة إلى الطبيب ، الذي أجرى له الإسعافات اللازمة …

   جرت أحداث هذه القصة في بلدة  / بيركهامستلد / في إنكلترا في أواخر القرن التاسع عشر ، و عندما شب ” إدوارد ” هاجر إلى الولايات المتحدة ، و عاش فيها حتى سن الواحدة و التسعين …

*مترجمة عن الإنكليزية

القصة قرأتها منذ فترة طويلة و تأثرت بها ، و بينما كنت أبحث في أوراقي ، وجدت ملاحظات كنت قد كتبتها حولها ، و لكن للأسف غاب عني كتابة اسم مؤلفها

—————–

*نزار بهاء الدين الزين

 سوري مغترب