قصة قصيرة
نزار ب. الزين
حدثني صديقي مأمون في معرض تبريره لما حصل ، فقال :
لقد أحببتها من كل قلبي ، و ربطت مستقبلي بحبها ،
و أحبتني من كل قلبها و ربطت مستقبلها بحبي ،
لم نتخيل يوما أن أمرا مهما عظم ، قادر على أن يفرق بيننا ..
عندما كنت أشتاق إليها ، كنت أحوم حول منزلها إلى أن تظهر على شرفته ،
و بلغة الإشارات كنا نتواعد للقاء في حديقة الحي المجاور العامة ؛ حيث التقينا أول مرة …
لنتبادل لواعج الهوى … و نرسم خطوط مستقبلنا معا ….
قصتنا حتى اللحظة ليس فيها جديد …
آلاف الأحبة يتبادلون لواعج الهوى كل يوم منذ الأزل و حتى الأزل ؛
قصتنا بدأت منذ انقطاعها عن لقائي ؟!
شغل بالي انقطاعها …
أقلقني …
ثم …
أخذ يؤرَِّق منامي و يمضَّ كياني …
ظننتها مريضة ،
و ظننت أن أحدا ربما شاهدهنا في الحديقة معا فأبلغ أهلها ،
و ظننت .. و ظننت.. و ظننت ..
كنت أحوم حول منزلها كالمختل عقليا ، ثم أعود لأحوم حول منزلها من جديد ،
و عيناي شاخصتان نحو شرفتها ، و كذلك قلبي و جميع جوارحي ..
كدت أفقد سيطرتي على نفسي مرارا ،
ففكرت تكرارا أن أصعد إليها ،
أن أقرع بابها ..
أن أسأل عنها..
و لكن بأية صفة ؟ كنت أتساءل ، بينما كنت أتجرع آلام الفراق و الأفكار السوداء..
ثم ….
و في يوم ثالث أو رابع ، تقدمت مني طفلة ؛ فسألتني : ” حضرتك مأمون ؟ “
و إذ تأكدت ، ناولتني وريقة ، كتبت عليها ميادة بأناملها العاجية سطرا واحدا كاد يذهب بعقلي و اتزاني :
<< لقد تمت خطبتي ، و لم أعد أتمكن من مقابلتك ، حاولت الرفض فكان نصيبي ( قتلة ساخنة* ) ، >>
اشتعلت نار الغيرة في رأسي ،
و نار الخيبة و المرارة و اليأس ،
و نار النخوة أيضا ..
شعرت أنني مستعد لأقاتل الدنيا لأدفع عنها شر “القتلات” ما بارد منها و ما سخن ..
و لكن بأية صفة ؟!
لم أجرؤ على مفاتحة أهلي حول طلب يدها ، إذ لازلت طالبا في الثانوية العامة ، و بيني و بين تكوين نفسي بضع سنوات أخرى ..
و رويدا رويدا بدأت أرضخ للأمر الواقع ،
ثم ….
ذات يوم دُعيت إلى حفل زواج عمي الكبير …
و هناك كانت المفاجأة الصاعقة ….
كانت حبيبتي ( ميادة ) بشحمها و لحمها ، هي عروس عمي !!!!
كدت أصرخ : << هذه حبيبتي أنا >> ..
كدت أنهض لأختطفها من بين يديه …
و لكنني آثرت الإنسحاب كسير الخاطر ..
فالرجل عمّي الكبير الذي أحبه و أجله ..
فكففت عن أفكاري الحمقاء ،
ثم …..
تسللت من بين الجموع و عدت إلى داري و قد اسودت الدنيا في عيني …
لمحتني و أنا أنصرف ،
فاشتعل وجهها فجأة ،
ثم ……
اغرورقت عيناها بالدموع .
و مضت الأيام و بدأت أسلو قليلا ..
واجباتي المدرسية ألهتني …
بل كنت أسعى إلى واجبات إضافية طوعية ، كي أزداد غرقا في السلوان ..
لولا ان والدتي – سامحها الله – أرسلتني ، لدعوت ميادة إلى عيد ميلاد شقيقتي الصغرى ..
تمنعت بداية ، إلا أن حججي كانت واهية ، فاصرت والدتي ، و لم يهن عليَّ إغضابها ..
– مأمون ؟!!
همست ، و قد عقدت الدهشة لسانها …
و عقدت رؤيتها لساني ،
كان وجهها يطفح نورا …
كانت عيناها تشتعل ودا و حبا …
فاحترت كيف أبدأ ..
<< كل ذرة في كياني تهفو لضمك بين ذراعي ، يا ميادة >> قلتها في سري ..
و كأنها فهمت الرسالة بالايحاء و بالإيحاء أجابتني :
<< و أنا كذلك ، كل خلية من جسدي تهفو – اللحظة – للإتحاد بكل خلية من جسدك ، يا مأمون ! >>
ثم ….
أضافت جاهرة :
<< ليتني أستطيع أن أدعوك للدخول ، و لكن جدارا صلدا يحول بيني و بينك يا مأمون .. >>
ثم …..
أطرقت برأسي … و منعت – بعد لأي – دمعة أرادت نقل مشاعري ..
عجزت عن الإجابة ، فاكتفيت بهز رأسي علامة إداركي لما عنته ؛
ظلت تنظر إلى عينيَّ طويلا ..
و استمريت أنظر إلى عينيها طويلا ….
ثم ……
نطقت متلجلجا :
– أمي أرسلتني أدعوك ..
و لكنني قطعت العبارة لأفاجئها بسؤالي :
– هل أنت سعيدة يا ميادة ؟
أطرقت برأسها ..
صمتت فترة ليست بقصيرة ..
ثم …….
رفعت رأسها و قد ابتلت وجنتاها ،
ثم ……
أجابتني :
– أنت تعلم أنني كنت مرغمة … و أنني لم أكن أكثر من سلعة حان وقت التخلص منها قبل أن تبور
ثم ….
أضافت ساخرة :
– لم أكن أكثر من خروف تم تسمينه و علفه و تدليله ، استعدادا لذبحه في العيد الكبير..
ثم …..
أضافت بصوت هامس و لكنه مسموع :
– لا ، لست سعيدة يا مأمون ، أنت تعلم أنه يكبرني بربع قرن على الأقل ..هو بالضبط هو من جيل والدي …و قد ألغى لغة العواطف من قاموسه … و بالنسبة إليه لست أكثر من خادمة في منزله أو ممرضة تراعي أوقات أدوائه ، للسكري و الضغط و الروماتيزم …
و لكنه إنسان لطيف لم يجرحني بكلمة ، و كريم لم يبخل علييَّ بطلب ….
أطرقت قليلا برأسها ،
ثم …….
أضافت :
– و ليس لي أي أمل بالانجاب منه …
لم تسعفني فصاحة لساني أن أعزيها بكلمة ،
لم أتمكن من التعبير عن حزني الشديد إلا بعبارة : << كم أنا آسف يا ميادة >>
ثم …..
و على حين غرة ، طرَحت عليَّ سؤالا محيرا :
– إذا طلبت منه الطلاق ، هل أنت على استعداد للزواج مني ؟؟ ! أو بالأحرى هل لا زلت على حبك لي مقيماً ؟
أربكتني – حقيقةً – بسؤالها المفاجئ الجريء هذا ، فتلعثمت كثيرا قبل أن أجيبها :
– إنه عمي يا ميادة ، عمي الذي أحب و أجل ، فلا أقوى على إيذائه و الإساءة إليه ..
فأجابتني بكل جدية و واقعية :
– ماذا يضيره إذا تزوجتني بعد طلاقي منه ؟؟
ثم أضافت هامسة و قد أطرقت برأسها خجلا :
– و لعلمك فأنا لا زلت عذراء !!..
ثم …..
أضاف صديقي مأمون :
لقد غادرتها و أنا مثقل بهم جديد ..
و اضطراب جديد ..
و حيرة جديدة ..
إلا أنني لم أحاول مقابلتها ثانية ..
و بعد بضعة شهور أخرى ، علمت أن طلاقها تم ..
و أن عمي كان متفهما و تعامل مع الموضوع في غاية الرقي ..
مما شجعني على مصارحته !
فكان وسيطي لتدبير مصدر رزق جيد يسمح لي بزواجي و استمرار دراستي ..
ثم ……
كان بنفسه وسيطي لدى والدييَّ و اقناعهما بزواجي من ميادة..
ثم ……..
نأى عنا …
ثم ……….
اختتم صديقي مأمون كلامه قائلا :
– تلك كانت قصتي ، مع ” ميادة و عمي و أنا ” ، و كما ترى لم أسرقها منه … و لم يكن في الأمر أية خيانة ، كما يشاع .!.!.!.
سوري مغترب