قصة قصيرة

نزار ب. الزين

              منذ الصباح الباكر و قبل سطوع الشمس ، و قبل أن تفتح عينيها ، صعدت هيفاء إلى السطح  قفزا،  ثم أخذت تجس ملابسها المنشورة ، ثم بدأت تنتزعها عن الحبل قطعة بعد قطعة . ثم هبطت كما صعدت  قفزا  ، و هي تقول لأمها فرحة  لاهثة  :

– لقد جفت كلها يا أمي .. جفت جميعا ..

كانت فرحتها لا توصف و هي  تراقب أمها  تكويها قطعة بعد قطعة بمكواة قديمة تعمل بالفحم ، فتخرج من بين يديها  جديدة زاهية ..

بالأمس فقط اكتشفت أن لها  إخوة و أخوات ، لم تكن تعرف عنهم شيئا ..

ترى هل سيرحبون بها ؟

هل سيحبونها ؟

والدها أكد لها ذلك ..

أما أمها فلم تبدُ  سعيدة …

و لم تكن مطمئنة ..

و استمرت هيفاء في حديث الذات ….

 تخيلت نفسها بين  أذرعهم  ، يعانقونها و يمطرونها بالقبل .

فابتسمت !..

ثم تسمرت عيناها فوق عقارب ساعة الحائط  المتباطئة

*****

لا أدري لِمَ يحزنني هذا الوضع ؟

ها أن أضطر إلى العودة أعزبا ..

أولادي قساة القلوب ،

 لا أدري كيف تكونت قسوتهم على هذا النحو ؟!

أمهم – رحمها الله –  كانت رقيقة و عطوفة  ..

أما انا فما قسوت على أي منهم قط  !

بناتي رفضن البحث لي عن زوجة مناسبة ..

رفضن الفكرة من الأساس…

لن يسمحن بإحلال أي إنسان محل  والدتهن ،

تلك كانت حجتهن ….

ربما لم يسمعن بالمثل القائل << أعزب دهر و لا أرمل شهر >>

و عندما تزوجتُ من إحدى عاملات المصنع  ناصبوني العداء ..

<< تتزوج عاملة في مصنعك يا أبي ؟ تهبط بمستوانا الإجتماعي إلى أسفل سافلين يا ابي ؟ >>

<< و لكنكم  رفضتم  البحث لي عن زوجة مناسبة يا أولادي و على الأخص أنتن يا بناتي! >>

 إبني سامي، لم يتقبل الوضع على الإطلاق !

أما بناتي ، فقد رضخن – فيما بعد –  للأمر الواقع ، على ألا  يقمن معها أي اتصال ..

تلومني أم هيفاء لأنني كنت سلبيا يوم الحادثة ..

و هل كان بمقدوري أن أكون غير  ذلك ؟

إنه إبني و سندي و ساعدي الأيمن في إدارة المصنع ..

<< ماذا كانت تتوقع مني أم هيفاء ؟ >>

<< تريدينني أن أصفعه مثلا  يا أم هيفاء ؟ أم تريدنني أن أهينه أمام العمال ؟ إنه أطول مني قامة يا أم هيفاء ! >>

ما أن رآها – سامحه الله – في مكتبي  ، حتى دفعها فألقاها أرضا ..

أربكني الموقف  ..

عطل تفكيري ..

شل يديَّ ..

لها الحق أن تطلب الطلاق …

لها الحق أن تعتبرني جبانا  رعديدا ، لأنني لم أدافع عنها !

و لي الحق أن أكتفي بلومه ، فهو ابني و سندي و ساعدي الأيمن ..

أرادت الطلاق فمنحته لها دونما اعتراض ..

و لكن ما ذنب هيفاء ، أن تعيش كاليتيمة  ؟

أصبحت في الثالثة عشر  ..

و آن الأوان أن تتعرف إلى بقية أفراد العائلة ..

و أن تعيش في كنف أبيها و رعايته المباشرة ..

سامي عارض ذلك  بشدة ، قلبه قُدَّ من حجر..

أما بناتي فقد صمتن

أليس الصمت دليل القبول ؟

*****

طوال الطريق ، كان أبو سامي ، يصف لابنته هيفاء منزل العائلة ، بساحته الرحبة و شجرة النارنج الوارفة التي تتوسطها بجوار البحرة بمائها الدافق، و بطابقيه المليئين بالغرف الفسيحة  ، و إطلال بعضها على النهر !

<< ربما  ستزكم  أنفك رائحته النتنة بداية ، و لكن سرعانما ستعتادين عليها يا هيفاء >> قال لها مبتسما  ثم أضاف :-

<<  سيحبونك يا هيفاء ، و بالتأكيد سوف تحبينهم جميعا ؛ أخوك سامي  ربما  يقابلك ببعض جفاء ، و لكنه طيب القلب و سوف يغير موقفه مع الوقت ، أما أخواتك فسيضممنك إلى صدورهن و يضعنك على رؤوسهن  >>

*****

قرع الباب مرتين  كعادته ليعلم أهل الدار بقدومه ،

ثم فتحه ،

ثم تقدم و بيده يد هيفاء ،

يدفعها نحوهم ،

يقدمها إليهم ،

يتأملونها بنظراتهم  الحادة و جباههم المقطبة..

ثم …

ثم تلتفت كبراهن إلى والدها قائلة بحزم :

– أبي ..

قبل أن ترمي هيفاء خمارها ،

و قبل السلام و الكلام ،

سأرتدي ثيابي على عجل ،

و سأصحبها إلى الداية أم لطفي ،

فقد اتفقت معها مسبقا !

– و ما علاقة الداية أم لطفي بهيفاء  يا صفية ؟ يسألها والدها مشدوها ، فتجيبه :

= أم لطفي يجب أن تفحصها ..

فما يدرينا كيف كانت تنشئتها في حضن عاملة ؟

*****

 و يحتدم النقاش ، و يتحول إلى شجار …

 و هيفاء قرب الباب صامتة باكية  …

و فجأة ، تجفف دموعها ، ثم تصيح قائلة :

– أبي .. أعدني إلى أمي في الحال ..

أو أذهب لوحدي  …

———————————

*نزار بهاء الدين الزين

* نزار بهاء الدين الزين

   سوري مغترب