قصة
نزار ب.الزين *
أم وليد سيدة تجاوزت الخمسين ، زوّجت آخر أبنائها منذ أشهر ؛ فعادت بذلك إلى أيام العسل . و على الرغم من أنها في هذه السن المتقدمة و أن أبا الوليد يسبقها بعشر سنين، إلا أنهما لا زالا يتمتعان ببقايا حيوية ، تؤهله للاستمرار في دوره كموظف جاد و تسمح لها بالقيام بأعمالها المنزلية القليلة على أنغام المذياع ، إضافة إلى بعض النشاطات الإجتماعبة و على رأسها شاي الضحى ، عندها أو عند هذه أو تلك من صديقاتها أو جاراتها ، و لكنها أخذت تميل إلى الإنفراد على شرفة منزلها مؤخرا .
على أي حال فالسنون الخمسون لم تفقدها إهتمامها بالحياة الدنيا فهي طالما تعيشها فلتعشها حتى الثمالة . و كذلك فإن هذه السنين الخمسين لم تنسها اهتمامها بمظهرها أيضا ، فالمظهر اللائق باعتقادها سمة حضارية و ليس بدعة مستوردة كما يحلو للمتزمتين أن يصفوها .
قالت لها جارتها أم فؤاد ذات يوم متصنعة المزاح :
– ( مكياج) و أنت في هذا العمر ؟
فردت عليها أم وليد للحال :
– يبدو أنك فرغت لتوك من إجترار ذنوبك القديمة !
– أية ذنوب و أي إجترار ، إنك تتهربين من الإجابة ؟
– التقدم في السن في عرف المتزمتين إن هو إلا وقفة ندم قبل مواجهة الموت .
– ذلك ما قصدت ، فقد أصبحت جدة و مكانك في إحدى زوايا منزلك تمارسين العبادة ، و ليس أمام المرآة .
– أنا لست (ماسوشية) و لن أكون !
– لم أفهم … بم ترطنين ؟
– ( الماسوشية ) هي التلذذ بتعذيب الذات ، و أنا لست كذلك ، الحقيقة أنني أعتبر نفسي ولدت من جديد ، فقد أدّيت رسالتي تجاه أسرتي ؛ فأبنائي رجال ناجحون ، و بناتي زوجات محترمات ، و يحق لي الإستجمام بعد أشغال شاقة استمرت ثلاثين حولا .
– من واجبي كجارة و صديقة أن أصارحك بأن البعض بدأ يلقبك بالعجوز المتصابية !
– إسمعي يا أم فؤاد ، في إحدى رحالتنا السياحية و على شاطئ مقاطعة الشمس الإسبانية ، كان في فندقنا بركة سباحة رائعة ، لم أجرؤ على أكثر من تغطيس أطراف أصابع قدميّ في مائها بسبب شدة برودتها ، و فجأة لمحت سيدة تجاوزت السبعين من عمرها و بلا أدنى تردد قفزت إلى الماء و أخذت تداعبه و يداعبها غاطسة عائمة ، و كأنها شابة في أوج الصبا ، ثم ما لبث زوجها الذي احدودب ظهره تحت وطأة الثمانين ، أن لحقها بنفس الهمة و النشاط ؛ فتذكرت للحال عمتي ، القابعة في إحدى زوايا منزلها- كما اقترحت علي – تمارس طقوس العبادة في إنتظار أجلها ، و هو ما دعيتني إليه ؛ فقارنت بين الحالين ، بين محبي الحياة التي منحت لهم ليحيوها ، و بين المصرّين أن يكونوا أمواتا و هم أحياء ، و لذا لن أعر أي كلام من هذا القبيل أي إلتفات ، و أحذرك إن عدت إليه فلسوف نخسر بعضنا بعضا.
– نحن شرقيات يا أم وليد !.
– و هل كتب على الشرقيات أن يكنّ أحياء أموات ؟ من قال هذا ؟
*****
تلك كانت فلسفتها ، فبدت أمام الآخرين متحررة ، و هاهي أم فؤاد تنعتها بالعجوز المتصابية ، إلا أنها لم تتعرض طوال تلك السنين – بسبب مظهرها – إلى أية متاعب ، إلى أن برزت عمارة جديدة على الضفة الأخرى من الشارع و التي سرعانما عجت بالساكنين .
كانت أم وليد قد اعتادت على الوقوف طويلا على شرفة منزلها مستمتعة بمتغيرات البحر الذي تطل عليه ، بما ينعكس عليه أو ما يضطرب فوقه ، أو بمشاهدة حركة المرور المتنامية على الشارع من تحتها مع أنه شارع فرعي ، و ربما يحلو لها في يوم مشمس – إذا كان من أيام الشتاء – أن تسترخي على مقعد وثير تطالع مجلة أو تقرأ كتابا .
و ذات يوم لفت نظرها في العمارة الجديدة ، رجل في أواسط العمر برز نصفه من وراء نافذة منزله مركزا بصره نحوها . لم تعر الأمر – بداية – أي أهتمام ، و لكن عندما لاحظت إصراره مدت رأسها نحو شرفة جارتها ، لعل هناك ما يلفت نظره ، و لكن لا أحد هناك ، ثم دلت راسها نحو شرفة الطابق الأدنى ، فلم تجد أحدا ، فتعجبت و لكنها تجاهلته ، إلا أنّ وقفته المتحدية و نظراته الوقحة أربكتها ، فولجت دارها مستاءة صافقة باب الشرفة بأقصى ما تمتلكه من قوة .
و تكرر الموقف و تكرر معه ضيقها و تذمرها ” حتى الشرفات الخاصة أصبحت مصدر إزعاج ” همست في سرها و أضافت ” ذلك إذاً ما يفسر فراغ تلك الشرفات في كل مكان و التي تحولت إلى مجرد زخارف ” و لكن بعزيمة صادقة بدأ تذمرها و استياؤها يتحولان إلى تحد فأكملت حديثها إلى ذاتها قائلة : ” لن أستسلم ، هذه شرفتي و جزء من بيتي و سلواي في وحدتي ، ابدا لن أستسلم و لن أتنازل عن حقي ”
*****
ثم إنتقل ( دون جوان آخر زمان ) إلى الخطوة التالية ، فقد أخذ يستعرض مفاتنه و أية مفاتن ، كرش مدلى إلى ما بين ساقيه كحامل في شهرها الثامن ، و شعر أسود كثيف يغطي الصدر و الكتفين مذكرا بأحد أجداده من فصيلة قرود ( الأورانج أوتان ) ، ثم يبدأ بممارسة ألعابه الرياضية و إذ ينتهي من إستعراض رشاقته المزعومة ، يجفف عرقه شاخصا ببصره الهيمان نحوها .
أما هي فقد تطور شعورها من القرف و الإشمئزاز إلى شعور سائح في حديقة الحيوانات ، إلا أنها ظلت صامدة .
ثم خطا خطوة أكثر تقدما ،فقد اشترى طائرا من نوع ( الكناري ) في قفص ثمين زينه بوردة حمراء ، فما أن تظهر أم الوليد في شرفتها ، حتي يبرزه من نافذته ، ثم يشغل شريطا لحوار غنائي عراقي درج مؤخرا في الإذاعات و التلفزة :
كلمة و نظرة و إشارة
حبيناك يا جاره
لكن تقلانه علينا
و ما تريدين الزياره
و يحملق نحوها كأنه ينتظر الإجابة بينما تستمر الأغنية صادحة:
أنت كل الأماني
أنت ورده بجِناني
صارت دنيانا جنه
و حبنا كثرت أخباره
و إذ لا يسمع الإجابة إلا من جوفه يلتفت إلى طيره مداعبا مناغيا أو مطعما وساقيا ، و بين مداعبة و أخرى كان لا بد من استراحة على حافة النافذه تتركز خلالها النظرات الولهى ؛ أما أم وليد فكانت تضحك في سرها منصرفة إلى مجلتها أو كتابها .
*****
و ذات يوم دبت الحياة في بيته ، سيدة فتية فاتنة ، و إبنة تقاربه طولا في الرابعة عشر على الأقل و نسخة طبق الأصل عن والدتها ، و صغار آخرون أخذوا يتحلقون حوله أينما جلس و يرافقونه أينما راح أو غدا . ففرحت أم الوليد فهذه عائلته عادت من إجازة الصيف ، و لكنها لم تعلم أن الستارة أقفلت عن الفصل الأول ليس إلا .
و في أحد العصاري ، عزل نفسه في غرفته و أوصد بابها دون أفراد أسرته ، ثم بدأ يمارس رياضته المضحكة ثم انتقل إلى التعبير عن عواطفه الملتهبة عن طريق طائره و مسجلته ؛ هنا ثارت ثائرة أم الوليد ” هذا الكلب آن أوان تأديبه ” همست في سرها و ابتدأت من ثم تقلب الخطط .
حكت لجاراتها قصة هذا المراهق الكبير ، و أخذت كلما أوشك على تمثيل دوره تدعو إحداهن لتراقب تهريجه السخيف ، حتى أصبح قيس أم الوليد – كما لقبنه – مثار تندرهن و تسليتهن .
أشاروا عليها بالشكوى للشرطة و لكن الفكرة لم تعجبها ؛ و بعد بحث و تمحيص اتفقت مع جاراتها على خطة فاستعدين لتنفيذها .
ظهر البطل على الشاشة كالعادة و بدأ بتمثيل دوره ، توقفت عن قراءة المجلة و أدارت رأسها نحوه ، ترك استعراضه و توجه إلى النافذة ، فاتكأت بدورها على حافة شرفتها ، ابتسم لها فردت الإبتسامة ، قبّل الكناري فقبلت المجلة ثم تركتها تسقط من بين يديها عامدة ، فما كان منه إلا أن اندس بلمح البصر داخل ثوبه العربي و في ثوان كان تحت الشرفة يلتقط المجلة .
ألقى نظرة وجلة نحو منزله و إذ اطمأن أن أحدا لم ينتبه إليه أخذ يصعد الدرج نحو الطابق الثالث قفزا ، و ما لبث أن قرع باب أم الوليد و هو يلهث ، و فتحت الباب ثم سألته مقطبة الجبين : ” نعم ! من حضرتك ؟ و ما ذا تريد ؟ ” أجابها و هو لا يزال يلهث : ” هذه المجلة وقعت منك سيدتي ! ”
و قبل أن يكمل كلمات إضافية ، كانت عيناه قد استوعبت ( المقلب ) قبل أن يستوعبه عقله ، فتعثرت الكلمات في فمه : ” نفس الطول … نفس الثوب … نفس تدويرة الوجه ..و لكنه مليء بالتجاعيد ، نفس الشعر و لكنه مليء بالشيب ، لقد كنت أغازل عجوزا … يا للخيبة ” همس إلى ذاته مقهورا.
في هذه الأثناء برزت أم فؤاد من وراء باب بيتها و كذلك فعلت أم جهاد و أم أحمد و أم وائل ، و فجأة وجد ( دون جوان آخر زمان ) نفسه محاطا بعيون ماكرة و ابتسامات ساخرة ، فتراجع نحو السلم مذعورا و قد اشتعل وجهه بنار الخجل و ساح جبينه فاختلط دهنه بعرقه ، ثم أخذ يهبط السلم قفزا كما صعده ، و عندما سمع ضحكاتهن المجلجلة أحس و كأنهن يصفعنه على قفاه فكاد يفقد توازنه أكثر من مرة .
و ما أن إبتعد قليلا حتى رفعت أم الوليد يدها بشارة النصر .
————————–
سوري مغترب