قصة قصيرة

نزار ب. الزين*

     جلس  فادي على حافة الشرفة ، و أخذ يتأمل منظر الوادي الخلاب ، تملؤه أشجار الصنوبر كآلاف المظلات الخضراء تنتشر في كل مكان، بعضها ينحدر عميقا إلى قعر الوادي بينما يرتفع بعضها الآخر حتى حواف القمم ؛ التلال كلها و الجبل مكسوة بها ، عدا مساحة صغيرة في قمة الجبل الشرقي ، ظلت عارية .
و ثمت كتل صغيرة من الغيوم تسرع خطاها نحو الجبل و قد بدأت تلعب لعبة التحول ، تغير شكلها في كل ثانية فتثير خياله ؛ تارة يراها كحيوان جامح فقد رأسه ، و تارة على شكل رأس فتاة بلا ملامح ، و حينا تأخذ شكل سمكة لا تلبث أن تتطور إلى فيل أو شكل تنين متعدد الرؤوس لا يلبث أن يفقد  رؤوسه الواحد إثر الآخر  كتل تتزايد مع اقتراب المغيب و تتسارع على إيقاع نسمات صيفية عليلة ، ثم تلتقي جميعا عند سفح الجبل فتتراكم هناك في كتلة ضبابية أخذت تتضخم شيئا فشيئا .
أحس فادي اللحظة بقشعريرة ، فارتدى على الفور سترته ، ثم عاد إلى تأمل المنظر الذي لا يمل و لن يمل تأمله ، بينما بدأ الناس نساء و رجالا ، شبانا و شيبا ، يتمشون أزواجا أزواجا ، ذهابا و إيابا ، على الطريق المؤدي إلى قصر البيك .

*****

كان يفكر:
هل موت بقرة يثير كل هذا الإشفاق ؟ لم تبق عائلة في القرية الأم أو في ضواحيها العالية ، إلا و زارت عائلة نعمة الله معزية : – ” المال و لا

الرجال يا روزلين ، المال و لا الرجال يا مطانيس ” الأم بكت ، و الجدة بكت ، و الأب قطب جبينه ، و الناس ظلوا يتوافدون :
” المال و لا الرجال ”
” الله يصبركم .. الله يعوضكم ”
و في العصر إمتلأ البيت عن آخره ، بعض النساء ارتدين السواد : و عبارات مثل : ” المال و لا الرجال يا أم كميل ، عوضكم على الله يا أبو كميل ” تستمر و تتكرر.
أما دعد ابنتهم ذات الثلاثة عشر ربيعا ، فلم تخرج اليوم بطوله من المطبخ ، تطهو دلال القهوة ، دلة بعد دله ، حاولت جدتها العجوز مساعدتها فكسرت بيدها المرتجفة بعض الفناجين ، فنهرتها دعد ثم دفعتها بقسوة إلى خارج المطبخ و كادت تلقيها أرضا .
يا لها من فتاة شرسة ، بالأمس طردت جميلة و أهلها شر طردة ، لأسباب لا يزال يجهلها ، و اليوم تعامل جدتها بمنتهى القسوة ؛ في الثالثة عشر و لكنها تتصرف كسيدة صارمة و محنكة في الأربعين .
عاد الآن كميل من عمله في بيروت ، حضن أمه مواسيا ، ثم حضن أباه معزيا ثم جلس يستقبل مع أبويه مزيدا من المعزين :
” المال و لا الرجال يا أبو كميل ”
” الله يعوضكم يا كميل و البركة فيك ”
“الله يصبرك يا أم كميل ”
و دعد في المطبخ مستمرة بطهو دِلال القهوة ، و فادي مستمر بتأمل المنظر الخلاب ، فقد بدأت أضواء القرى الصغيرة المتناثرة على سفح الجبل الشرقي و وادي الصنوبر ، تتلألأ و تتكاثر ، و انتشر الضباب الآن في الوادي كله و بدأ يغطي كل شيء .
بعد انصراف آخر المعزين ، دخل فادي إلى غرفة الجلوس و استرخى بقرب كميل ، كانت دعد قد أعدت العشاء ، فجلسوا جميعا يتناولونه ، بينما كان الصمت يخيم فوق رؤوسهم جميعا ، و ما لبث كميل أن قطعه :
– لا تبتئسا يا والديَّ ، فقد تجمع لديّ بعض المال ، كنت أوفره لمصاريف فرحي ، سأعطيك إياه يا أبي ، لتشتري بقرة بديلة .
= الله يرضى عليك يا إبني ، نقودك تظل في جيبك ، ففرحي بك يعوض ألف بقرة !

و بعد إلحاح من كلا  والديه أجابهما راجيا :
– أوافق شريطة أن تكفا عن الحزن و الأسى !
ثم إلتفت نحو فادي متساءلا :
– و أنت ما يحزنك يا فادي ، البقرة أم جميلة ؟
فضحك الجميع ، فتظاهر فادي بالضحك محاولا إخفاء خجله الشديد ، و  لكن أبو  كميل أشار نحوه قائلا و هو لا زال يضحك :
– أنظروا إلى وجهه لقد أصبح كالشمندر المطبوخ !
فانفجرت موجة جديدة من الضحك ، ثم علق كميل :
– مؤكد ، لو كان يحمل سلاحا في تلك اللحظة لما توانى عن قتل دعد .
فانفجرت موجة جديدة من الضحك ، دفعت فادي إلى الإنسحاب إلى فراشه .

*****

عائلة نعمة الله ، من ذوي الدخل المحدود في ضيعة ضهر الهوا ، تملك المنزل ذا الغرف الأربع في طابقين و قطعة أرض مجاورة زرعت فيها أم كميل  الكرمة ، و بضع أشجار صنوبر ؛ و في الصيف تؤجر الغرف لمصطافين من بيروت ، و فادي و أهله من هؤلاء . أما الجدة فتخبز خبز الصاج و مناقيش الزعتر صباح كل يوم سبت ، فتأكل العائلة بعضه و تبيع بعضه ، أما بقية أيامها فتقضيه في الغابة تجمع الأغصان و الأوراق المتساقطة من أشجار الغابة ،  لتستخدمها – من ثم –  وقودا لصاجها .
و كانت المرحومة تنتج لبنا حليبا يفيض منه الكثير فتبيعه أم كميل للمصطافين في بيوت القرية الأخرى ؛ ثم مرضت ، فأحضروا لها بيطريا الذي أكد أنها أكلت ربما من نبات سام  و  أنها لن تعيش طويلا ، و ينصح العائلة بذبحها  على ألا يأكل أحد من  لحمها ، و لكن أم كميل رفضت الفكرة فتركتها تموت ميتة طبيعية .
أما كميل الذي لم يحصِّل من العلم إلا على الشهادة المتوسطة ( البروفيه ) ، فقد دخل إحدى المسابقات التي أهلته لوظيفة في إدارة الهاتف الآلي المحدثة ، و لكن دعد رفضت أن تكمل إلى أكثر من الصف السادس .

*****

عائلة لطيفة يعاملونه كأنه واحد منهم .
و لكن ترى لِمَ تصرفوا هكذا مع جميلة و أهلها ؟ و كيف سمحوا لدعد و هي لا زالت طفلة أن تشتمهم و تقذفهم بالحجارة ؟ ترى هل تأخروا بدفع الإيجار ؟ أم لأنهم قطفوا بعض العنب من الكرم ؟ أم لأنهم إستهلكوا مزيدا من الماء فوق ما هو مقنن لهم ؟
ثم أين و كيف سيلتقي بجميلة بعد هذا الذي حصل ؟ إنه لا يعرف حتى عنوانها في بيروت .
كانت هذه التساؤلات تلح عليه قبيل أن يختطفه النوم .

*****

توجه  أبو  كميل  منذ  الصباح  الباكر  إلى  قصر  البيك  فقد  كان (جنايني) القصر .
و توجه  كميل  إلى دار  خطيبته لتناول الإفطار بدعوة  من أهلها .
و توجهت  أم  كميل إلى الكرم  لتغطية  عناقيد  العنب التي  بدأت تغزوها الذنابير .
و جلس فادي على الشرفة و بين يديه أدوات الرسم و بدأ يرسم قصر البيك و مدرجات الكرمة من حوله ؛ تقدمت منه دعد متسائلة :
– ألا تمل الرسم ؟ فأجابها مبتسما :
– إطلاقا !  و سألتحق يوما بمعهد لتعليم الرسم ، أجل ، أنا لا أمل الرسم و لا أضجر من عشق الطبيعة ..
– و عشق البنات الفاسدات .
أجابته ساخرة ، فقطب فادي جبينه ، مستاء و مستغربا ، ثم سألها ببعض غلظة :
– ماذا تقصدين ؟
– أقصد ما رايته ؟
– و ما ذا رأيت ؟ ترى هل جاء دوري ؟
– حسابك فيما بعد !
– حسابي ؟! سألها بمزيد الدهشة ؟ ثم أضاف:
– ما هذا الغموض و الأسلوب الملتوي ؟ أفصحي عما يدور بخلدك !
صمتت قليلا ثم أجابته متحدية :
– أنت و جميلة ، قتلتما البقرة ؟
– أنا ؟ ما هذه الفرية يا دعد ؟
– شاهدتكما  و أنتما  تخرجان  من غرفة التبن أكثر من مرة !
– أنت تتخيلين !
– بل كانت آثار التبن عالقة على ملابسكما في كل مرة ! .
-ألهذا السبب طردت جميلة و أهلها ؟
– لهذا و لغيره !
– لو كان كلامك صحيحا لما صمتِّي ، فلسانك أطول منك !
-سكتّ  كي  لا أسبب لك مشكلة  أو  فضيحة !
قالت هذا و قد  إشتعل  وجهها خجلا ، ثم  ولّت هاربة.

———————–

*نزار بهاء الدين الزين

   سوري مغترب