الشيخ خالد ، في الأربعينيات من عمره ، متزوج من إثنتين و مطلق لإثنتين و له منهن جميعا عشرة أبناء و بنات و هو اليوم أحد قضاة المدينة المشهورين  .
زامل كلا من عبد الباقي و حقي  و رمزي و رؤوف ، في مكتب عنبر و هو المدرسة الثانوية الوحيدة  في  مدينة  دمشق  أيام  العثمانيين ،  ثم  ما  أن حصلوا على  الشهادة الثانوية  العامة ( الباكالوريا ) حتى فرقتهم الأيام ، فاتجه رمزي إلى جامعة بيروت الأمريكية حيث درس فيها الأدب العربي و الصحافة ، ، و اتجه الباقون إلى كلية الحقوق بدمشق ، إلا أن رؤوف  لم يتمكن من المواصلة لأسباب عائلية.
أما عبد الباقي و حقي فقد واصلا دراسة المحاماة حتى تخرجا ، ثم مارسا عدة مهن مرتبطة بوزارة العدل و في عدة محافظات إلى أن تمكنا من تأسيس مكتب للمحاماة مستقل كل على حدة ؛ بينما توجه خالد إلى جامعة الأزهر في مصر .

و بينما تنقل خالد بين عدة مناصب قضائية إلى أن استقر بدمشق ، فإن  رمزي اتجه إلى الصحافة  حيث  اشتهر  ككاتب العمود  الرئيسي الساخن  في  جريدة  الزمان  ثم مديرا لتحرير جريدة الفجر الجديد .
و نظرا لموقع عبد الباقي الحساس في ساحة الشهداء ( المرجة ) فقد التم شملهم من جديد فكانوا في كثير من الأمسيات و خاصة منها مساء الخميس يجتمعون هناك ، فيتناقشون في أمور الساعة السياسية منها أو الإجتماعية و القضائية، فكانت في حقيقتها ندوة ثقافية متواصلة يغذيها كل منهم بخبراته العريضة .
أما خالد فكان حضوره إلى الندوة قليلا فلذا كان الترحيب به عادة فوق المألوف ، كانوا ينادونه أحيانا الشيخ خالد و أحيانا الأستاذ خالد ، أما الآخرون فاكتفوا بلقب الأستاذ أو بدون ألقاب غالبا .

كانوا جميعهم يعاملون الشيخ خالد  بمنتهى الإحترام ، فكان ما أن تطأ قدماه غرفة المكتب حتى ينهض الجميع مرحبين ، فيهرع – حامد ساعي – المكتب لتناول عمامته   ( لفته )  و جبته فيعلقهما على المشجب ؛  ثم يحيي الشيخ خالد الجميع و يجلس إلى أقرب مقعد من الأستاذ ؛ ثم يكرر تحية كل من الموجودين ثانية فردا فردا ، ثم لا يلبث أن يطلب الشاي من حامد  إذا كان الموسم شتاء أو العرقسوس البارد إذا كان الموسم صيفا .

*****
و كثيرا ما كان يحتدم النقاش حول المستجدات السياسية أو الإحتماعية فيتخذ كل من  خالد  و  رؤوف جانب التعليل الديني بينما يتخذ كل من  رمزي و حقي  التعليل العلمي ، أما  عبد الباقي فكان تارة ينافح مع الشيخ و تارة مع الصحافي وفق مايراه حقا ، و كانت الأصوات ترتفع و العروق تنتفخ و الوجوه تشتعل ، ثم يتدخل راشد  سكرتير المكتب بنكتة أو طرفة تناسب أو لا تناسب المقام ، أو يصدر منه تعليق يشير إلى سطحية تفكيره فهو لم يتجاوز في تعليمه شهادة ( البروفيه أو الكفاءة ) ، فتنفرج الشفاه المتعبة و تنبسط الجباه المقطبة و يتحول الجدال إلى موجة من الضحك تمحي كل أثر لأي تجاوز كلامي صدر من هذا أو ذاك.
كان الشيخ خالد – و يؤازره في ذلك رؤوف – كان  يعتبر الثورة العربية الكبرى خيانة و تواطؤا مع الأجانب ، و يعتبر الداعين إلى تحرير المرأة مارقين و زنادقة ، أما إذا تطرق الحديث إلى نظريات التطور كنظرية دارون فإن قيامة الشيخ تقوم ، فيرغي و يزبد و يثور و  يفور و يتوعد بعظائم الأمور ، و يبدو أحيانا و كأنه سينقض وشيكا على زميليه رمزي و حقي ليعمل فيهما تهشيما بأسنانه أو قبضة يده .
في حين يعتبر الأستاذ رمزي وضع المرأة الحالي ضربا من العبودية و أن ثورة الشريف حسين كانت ضرورة ، لولا  جهله و أبناؤه خوافي السياسة و شباكها ، تجاه أدهى شعوب الأرض من عتاة السياسة البريطانيين ، فحالفوهم ، فكان تحالفا غير متكافئ  ، و  جعلهم  مكماهون  ألعوبة بين يديه و أضحوكة التاريخ ، ثم إندفاع الناس وراء الشريف حسين  لان العثمانيين أرادوا  في أواخر عهدهم طمس الهوية العربية .

*****

سأل  رمزي صديقه خالد – ذات يوم –  في معرض نقاشهما حول و ضع المرأة الإجتماعي :

– شيخي ، أنت مجرب لتعدد الزوجات ، ألا تشعر أنك ارتكبت خطأ أو مظلمة ؟

– حاشا لله ، يا  رمزي ، أنا لم أخالف أوامر ربي قط ،  و زواجي بأكثر من واحدة من حقي الشرعي.!

– و لكن الشرع يقول : وإن خفتم ألا تعدلوا – و لن تعدلوا –  فواحدة !

– هل نسيت أنني قاض ، و أن القضاء مرتبط بالعدل ، يا أستاذ ؟ .

– و الأولتان ألم تظلمهما ؟

– أبدا و الله  ، الأولى كانت متعلقة بأهلها ، و اكتشفت أنها تزورهم من وراء ظهري ،

و أنا اؤمن بأن المرأة لها خرجتان ، الأولى من بيت أهلها إلى بيت زوجها ، و الثانية من بيت زوجها إلى القبر . و لما اعترفت بفعلتها الشنيعة ، طردتها ثم أرسلت لها ورقة طلاقها .

– و الثانية  ؟

– الثانية كانت مريضة  بداء الفشل الكلوي وأهلها أولى بعلاجها ، و هي حتى اليوم قيد العلاج ،  فإن أبلّت من مرضها فيا مرحبا بعودتها !

هز رمزي رأسه  استنكارا و أسفا ، ثم قال  منزعجا و لكن بلطف :

– أليس هذا ضربا من  الإستعباد  بربك ؟

أجابه خالد بغضب :

– أنت تحمل السلّم بالعرض يا رمزي ، و تحاول أن تسبح ضد التيار ، و أفكارك علمانية يسارية ،  فاحتفظ بها لنفسك  !

و في مناسبة أخرى سأله حقي ، و هو يغمز بعينه :

– بربك ، ألا تميز إحدى زوجتيك عن الأخرى ؟

فابتسم الشيخ خالد ، ثم أجاب بكل ثقة و جدية :

– أبدا ،  و إن كنت  مفتونا  بصغراهما .

– هذا هو الظلم  بعينهّ !

– أنا قلت مفتونا بها و لم أقل أني أميزها ، تلك عاطفة أكنها في أعماق أعماقي ، و لم أظهرها قط خاصة أمام الأخرى .

– هذا تهرب من الواقع – شيخي – ، فلا بد لعاطفتك الخاصة  هذه أن تظهر في شكل ما ، مهما ألبستها من أقنعة  !

– صدقني أنك على خطأ ، فالكبرى بينهما تتفانى في خدمتي و إرضائي !

– لأنها تستشعر الخطر  ، يا شيخ خالد .

و لم تستمر المناقشة طويلا ، فقد اعتبر  خالد – عندما أُفحمه حقي – أن  الأمر خوض في الخصوصيات يرفض متابعته .

*****

و ذات يوم أعلن عبد الباقي أنه اشترى سيارة خاصة ، فهلل الأصدقاء و كبروا ثم طالبوه بضرورة تدشينها ، فوعدهم بذلك حالما يتقن القيادة .
و كان ….
ففي أحد أيام الجمع و بعيد إنسحاب الفرنسيين من سوريه مرغمين ، عبرت سيارة عبد الباقي الحدود السورية اللبنانية فتجاوزت سهل البقاع ثم تسلقت جبل الكنَيْسة فضهر البيدر ثم هبوطا في طريقها إلى بيروت  .
كان الشيخ خالد  إلى جوار عبد الباقي ، بينما جلس الآخرون  على المقعد  الخلفي ، و اتضح أن رمزي يحمل إلى جانب مواهبه الأخرى صوتا رخيما شنف به أسماع الثلة طوال الطريق .
و كان الشيخ خالد أكثرهم شعورا بالطرب ، فكان يصيح بعد كل سحبة أو بعد كل نقلة  من مقام إلى مقام :
– الله الله يا أستاذ ، أزدنا طربا ، أزادك الله من نعمائه !

*****

كانت المحطة الأولى هي الجامعة الأمريكية ، فما أن أبرز  رمزي بطاقته كخريج منها ، حتى سمح له بالدخول و صحبه ؛ و هناك تجولوا في ساحاتها الرحبة و ملاعبها  و حدائقها المتدرجة نزولا حتى البحر على رقعة من الأرض تعادل مساحة بلدة صغيرة أو حي كبير ، و قد لفتت أنظار الجميع أشجار باسقة غير مألوفة تتوزع هنا و هناك و أزهار رائعة لم سبق أن رؤوا مثلها ، مستقدمة من جميع أنحاء العالم و قد كتب على لوحات نحاسية أمام كل منها إسمها العلمي  و عمرها و المنطقة التي تشتهر بها ، ثم ولجوا من النفق المبني تحت الشارع الساحلي لينفذوا مباشرة إلى شاطئ صخري هُيَّء ليكون صالحا لرياضات السباحة و التجديف .
كان رؤوف لدى مشاهدته السابحين و السابحات سواء بمسبح الماء الحلو الكبير أو مسبح الماء المالح على البحر مباشرة ، كان في غاية الاضطراب و الخجل  محاولا أن يغض بصره ما أمكن و لكن دون جدوى ؛ أما الشيخ خالد الذي ترك عمامته  و جبته  في السيارة  بحجة الحر  و إرتفاع نسبة الرطوبة ، فقد كان في غاية الإنشراح و الحبور ؛ و بينما كان رؤوف يستغفر ربه و يتعجل العودة كان الشيخ خالد هادئا فلم تتحرك شفتاه بأي تعليق.
ثم عاد بهم  رمزي إلى مجمع المباني الجامعية مشيرا إلى أسمائها و تخصصاتها و إذ اقترب من مبنى كلية الآداب حيث سلخ خمس سنوات من عمره يدرس فيه، تقدمت منه فتاة عرّفت نفسها بأنها رئيس اتحاد طلاب الجامعة ، ثم دعته – باسم الاتحاد –  و صحبه لتناول القهوة في كافيتيريا الكلية.
و هناك كانت المفاجأة، فقد اقتيدوا إلى إحدى القاعات حيث دبر اتحاد الطلاب اجتماعا عاجلا شارك فيه بعض الأساتذة ممن درّسوا  رمزي، إضافة إلى مدير الكلية و بعض المساعدين .
فما أن دخلوا القاعة حتى علا  التصفيق ، ثم قام مدير الكلية بإلقاء كلمة رحب فيها بالضيوف  و حيّى على الأخص  رمزي الحمصي  كأحد مؤسسي اتحاد طلبة الجامعة الأمريكية و أحد أبرز متفوقيها و الحاصل على عدة شهادات شرف ، و بصفته أيضا صحافيا ناجحا تُدرَّسُ  في أحد صفوفها مقالاته السياسية و الإجتماعية و الأدبية ؛ و كان الموقف مثيرا  للعواطف  ثمّنه رمزي عاليا في كلمته التي ارتجلها ردا على الحفاوة به و بصحبه.
كان الأصدقاء في حالة دهشة فقد كشف الموقف جانبا مشرقا و مشرفا عن صديقهم رمزي كانوا يجهلونه ، و التفت عبد الباقي فجأة نحو الشيخ خالد فسأله هامسا :
– كيف ترى الأمور شيخي ؟.
فأجابه بعد بعض تلكؤ :
– إنها بادرة طيبة ، و يبدو أنهم يقدرون خريجيهم ،  و أتصور أن بادرة مثل هذه ستمنح  صديقنا رمزي ،  دفعة قوية نحو مزيد من التقدم و الإبداع ، و لكن .!!!!……

فضحك عبد الباقي معلقا :

– دوما هناك ” و لكن !!!! ”

فأجابه  و قد قطب جبينه :

– أجل ؛ هناك ( لكن)   و(  لكن كبيرة )  يا عبد الباقي ؛  فإن جو الاختلاط و الحرية الذي رأيناه هنا ، لا يتناسب مع قيمنا الدينية و المؤسف أنه يجري على أرض إسلامية ، و قد رأينا فتيات شبه عاريات في المسابح ، و فتيات تلعبن التنس بملابس تكشف عن  أفخاذهن ، و فتيات تأبطن أذرع زملائهن ، و تلك المسماة ، رئيس اتحاد الطلبة ،  و قفت على المسرح و قد ظهر ساقاها إلى ما فوق الركبتين ،  ثم إن هذه الجامعة إن هي إلا صرح تبشيري  رضينا أن نشاهده حبا بالإستطلاع ، و لكن ما كان علينا المشاركة في  نشاطاته ؛  لقد أقحمنا  صاحبنا رمزي  في ذلك كله سامحه الله.
أجابه عبد الباقي معترضا :

أولا : رمزي لم يخطط لكل هذا و قد فوجئ كما فوجئنا !
ثانيا : لبنان – يا شيخ خالد – ليس بلدا إسلاميا ، إنه لوحة فسيفسائية نادرة تشكلها جميع ما عرفه شرقنا الأدنى من أطياف عقائدية .

ثالثا :  هذا الصرح التبشيري خرّج المئات من المثقفين أمثال رمزي ، بينما لم تنشئ لنا الخلافة العثمانية طوال أربعمائة سنة من حكمها لبلادنا ، غير كلية الحقوق بدمشق !

رابعا : يا سعادة القاضي  ، لقد عرضت لتوك شرحا تفصيليا  لأمور لم  يلفت نظري منها إلا القليل  !

ثم أخذ يقهقه عاليا .

و يبدو أن القاضي فهم الغمزة إلا أنه لم يشاركه الضحك  ، و لكنه رد عليه بعد أن هدأ :

–  أنت خبيث  و ( سلال )  يا عبد الباقي !

فقهقه عبد الباقي من جديد و أجابه :

– يقول المثل الشعبي :” العين تطب محل ما تحب !! ”

ثم عاود الضحك حتى دمعت عيناه ، و ما لبث خالد أن شاركه الضحك  !

*****

ما أن غادروا ساحة وقوف السيارات في الجامعة الأمريكية ، حتى تنفس رؤوف الصعداء ، و أخذ يكرر استغفار ربه من جريرة جعله  رمزي ينزلق إليها ، و قال له جادا  و محتجا :
– كيف تقحمنا في مثل هذا يا  رمزي ؟ إني لأحملك ذنوبي لهذا اليوم ، كلها .
فأجابه مبتسما :
– كثيرة هي اليوم ذنوبك  يا رؤوف ، فقد شاهدتك مرارا تركز بصرك على السابحات الفاتنات .
هنا لم يتمالك  عبد الباقي نفسه ، فانفجر ضاحكا و تبعه الآخرون .

*****

و كانت المحطة الثانية في راس بيروت فقد عضهم الجوع بنابه ، و كما سبق أن فعل  فقد قادهم رمزي إلى مطعم مطل مباشرة على الحمام العسكري ، و كما سبق أيضا ، ترك الشيخ خالد عمامته  و جبته  في السيارة ، ثم اختار أقرب كرسي إلى  البحر  حيث  تسمرت  عيناه  على  الشاطئ  الصغي ر و تحول  من  ثم  إلى تمثال  شمعي .
كان الفرنسيون لمّا ينسحبوا بعد من لبنان ، و كان الحمام العسكري يعج بعائلات ضباطهم و بعض الضباط اللبنانيين ، و بينما استلقت بعض السيدات و الفتيات و قد ارتدت كل منهن  ورقتي  التوت ، طلبا  لحمام  شمسي ، فقد آثرت أخريات السباحة و التنقل  بين  العوّامة  و الشاطئ .
التفت إليه رؤوف على حين غرّة مستهجنا و منبها :
– شيخي ، لا تترك الشيطان يتغلب عليك  !
إلا أن القاضي لم يعره التفاتا ،  فتطوع رمزي للإجابة قائلا :
– الله جميل يحب الجمال يا رؤوف ، يا أخي !.
– لقد أمرنا بغض البصر ، يا أستاذ !
– ضع على عينيك نظارة سوداء يا رؤوف .

أجابه حقي مبتسما . و لكن رؤوف ظل على موقفه فأردف قائلا :
– صراحة ، الأمور تفرض نفسها من حولي و أشعر بالخوف من معصيات اليوم !
– استخرج كفّارة يا أخي ، وزع رطلا من الخبز على الفقراء ؛ أجابه رمزي  شبه متهكم !
فهز رؤوف رأسه علامة التذمر ثم أضاف قائلا :
– كل أمر جدي تقلبه مزاحا يا  رمزي ، أرحني يا سيدي و دعنا نغادر هذا المكان ، فوالله  لو أعلم أين أنا  أو إلى أين يمكن أن أتوجه ، لما مكثت معكم لحظة واحدة ، هناك عشرات المطاعم غير هذا يا أخي  !

ثم وضع يده على كتف  خالد و قال موجها إليه الحديث :

– ألست معي يا شيخ خالد ؟

إلا أن الشيخ خالد ظل متصلبا كتمثال شمعي و قد تسمرت عيناه نحو هذا الخليج الصغير المسمى بالحمام العسكري، متجاهلا رؤوف و إحتجاجاته !
هنا تدخل عبد الباقي قائلا و قد رسم على شفتيه ابتسامة عريضة :
– يا رؤوف يا صاحبي ، الأمر أبسط مما تتصور ؛   قل: ”  نويت ( التزهزه ) ”  و أرح بذلك ضميرك المعنّى  !
و ما أن أتم عبد الباقي عبارته هذه حتى دوت ضحكات الأصدقاء الأربعة  مجلجلة !

————————-

*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب