قصة

 نزار ب. الزين*

        هل  سمعت ياسيدي المحقق بالأهداف الخمسة أو ما يسميه إخواننا المصريون : ( العَينات الخمسة ) ؟

خوفا من أن تظن – ياسيدي – أنني أقدم إليك أحجية ، ومع أن الكثيرين سمعوا بهذا الشعار  و الكثيرين غيرهم طبقوه دون أن يسمعوا به ، و بالرغم من تخميني  بأنك لم تسمع به من قبل – ذاك باد من ذهول عينيك – اؤكد لك  أنه شعار لا علاقة له بالعيون التي في طرفها حور أو بعيون الماء القراح السلسبيل ، و لما كنت لا أحب الإستطراد ، فسأبادر فورا  إلى شرحه لك في الحال .

إنه يا سيدي  شعار الإنسان الطموح  من وجهة نظر قِطاع عريض من البشر ، و لكن الطموح يقاس عِلميا بمؤشر ذي أربع درجات مرتبطة كلها بغريزة التملك  و هي أولها  ، ثم الطموح أو السعي إلى الأفضل ، ثم الطمع و هو السعي إلى طلب المزيد  و أخيرا الجشع و هو الشراهة المطلقة إلى جمع المال  و عدم الشعور بالإكتفاء  .

أعود إلى الشعار ، فهو بكل بساطة  تحديد أهداف الإنسان الطموح بخمسة أهداف تبتدئ كلها بحرف العين : ( عمل  ، عروس ، عربيّة ، عمارة  ، عزبة ) و هو شعار  رحب يوحي بتبرير كافة الوسائل من أجل تنفيذه ؛ أما خطوات الإنطلاق فقد تكون متمهلة أو متسارعة أو قد تتحول إلى القفز كما في حالة جاري  ؛ فجاري سلمان  من حملة هذا الشعار و يجري خببا  وراء تحقيق بنوده !

تجده دائم اللهاث فهو يعمل و يعمل و يعمل  ، يداعب أولاده بيسراه بينما يمناه تعمل ، حتى ضرورات  حفظ بقائه الشخصي إختزلها  إلى شطيرة و كوب ماء ، و ضرورات حفظ بقائه النوعي حولها إلى عملية آلية لا روح فيها .

لم يحرم عينيه متعة التلفزة ، فهو لا يدع الرسوم المتحركة تفوته و كذلك الهزليات و الأهم منهما المصارعة الحرّة ، فقد ترهل جسمه من كثرة الجلوس حتى  ناء بحمل كرشه المدلى أمامه كقربة ماء ، كما برز ردفاه بروز صندوق عربته  ، و أما شعوره باضمحلال قواه التدريجي  ، فقد جعله يغرم بالمصارعة  كتعويض .

و لفرط إنهماكه بالعمل ، تنحبس مشاعره  طويلا ثم لتفجرها – من حين لآخر –  مواقف تافهة  كهزليات التلفاز  ، فينطلق ضاحكا بقهقهات مجلجلة ترعب من يسمعها أول مرة ، أو تزعجه مشاحنات أطفاله أو طلبات زوجته ، فينطلق لسانه ناطقا  بأبشع القاذورات …

و سواء مع المصارعة أو الرسوم المتحركة و مهرجي التلفزة ، فإن إحدى عينيه تنصرف  نحو التلفاز بينما تبقى يمناه تعمل و تعمل و تعمل ؛ ذلك أن طبيعة عمله تسمح له أن يعمل و هو يأكل  و يعمل و هو يشاهد الشاشة الصغيرة ، و يعمل و هو يداعب أولاده ، و يعمل و هو  يغازل زوجته و يعمل و هو يعمل .

******

أما سعاد ، حرمه المصون ، فهي أيضا من حملة  هذا الشعار و لكن مع بعض التعديلات ، فالعمل  و العريس توفرا بدون جهد يذكر ، خطبوها ثم زوجوها هذا كل ما في الأمر  ، و العربية على الباب قبل أن يكتب الكتاب ، و العمارة و العزبة متروك أمرهما  لمساعي ( سبع البرمبو سلمان بن سالم السليمان ) ؛  و هكذا أبدلت خماسية زوجها بخماسيتها الخاصة التي تتناسب مع أنوثتها ، فحلت هواية إقتناء المجوهرات محل  ( العمارة ) كما حل  ولع لا حدود له  بمسايرة آخر مبتكرات الأزياء  محل (العزبة ) أما العمل و العريس فسوف يأتي ذكرهما لاحقا .

سايرها سلمان بداية ، أي عندما كان مفتونا  بسحرها ، أما عندما أدرك أن طموحها جشع و رغباتها شراهة ، كبح جماح جيبه (لاحظ – يا سيدي –  كباح جيبه و حسب ) و بعد قيل و قال و طول كفاح و نضال ، يئست سعاد  من جدوى نزاله و ملّت كثرة جداله ، فسلمت و لكنها  ما استسلمت ، و القصة من هنا إبتدأت .

******

عادت ذات يوم من السوق محملة ، فقام إلى جيوبه يتفحصها  ، و إذ إطمأن  أن كل فلس قابع في مكانه ، عاد إلى طاولته يعمل و يعمل  و يعمل ..

هتف مجهول لها ذات يوم ، طلبها بالإسم و بإصرار  ، نظر سلمان إليها شذرا  ،  ناولها مسرة الهاتف  مشمئزا، ثم إنصرف إلى طاولته يعمل و يعمل و يعمل  ..

ثم أخذت مكالماتها الهاتفية تطول و تطول  ، ضايقه الصوت .. تذمر .. قذف بعض قاذوراته ، ثم عاد يعمل و يعمل و يعمل ؛ فخفضت صوتها – بعدئذ – تجنبا لسلاطة لسانه ، و لكن محادثاتها الهاتفية إستمرت تطول و تطول ، و استمر يعمل و يعمل و يعمل .

رحلات التسوق كانت قليلة و لكنها مستمرة ، و العودة بأكياس الغنائم  أخذت تلفت أنظار الجيران و إنشغال هاتفها المتواصل بدأ يثير الريبة  .

أشفقوا على سلمان !

سلمان العصامي ، سلمان المكافح ، سلمان المعطاء  ، سلمان ( المشغول دايما ) الذي لفرط إنشغاله لم يسألها قط عن محدثيها على الهاتف ، سلمان الساذج الذي لم ينتبه إلى تخمة خزانتها  بأفخر الثياب و رفوفها بأنفس العطورات و أدراجها بأثمن المجوهرات .

سلمان  الإنسان الجاد المستقيم ، الأنيس اللطيف ، يلقى من زوجته كل هذا العقوق ؟؟؟!

أخذوا يتهامسون  ، ثم بدؤوا يتشاورون ، و ظلوا حتى الأمس القريب يتهامسون و يتشاورون حول سلوك جارتهم سعاد ، دون إتخاذ أية خطوة أكثر من إزدياد اللغط ، فهناك أطفال ، و هناك بيت قد يصيبه الخراب و يدمر سلمان بن سالم السليمان ؛ و سلمان غير دار بما يلوكونه ، حوله مستمرا يعمل و يعمل و يعمل ….

******

شوهدت سعاد – صدفة – في دار للسينما مجاورة  ، مع شاب خليجي  رشيق أنيق ، مشذب الشاربين منمق الحاجبين ، غطى هامته بكوفية ناصعة ، ، لا كرش مدلى يتقدمه و لا  مؤخرة بارزة تتبعه ، و قد أحاطها بكل إهتمامه و إنصرف لإرضائها بكل جوانحه ؛ ثم شوهد بعد أيام  يطلق بوق سيارته بجوار بيتها لتهرع إليه و تركب إلى جواره !

– ما أجرأها

تهامس الجيران !

ثم شوهدت تخرج معه من أحد الفنادق المتساهلة ..

– سلمان أين أنت يا سلمان ؟  هل من المعقول أنك لم تنتبه حتى الآن يا سلمان ؟

تساءلوا مستغربين  !

******

اللغط يتفاقم

و سلمان يعمل و يعمل و يعمل

و سعاد تعمل و تعمل  و تعمل

و الحساب المصرفي ينمو و ينمو و ينمو

و أكداس الهدايا صارت طبقات فوق طبقات

و الصعود مستمر .. مستمر .. مستمر

******

قررتُ التدخل ، فأنا منذ البداية  تراودني الشكوك ، عندما كان همس الجيران مجرد لغط ، كانت شكوكي تقارب اليقين ، صارحت بها زوجتي الحصيفة ، فاتهمتني – كعادتها –  بالمبالغة و سوء الظن ،  ثم  ألقت في  وجهي  بحكمة الأديان  و الأجيال : (( إن بعض الظن إثم )) !

و مع ذلك قررت التدخل ، فظنوني تجاوزت سعاد إلى سلمان ذاته ؛ فهل من المعقول أن يكون الرجل غِفلا إلى هذا الحد ؟ و حتى لو كان كذلك  فمن حق الجيرة أن أنبهه و شاركني في رأيي أبو نضال و هو من  أقرب جيراني إليّ !

******

إستدعينا سلمان

فرشنا المقدمات و مهدنا الطريق ، و التففنا حول الموضوع و درنا ، ثم بهدوء رمينا قنبلتنا  ؛ و كمن صفع على قفاه دارت رأسه و خذلته ركبتاه  ، و بدا و كأننا أوقعناه في متاهة ، فتساءل ببلاهة :

– كيف حدث أنني آخر من يعلم  ، متى نبت قرني و تضخم ؟

بكى و أبكى ، ثم أرغى و أزبد  ، ثم هدد و توعد :

– سأقتل .. سأذبح  سأنشر الدمار .سأصنع كارثة .. سأقود أعصار !

نصحناه ، أن يقوِّم إعوجاجها و يبحث عن أسباب إنحرافها لعلها تعود إلى صوابها فننقذ الأطفال من مآسي خراب البيوت ، فإن ارعوت و ثابت إلى رشدها كان بها ، و إن أبت و أخلت بعهدها ، فتسريح بإحسان !

******

و يا لعجبي ،  ياسيدي الضابط ، ها أنا ذا بين يديك متهما  بأنني دئبت على التحرش بجارتي سعاد  ، و الأعجب أن بقية الجيران بما فيهم أبو نضال ، رفضوا الإدلاء بأية معلومات  ، و بأن عليّ الإعتذار ، و كتابة تعهد خطي بعدم التعرض لجاري و لحرمه المصون ، و إلا سوف تزجون بي في غياهب السجون !

******

في بيت جاري سلمان بن سالم السليمان ، لا زال الصعود مستمرا ، فالحساب المصرفي يزداد نموا ، و أدراج المجوهرات تزداد إمتلاء ، و أكداس الملابس الداخلي  منها و الخارجي تزداد إرتفاعا ، و مواد التجميل و العطور تزداد تراكما  ، و أصدقاء سعاد  تتزايد أعدادهم .

و عاد الجيران يتهامسون و يتغامزون  و يتشاورون و يتجادلون ، أما أنا فقد تقوقعت و أغلقت عيني بالطين و سددت أذني بالعجين و ألصقت شفتيَّ بلاصق متين …!

و لم يعد يهمني  إن حمل الناس شعار الخمس ( عَينات ) أو كانوا مثلي بعين واحدة  ، و كذلك لم يعد يهمني  إن سقط الناس إلى أعلى  أو صعدوا إلى أسفل سافلين !

 

*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب