قصة قصيرة
نزار ب. الزين*
إعتاد سامي بك منذ قدومه إلى مصيف (جل الغزال) أن يتوجه عصر كل يوم إلى مقهى ( الغابة المسحورة ) مشيا على الأقدام ، يتبعه عن بعد سائقه بسيارته الأمريكية الفارهة ، يمكث هناك ساعة أو بضع ساعة ، يتناول خلالها كوبا أو كوبين من عصير (جلاب*) ، ثم يقفل عائدا بسيارته إلى الدارة التي استأجرها لقضاء الصيف .
لفت سامي بك أنظار أصحاب المقهى أولا، ثم أهل الضيعة جميعا ، بكثرة أسئلته ، فما أن يقترب منه طفل أو طفلة أو شاب أو شابة ، حتى يناديه أو يناديها ثم يبادر إلى السؤال : << من فضلك …ما هو اسمك ، و ما اسم والديك ، و ما اسم عائلتهما ، و ما اسم جدتك و اسم جدك ؟؟ >> و لكن أحدا لم يجرؤ على استفساره عن هدفه من وراء طرح كل هذه الأسئلة !
ربما هي هواية التعرف على الأسماء ، قال البعض ،
ربما هو فضول عجوز يريد التسلية ؛ قال آخرون ،
أما القلة من خمنوا ، أنه ربما يبحث عن شخص ما ؛ و لكن لِمَ لا يسأل مباشرة ؟ و لِمَ هذا الغموض ؟؟!
و في الدارة ، كان ينهض مبكرا ، فيجلس على الشرفة المطلة على وادي الصنوبر ، يرصد الغيمات الصغيرات القادمات من البحر و هي تتراقص مع نسمات الصباح العليلة على أنغام تغاريد العصافير و الترغل و العندليب ؛ و لا يلبث سائقه الذي هو في الوقت ذاته خادمه و طباخه و سكرتيره ، أن يقدم له القهوة بالحليب .
” سرح بعيدا في الماضي البعيد ، أيام الصبا ، يوم أحبها و أحبته ، يوم شعرا أنهما ملكا الدنيا بكل جمالاتها ، يوم تصورا أنهما ارتبطا بوثاق الهوى ، كعروة وثقى لن تفصمها قوة مهما بلغت .. و لكن وا أسفاه فصمتها الهزة الأولى !.. فقد اعترض والداه على زواجه منها و هدداه بحرمانه من الميراث .. و يا أسفاه فقد رضخ لهما .. هكذا بكل ضعف و خساسة “
غالبته بضع قطرات من الدمع ، ثم نادى حازم :
<< هل قرع بابنا أحد يا حازم ؟ >>
سؤال يتكرر كل بضع دقائق ، اعتاد عليه حازم و اعتاد أن يجيبه : << أي طارق سأجلبه إليك – سيدي – في الحال >>
فقد اعتاد أهل قرية جل الغزال ، أن يرسلوا أبناءهم أو بناتهم ، إلى بيوت المصطافين ، لبيع ما ينتجونه من ألبان و فواكه و خضار طازجة أو من خبز الصاج و مناقيش الزعتر .
فما أن يتقدم أحدهم أو إحداهن منه حتى يبادره أو يبادرها بالسؤال : << من فضلك … ما هو اسمك ، و ما اسم والديك ، و ما اسم عائلتهما ، و ما اسم جدتك لأمك و جدتك لأبيك و ما اسم جدك لأمك و جدك لأبيك ؟؟! >>
و ذات يوم لفتت نظره فتاة في العاشرة ،
أحضرها إليه حازم بعد أن اشترى منها حاجته من اللبن الحليب الطازج ..
تأملها سامي بك مليا قبل أن يسألها :
– ما اسمك يا صبية ؟
فأجابته كتلميذه تلقي درسها :
= أنا فؤادة بنت رعد رحمةَ الله ، يا بك ، و أمي اسمها سليمة .. يا بك
<< فؤادة ؟!
و لكن لم الاستغراب ؟ تلك هي عادة هذه العائلة !!! يسمون سليم و سليمة ، بديع و بديعة ، فؤاد و فؤادة ، نبيل و نبيلة ، أظن أنني اقتربت ؟!! >> همست ذاته إلى ذاته و هو يتأمل الفتاة من جديد ، ثم أضاف يحدث نفسه : << الشبه عجيب ، نسخة طبق الأصل >>
ثم همس للفتاة قائلا :
– و جدَّتك اسمها سعاد و شقيق جدتك اسمه سعيد و أبو جدتك اسمه أمين و أم جدتك اسمها نجوى ، أليس كذلك ؟
تجيبه و قد عقدت الدهشة لسانها :
= كيف عرفت اسم جدتي و أهلها يا بك ؟ هل تعرفهم ؟ هل تعرفنا ؟
يبتسم سامي بك ، و يتابع سؤالها دون أن يتمكن من إخفاء فرحته :
– و ماهي أحوال جدتك سعاد ، يا صبية ؟
= جدتي مقعدة ، أما جدي فمات السنة الماضية و خالي سعيد أخو جدتي مات قبله بسنتين .
ثم تضيف فؤادة متلهفة :
= أنت تعرفنا يا بك ، إذاً تفضل لزيارتنا ، يا بك ! بيتنا لا يبعد كثيرا يا بك !
إنه قرب النبع ، رمية حجر يا بك !
يبتسم لها ثانية ثم يجيبها بود و حنان :
– دعي والدتك تحضر لي اللبن الحليب غدا يا فؤادة !
تدخل فؤادة تتبعها والدتها بخطوات مترددة خجلة ، يقبل الصغيرة و يستقبل أمها بترحاب كبير ، يتأملها مليا << صورة طبق الأصل عن أمها هي الأخرى >>
= لم أتشرف بمعرفتك يا بك …
تسأله مرتبكة ، ثم تضيف :
= كيف أنك تعرف أهلي يا بك ؟
والدتي متلهفة بدورها لتعرف مَنْ – جنابك – يا بك !..
يبتسم سامي بك ، ثم يجيبها بهدوء و ود و حب :
– لوالدتك أمانة في عنقي يا سليمة …
طلبتك من أجل سداد ذلك الدَين ..
إنه دَيْن عمره خمسون سنة ..
و اهمسي في أذنها :
<< سامحي من أساء إليك ، فقد أنهكه عذاب الضمير ! >>
ثم ناولها حقيبة مكتبية و هو يوصيها راجيا :
– لا تُفتح هذه الحقيبة إلا بيد سعاد بنت أمين البيَّاع ..رجاءً !
تناولت العجوز الحقيبة ..
ثم …
فتحتها ..
ثم ….
نظرت إلى محتوياتها مليا …
تجمدت عيناها …
و تجمدت كذلك عيون أفراد العائلة الذين أنهكهم الفقر …
و عيون الجيران الذين شاع بينهم الخبر فتكأكؤوا داخل المنزل و خارجه .. و قد فغرت أفواههم جميعاً..
“جاء الفرج ، ضمَنَّا جامعة الصبي ..”
قالت سليمة ذلك ، و قد جحظت عيناها و كادتا تخرجان من مآقيهما ..
فقد كانت الحقيبة ملأى بالنقود …
دولارات ، كلها من فئة العشرين …
ثروة هبطت من السماء ..
و لكن ….
و لكن العجوز أغلقتها بعناية …
صمتت طويلا …
سرحت طويلا …
غالبت دموعها طويلا…
ثم ……
قالت لابنتها بشفتين مرتعشتين ، أمام ذهول الجميع :
– أعيديها إليه و قولي له :
<< السنوات الضائعة لا تعوضها أموال قارون … >>
ثم أضافت في سرها :
<< لا سامحك الله يا سامي ، لا في الدنيا و لا في الآخرة ! >>
—————————–
* عصير جلاب : عصير خلطة من الفواكه يضاف إليها الصنوبر
—————————–
سوري مغترب