قصة
نزار ب الزين*
كان عيدا حقيقيا للطفل “نور” ذي العاشرة ، يوم قرر والده اصطحابه إلى مدينة الملاهي في أول أيام عيد الفطر ، و لم يكن الوالد أقل سعادة منه لأنه تمكن أخيرا من توفير المال اللازم لتحقيق أمنية فلذة كبده و التي خطط لها منذ عيد الأضحى في العام المنصرم ، ذلك التاريخ المؤلم يوم اعتذر لولده رغم إلحاحه الكبير و بكائه المفجع ، فقد ظل ابو النور سجين إحساسه بالذنب طوال الأشهر العشرة التالية …
كاد نور يرقص فرحا عندما بلغا بوابة الجنة الموعودة ، فما أن يحصل والده وشيكا على بطاقتي دخولهما حتى يتحقق حلم عمره !
*****
و أخيرا أصبح الحلم حقيقة ، ألقى نظرة سريعة تملكته خلالها الدهشة ، ثم التفت إلى والده صائحا ليتغلب على الضجيج الغامر ، فخرجت كلماته كزغرودة أم عروس :” أريد أن أجرب جميع الألعاب يا أبي !!!..”
صعدا عاليا داخل أحد أقفاص العجلة الضخمة الدوارة عموديا (القلابة) ، ثم هبطا ثم صعدا من جديد ثم هبطا ، و نور لا ينفك يضحك تارة و يتأمل البيوت و الأشجار و هي تصغر شيئا فشيئا ثم تكبر رويدا رويدا مع كل دورة ، و يثرر تارة أخرى سائلا متسائلا .
ثم اعتلى صهوة جواد في لعبة الخيول الدوارة (الدويخة) ، فتخيل نفسه فارسا ، آخذا بتقليد حركات فرسان الكاوبوي الذين طالما أعجب بهم من خلال مشاهدتهم في التلفاز ..
طلب شطيرة فلافل فلباه والده فورا ، ليتلهمها بقابلية مدهشة ، ثم طلب كأسا من “البوظة” فلم يخذله والده أيضا ، كل طلباته كانت ملباة ، فيما عدا واحدة ، أخبره والده أنها خطيرة ، إنها لعبة الأراجيح الدوارة : “أنظر يا نور ، إلى الراكبين كيف يصرخون هلعا ، ألا ترى كيف تتسارع بهم الأراجيح ؟ إنها خطيرة و ستصيبك بالرعب يا ولدي ..” قال الوالد مؤكدا ، فأجابه نور : “و لكنني لست صغيرا يا أبي ، أنا في العاشرة و في الصف الرابع و ترفعت إلى الخامس ، و أستطيع أن أتشبث بحبلي الأرجوحة جيدا ، أنظر هناك يا أبي ، تلك فتاة تصغرني ركبت إحداها دون وجل !” ؛ و أمام إلحاحه رق قلبه و سمح له بتجربتها ..
*****
أخذت الأراجيح تدور بطيئة بداية ، ثم ابتدأت تتسارع ، و تتسارع ، و تبتعد بالتدريج عن منطقة استنادها في الوسط ؛ بينما كانت عينا “أبو النور” تدوران معها و قد أوشكتا على الخروج من محجريهما هلعا ، أما قلبه فأخذ يضرب كطبل أفريقي في يوم نفير ، ثم لتتسارع ضرباته مع تسارع هذه الأراجيح المعلقة ، و التي ركب على متن واحدة منها قطعة من قلبه و عقله و روحه ..
*****
و على حين غرة انقطع أحد حبلي إحداها ، ثم طار مقعدها في الهواء مع الطفل الذي كانت تحمله ، ليقع بعيدا ..
ساد الهرج و الفوضى ، بعضهم توجه نحو الطفل المصاب ، بينما أبو النور و آخرون يصرخون بمشغِّلها ..”أوقفها ..أوقفها في الحال !!!..”
و إذ حاول المشغل إيقافها ضاغطا على الكوابح بكل قوته ، أخذت الأراجيح بمن فوقها تصطدم بعضها ببعض ..
فتساقط بعض الأطفال واحدا إثر الآخر ، و تعلق اثنان منهم على الأقل أحدهما من رجليه و الآخر من جسمه الأعلى بينما تدلى بقية جسده في الهواء ؛ و ازداد الهرج و الهياج و تحولت مدينة الأفراح إلى مدينة رعب ؛ أما أبو النور فقد أخذ يشق طريقه بصعوبة نحو الأطفال الجرحى المتناثرين هنا و هناك ، باحثا عن ولده و هو ينادي و قد بح صوته: ” نور .. نور .. !” و فجأة اكتشف أن أحد الطفلين المعلقين كان ابنه نور و قد علقت رجلاه في مقعد الأرجوحة بينما تدلى بقية جسده مع رأسه في الهواء ، فهرع نحوه محاولا إنقاذه ، و أخذ يجري بأقصى سرعة مع الأرجوحة التي لا زالت تدور و إن تباطأت ، دافعا من يعترض طريقه ، و هو لا يزال يصرخ مخاطبا ابنه : ” نور ..نور يا حشاشة قلبي .. أرفع راسك يا ولدي كي لا يرتطم بالأرض” ، في حين ما انفك نور عن الصياح : ” بابا .. بابا .. دخيلك يا بابا …امسكني !!!… “
ثم ..و يا للفاجعة ..و أمام عينيه ، ارتطم رأس نور ثلاثاً ، قبل أن يتمكن والده من الإمساك به …
*****
و تشابكت خطوط الهاتف ، مدير الملاهي يتصل بمالكها ، و هذا يتصل بوالده المسؤول الكبير ، و المسؤول الكبير يتصل بوزير الداخلية ، و وزير الداخلية يأمر بحصار مدينة الملاهي و إخلائها ، و يشدد على عدم اقتراب الصحافيين من المكان ..
و حتى تلك اللحظة لم تصل أية سيارة إسعاف ، فحمل المكلومون أطفالهم الجرحى و خرجوا بهم نحو موقف سيارات الأجرة المجاور ، و ما لبثت سيارات الأجرة أن تحولت إلى سيارات إسعاف تولول بأبواقها متجهة نحو أقرب مستشفى ، و من بين هؤلاء كان أبو النور الذي لم يتمالك نفسه عن النشيج طوال الطريق ، و في المستشفى قال له الطبيب بعد فحص سريع : ” البقية بحياة إخوته “
————————
سوري مغترب