قصة
نزار ب. الزين
– أبتاه .. لن أتمكن من ترجمة حقيقة معاناتي ، ربما توضحها عبارة ” الإحساس بالضياع ” و ربما لا تفي بحقها عشرات التعبيرات و الصيغ و التساؤلات ؛ عقلي لم يعد يفهم ، أصبح عاجزا عن وضع الأحداث في إطار منطقي يجعلها قابلة للفهم و الإدراك ، فإما العيب في عقلي : خلل ما .. مرض ما ، جنون ما ، أو أن العيب في الأحداث فجُنت و عربدت و انطلقت عشوائية متسارعة متمردة على أي إنضباط او سيطرة .
قل لي بربك ، كيف يتحول حلفاء الأمس إلى أعداء اليوم ؟ و أبطال اليوم إلى ملعوني الغد ؟ كيف يتقاتل الجيران و يتناحر الخلان و يتنافر الأقارب ؟ كيف يتصارع من جمعتهم وحدة الأرض و الإنتماء و الفكر ذلك الصراع المرير حتى الموت ؟
قل لي ، كيف يهدرون الدماء بمثل هذه البساطة التي نشهد ؟ و يشتتون الأسر بما فيها الأطفال و النساء و الشيوخ ، بمثل هذا البرود الذي نلحظ ؟
قل لي ، كيف عميت أبصارهم عن شراسة أعدائهم و تيقظت لهنات رفاقهم و هفوات إخوانهم ،
قل لي ، لمصلحة من سجنوا الرحمة و خنقوا الشهامة و سحقوا النخوة ؟
قل لي ، كيف سمحوا للسرطان أن ينمو في جسم أمتنا ، يغتصب المواقع ، و يسرق المياه ، و يخلق الفوضى و الإضطراب ؟
قل لي ، بِمَ تفسر هذا الإصرار على التخلف ؟ و الإندفاع نحو الدمار و التشتت و الضياع ؟
يجيبه الوالد مبتسما :
– هدئ من روعك يا بني … و تعال أحكي لك حكاية تل الفرس ؛ صحيح أن الناس اعتادوا تداول قصص الأبطال و حركة الأحداث و مفارقات الحياة و غرائب الأمور ؛ أما أنا فسأحكي لك قصة تل الفرس !
يجيبه إبنه بشيء من الإستياء :
– أتسخر مني يا أبي ؟ أم تتعمد إبعادي عن موضوع تساؤلاتي ؟!
– أبدا يا بني ، صدقني أنك ستغوص معي عبر حكاية تل الفرس إلى أعماق أعماق مسألتك و لسوف تعرف الكثير الكثير حولها !
*****
هو إنبثاق بركاني وسط الجولان ، يبدو من أحد جوانبه كصهوة جواد ، و من هنا اشتقوا تسميته ،
أما لماذا اؤكد لك أنه بركان ؟ فلأن فوهة البركان تظهر واضحة لمن يبلغ قمته ، كباطن وعاء مستدير ، و لأن الأحجار الخفانية تملأ فوهته و سفحه الغربي .
نعم إنه بركان ، و لكن لا أحد يعرف متى تفجر أو كيف تكون أو خمد ، ربما منذ آلاف السنين أو لعلها ملايين السنين .
هل سيبعث ذات يوم ؟ لا أحد يدري ، لأن أحدا – حتى تشرين – لم يبحث في ذلك .
أما كيف عرفته عن كثب ؟ فلأن قيادة الدرك انتدبتني قائدا لمخفر المنطقة التي تحيط به ، للإشراف مع عناصره الخمسة على أمنها .
بدأت معرفتي به بداية مريرة ، لما رافق هذا التكليف من مرارة النفس ؛ فقد تخرجت من مدرسة الدرك* بتفوق ، و عينوني في ضواحي العاصمة جزاء تفوقي ، و أدرت عدة مخافر بنجاح ، و صعدت سلم الترقيات بسرعة قياسية ؛ إلى أن وقعت تحت إمرة قائد مغرور ، اثارت ثقافتي أحاسيس الخطر في دفاعاته الذاتية ، و اشعل شبابي و نشاطي الجم نار غيرته ، فأخذ يتصيد أخطائي بدلا من مكافأة إنجازاتي ، فدفعني دفعا إلى الإصطدام به ؛ و لم تأخذ هيئة التحقيق بوجهة نظري ، فنفوني إلى منطقة تل الفرس .
بدأت معرفتي به مريرة كما أسلفت ، و لكنني سرعانما أحببته إلى حد التعلق ، فبروزه عملاقا بين أقزام ، شموخ و جلال يفرض الحب و الإحترام .
و لأنه أقرب نقطة من السماء ، فإن كبار القوم يوصون دائما بدفنهم فوق هامته ، و أما الصالحون فيدفنون هناك أيضا تكريما لهم ، و لكن في غمرة هذا الحب ، هل تساءل أحدهم عن إمكانية بعثه بركانا مزلزلا؟
و كذلك ، فإن أحدا لم يفكر كيف نشأت حوله حضارة حجرية في قلب حضارة البرونز و العجلة و المحراث و النقود المسكوكة .
فبعض الخرائب التي أقيمت فوق بعضها و من بعضها مساكن الناس الحاليين ، تنم – للمدقق – عن دارات فخمة ، بل أحدها لا يدع مجالا للشك بأنها كانت معبدا ، بيوتا قدَّها فنانون من الصخور الصلدة ، فجعل منها جدرانا متلاحمة بلا ملاط ، و أسقفا متماسكة لا تسمح بتسرب نقطة ماء في منطقة تغرقها الأمطار ستة أشهر في السنة ، حتى الأبواب و النوافذ و الأرفف و المشاجب ، نحتوها من نفس ذلك الصخر الأسود الصلد ، حتى لتبدو الحجرة من تلك البيوت بجميع مستلزماتها ، و كأنها إقتطعت من حمم البركان ذاته إبان عنفوانه ثم صبت في قوالب خرجت منه بيوتا متكاملة مذهلة التكوين .
و على ذكر البركان فلطالما تساءلت : هل سيبعث إلى الحياة ذات يوم كما بُعث ( فيزوف ) و سواه ، بعد خمود طويل ؟ و ظللت أتساءل ، كأنما كنت تحت تأثير قوة حاسة غامضة ، إلى أن قٌيض لي أن أشهد بعثه .
و لكن قبل أن أصف لك إنبعاث البركان و دويِّه المرعب ‘دعني أحدثك عن بقية تساؤلاتي ، التي ما فتئت تطرح نفسها منذ اللحظة التي وطئت فيها قدماي قرية الغدير الراكعة بالقرب منه و حيث المخفر الذي أديره .
إذ لم تكن تلك الأحجار المنحوتة بدقة السبائك هي وحدها مصدر عجبي ، فثمة نقود معدنية و حلي زجاجية و بقايا فخارية ، كان أطفال القرية يعثرون عليها أثناء لعبهم و عبثهم في أكوام الحجارة المبعثرة هنا و هناك على جوانب الأكمات المنتشرة حول تل الفرس .
هل حفزت تلك الموجودات ذهن أي من البدو الخمسة آلاف الذين يعيشون في خمس قرى حول التل و بضع عشر بيتا من بيوت شعر الماعز المنتشرة هنا و هناك ، هل حفزت أيا منهم للتعرف على أسرارها ؟ طبعا لا لأنهم لا زالوا يعيشون في بداية البداية من طريق الإستقرار و التحضر ، و الحلية منها لا تساوي بالنسبة إلى أكثرهم بعد نظر ، قيمة علبة تبغ رخيص و مجموعة ورق لف و ربما بضعة أعواد ثقاب لحرقها .
تصور أنهم شكوني لرؤسائي لأنني أجبرتهم على إصلاح طريق قريتهم ، و ناصبوني العداء لأنني ناصرت معلم مدرستهم في خطته الهادفة إلى تسوير النبع المجاور للمدرسة حرصا على صحة أبنائهم ، و لم يرضوا عني إلا عندما ساعدتهم في إخراج الضبع الذي كان ينبش قبور موتاهم من وكره في مغارة وسط التل .
لا تؤاخذني يا بني ، فمنذ أن أحالوني على التقاعد و أنا أستطرد في أحاديثي و أتشعب بها ، عادة ذميمة و لا شك ، و لكن لحسن حظي فإن تشعباته لا تتخطى الموضوع المثار و إلا اعتبرت نفسي شيخا خرفا .
كنت أتساءل أيضا ، ترى هل حفزت هذه اللقى أياً من رجال الدرك العشرين أو رؤساءهم الثلاثة الذين تواتروا على المخفر من قبلي للإستفسار عن مصدرها أو قيمتها الأثرية ؟ أبدا ؛ لأن مشكلة كل منهم كانت تنحصر بإبتداع الأساليب الكفيلة بالإحتفاظ برواتبهم الضئيلة ليقدموها آخر الشهر إلى عوائلهم غير منقوصة .
و لكن تلك الآثار لفتت إنتباه معلم المدرسة الوحيد للمدرسة الوحيدة ، مدرسة الغدير ، التي هي – في الوقت ذاته – مدرسة المنطقة كلها ، فهو الوحيد الذي فكر بالأمر و ناقشني فيه مرارا ، ثم لملم شجاعته و عرض بعضا من تلك الآثار على مدير متحف العاصمة الذي لم يعر الموضوع حقه من الأهمية‘ فعاد يجر أذيال الخيبة .
لم يفكر أحد بالأمر و الإنسان الوحيد الذي فكر فيه تجاهلوه …
لطالما تجاهلوا الظواهر و المؤشرات …
لطالما تجاهلوا دراسة الماضي و توقعات المستقبل …
فانحصرت عقولهم في الحاضر ، أضيق حاضر ، الحاضر الذي لا يبعد كثيرا عن مستوى أنوفهم .
لا يدهشنَّك كلامي يا بني ، فعلى مرمى البصر من قمة تل الفرس ، تحركت إحدى سلالات أمة بائدة منذ آلاف السنين، في الإتجاه المضاد لمجرى الزمن ؛ و لئن لم يبعث أصحاب القبور المنبوشة في المنطقة ، فإن أحفاد هؤلاء ، بعثوا أنفسهم من قبور الماضي و حصلوا على تفويض و معونة هائلة ، ثم انطلقوا في الأرض رويدا رويدا حتى بلغوا تل الفرس في أقل من عقدين ؛ فكان جزاء خمول العقل إستعباد الجسد .
و هكذا انضم سكان منطقة تل الفرس إلى قوافل النازحين ، و عدت إلى العاصمة دون أن يبرح تل الفرس خيالي .
كنت إذا صعدت قمته تطالعني السفوح و الوديان حتى الأغوار ، و التلال و الجبال حتى الجليل الأعلى ، و طرفا من بحيرة طبريا كنت أتبينه عن يساري و جزءا من بحيرة الحولة الآخذة بالإنكماش عن يميني ؛ كان نظري دوما يتجه إلى الغرب ، أما إذا وجهت نظري شرقا فسأشاهد سهل حوران و من ورائه جبل العرب ، و لكن إذا نظرت شمالا، فالتلال تتوالى حتى تبلغ جبل حرمون بتاجه الثلجي ، الذي صعدت إلى أكثر قممه مرارا ، و التي لم تكن الرؤية منها بوضوح مثيلتها من قمة تل الفرس .
كيف لم يفطنوا إلى هذا الموقع الفريد ؟ أما هم فقد فعلوا ، فما أن استقرت أقدامهم فوقه ، حتى أخذت جرافاتهم تحفر الأنفاق في بطنه و خلاطاتهم الضخمة بدأت على الفور في تحضير الملاط لدشمهم و استحكاماتهم ، و في قمة التل ثبتوا ( رادر ) كبير متحرك ، و هكذا حولوا تل الفرس إلى قلعة حصينة خلال أيام ، ثم بدأت سواعد علمائهم و طلاب جامعاتهم ينقبون عن الآثار في خرائب القرى الخمس المحيطة بتل الفرس ، بينما باشر خبراؤهم بتحويل ينابيعه الغزيرة إلى أنابيب تتجه مباشرة إلى مستوطناتهم .
*****
مكثت بعض الوقت في العاصمة ، ثم نقلوني إلى بلدة في سهل حوران ، فعادت عيناي تتكحلان بطلعة تل الفرس ، و لكنه أصبح الآن أبعد و أصغر و إن ظل ملك التلال .
ستة أعوام مؤلمة – يا بني – و تل الفرس يشد ناظري ، كنت أشعر حين تحجبه الغيوم بضيق لا يفرجه سوى ظهوره ثانية عملاقا مهيبا ؛ و ظلت الحسرة خلالها تأكل قلبي لفقده ، و الحزن يهيمن على مشاعري لفقدي كرامتي بفقده ، إلى أن جاء اليوم الذي انتشلني من مستنقع اليأس .
ففي يوم و مع طلائع الخريف ، نقلوني مع عناصري – بدون إيضاح – إلى جسر الرقات ، فأصبحت من جديد قاب قوسين أو أدنى من تل الفرس ؛ وضعونا في خيمة و طلبوا منا إحاطتها بصفوف من الحجارة .
ماذا يفعل رجال الأمن بين الجنود ؟ هل يمهدون مثلا لتبادل الأدوار ؟ تلك كانت تساؤلات رجالي ، اما أنا فشعرت أنني أقترب من تحقيق أمنية السنوات الست ، و إن لم تبدُ في الجو أية إشارة تبرر هذا الشعور ؛ فالجنود يقضون من الوقت في اللهو أكثر مما يقضونه بالتدريب ، ففي عصر يوم واحد فقط من ثورة البركان رتبوا لمباراة كرة سلة جرى خلالها هرج كبير ، و في الليل أشعلو ا نارا كبيرة رقصوا حولها و دبكوا و هزجوا .
و قبيل ذلك ، وصلت ناقلة مدرعة تحمل ضباطا لا تنتمي أزياؤهم إلى الزي العسكري للجيش السوري ، فأخذنا أنا و رجالي نحاول حل لغز أزيائهم و حضورهم معاً ، ثم تبين فيما بعد أنهم من عدة دول عربية .
و لكن …..
في الظهيرة ، أعلنت حالة التأهب ، نقلوها من فم إلى أذٌن ..
كانت الشمس ساطعة إلا أن سطوعها لم يلهب الأرض كما كان قبل أيام ، فقد امتزجت نارها بلسعات الخريف الباردة فاعتدل الطقس، إلا أن حالة الإستنفار أشعلت الحُمّى في العقول و الأوردة و الشرايين .
و في تمام الساعة الثانية عصراً ..
من اليوم السادس من تشرين الأول ( أكتوبر ) المجيد ..
بُعِث بركان تل الفرس …
أجل يا بني ..
تفجر البركان و كل البراكين من سفح جبل حرمون ( جبل الشيخ ) و حتى مشارف وادي اليرموك..
لم يلفظ تل الفرس حممه كسلوك البراكين ، بل صُبت فيه الحمم صبا …
آلاف المدافع ..إنطلقت جميعا و في وقت واحد تصدح نشيد الثأر ..
عشرات الدبابات برزت إلى السطح من مرابضها و بدأت تتجه نحو الغرب و هي تطلق قذائفها المدوية ..
و انتصبت الجسور المحمولة فوق الخنادق التي حفرها العدو كخطوط دفاع أولية ..
و إمتلأت السماء بالصقور السورية ، سربا وراء سرب ، تنقض الواحدة منها فتفرغ حمولتها من أدوات الدمار ، فلا تكاد تمضي حتى تنقض التالية ..
و اتصل لهيب الأرض بلهيب السماء ..
لم يفارق منظاري المكبر عينيَّ قط ، و خاصة عندما أقبلت عشرات الحوامات ، تلقي بمغاوير الجيش السوري و فدائيي جيش التحرير الفلسطيني ، فوق التل و ما جاوره …
و إن أنسى لا أنسى مشهد إحدى الحوامات و هي تحترق ، و من قلب اللهب ، كان الجنود المغاوير يلقون بأنفسهم واحدا في أعقاب الآخر ، بدون تدافع أو ذعر أو فوضى ، إلى قلب المعركة ، و الحوامة ثابتة إلى أن لفظت آخر مغوار ، و من ثم هوت مع قائدها بعيدا عن التل .
و لن أنسَ أيضا الضباط العرب الذين حضروا خصيصا لرصد المعركة ممثلين لكتائبهم المكلفة بدعم الخطوط الخلفية ، فقد سقطت قذيفة ( هاون ) فوق موقعهم مباشرة فتناثرت أشلاؤهم و امتزجت دماؤهم بتراب أرض تل الفرس و لونت صخورها السوداء بالأرجوان المقدس .
أما أنا فقد كُلفت مع رجالي بحراسة الجسر ، لأن حراسه من الجيش دُفعوا إلى المعركة …
كانت معركة شريفة ، أشرف المعارك طرّاً ، استبسل فيها أبطالنا جنودا و ضباطا ..
و لكن قوى الظلم و الشر لم تدعنا نهنأ بنصر كاد يتحقق ..فبمساعدة غربية هائلة ، أجهضوه ..
أي بني ..
لقد ثار بركان تل الفرس ..
فجرته صحوة تشرين ..
و لئن لم نسترد تل الفرس ، فقد استردينا كرامتنا ..
إن الرحم الذي رعى إرادة التصدي و الصمود ، ما زال صحيحا معافى ..
و سوف يلد تشارين أخرى ، رغم كل المؤامرات و الضغوط …
بركان تشرين ، مكنني من تجاهل كافة الترهات التي نشهدها اليوم ، الترهات التي ذكرتني بمباراة كرة السلة و نار الدبكة عشية ثورة البركان ..
فهلا تفاءلت معي يا بني ؟
و كففت عن مشاعر الضياع ؟!
————————
**الدرك : شرطة الأرياف و قد اندمجت بشرطة المدن فيما بعد
————————
سوري مغترب