قصة

نزار ب. الزين

خيمتان عملاقتان نصبتا في ساحة قرية الغدير الرئيسية  ، توزع على وسائد الأولى المزركشة وجهاء القرية و ضيوفها من القرى المجاورة الذين بدؤوا منذ قليل بالتوافد .. و في صدر الخيمة جلس  العريس جاسم الهوري و قد زين هامته بكوفية من الحرير محاطة بعقال مقصب ، و ألقى فوق كتفيه عباءة أعارها له صديقه عبد العزيز الصوان  و هو من شيوخ العشيرة و انتعل حذاء لامعاً أعاره له معلم القرية الأستاذ مروان .

<< مذ كانت وضحه في العاشرة  كان جاسم يتابعها بعينيه بشغف  أينما صادفها ، و عندما أصبحت في الثانية عشر أضحى جاسم  يسبقها إلى الينبوع الغربي  منتظرا إطلالتها ، و لكن  حين بلغت  الرابعة عشر  ، لم يعد جاسم يقوى على كبت مشاعره ، فيقترب منها محييا ، تتغامز صديقاتها فيبتعدن ، و يبدأ جاسم ببث لواعج حبه ، أما هي فكانت – بداية –  تطرق رأسها خجلا ، و لكن رويدا رويدا بدأت تتجرأ  فتبثه – بدورها – لواعج هواها..>>

و في الخيمة الأخرى جلست النسوة و ضيوفهن من القرى المجاورة ، و تصدرت وضحه المكان و قد أحاطت بها بعض العجائز ، أخذن يزينها بما حضَّرن من أدوات  ، فرسمن على يديها و قدميها بعض الزخارف مستخدمين الحِنَّة ، ثم ألقين على رأسها خمارا جديدا ثبتنه بطوق مشكوك بالليرات الذهبية  ، ثم عطرنها بماء الزهر و  الورد ، بينما كانت الزغاريد و الأهازيج  تتعالى …

<< رفضت وضحه كل الشبان الذين تقدموا لخطبتها ، و هددت بالانتحار إذا أرغمها والداها على قبول أحدهم ، لم تعد تحلم إلا بجاسم ، صورة جاسم كانت تحجب صور الآخرين مهما علا شأنهم ، منذ كانت في العاشرة لفت جاسم نظرها ، و عندما أصبحت في الثانية عشر كانت تتلهف لرؤيته و قد سبقها إلى الينبوع الغربي ، و لكن حين بلغت الرابعة عشر كان حبه قد ملك كل مشاعرها ، ثم لم تعد تتحرج من الجلوس إلى جانبه تبثه لواعج هواها ! >>

نُحرت الذبائح التي أحضر معظمها ضيوف الحفل الذين حملوا معهم  أيضا أكياس الرز و البرغل ، ثم أُوقدت النيران ، و ثُبتت الحلل النحاسية الضخمة فوقها ، و بدأت – من ثم – عملية الطهو لإطعام عشرات الأفواه .

و ما أن مالت الشمس نحو المغيب حتى تحلق الشبان حول العريس و أخذوا            (يسحجون)* بينما تحلقت حول العروس فتيات القرية ، متماسكات الأيادي و قد باشرن برقصة (الدبكة)* و هنَّ  يرددن ما  تنشده واحدة أو أكثر منهن من أهازيج ، و من حين لآخر كانت  الزغاريد تصدح لتبلغ عنان السماء ..

كانت بعض تلك الأهازيج تدور حول كرم الضيوف الذين توافدوا من القرى المجاورة  و وصف ما جادت به أيديهم ، و بعضها  تطنب في مديح آل الصوان شيوخ العشيرة ، إضافة لوالدي العروسين ، و أهمها  كان يدور حول  قصة الحب التي جمعت بين بطليها جاسم  و وضحه …

<< كانت قصة جاسم و وضحه قد انتشرت في قرية الغدير انتشار النار في الهشيم ، و انتقلت – من ثم – إلى القرى المجاورة  و اخذ الناس يتداولونها كما حكايات  قيس و ليلى أو قيس و لبنى أو كثيرٌ و عَزَّه >>

و بلغ الحفل أوجَه ، عندما اعتلى عبد العزيز الصوان فرسه المزينة و في يده بندقيته ، ثم  اعتلى  ثلاثة  شبان  آخرين  خيولهم  و في  يد  أحدهم مسدس و في يد كل من الآخرين  سيف  .

أخذوا يدورون خببا* حول حلقة الدبكة تارة و حلقة السحجة حينا آخر ، بينما أخذ عبد العزيز الصوان يطلق من بندقيته طلقات في الهواء تحية للفتيات اللواتي كن يهزجن باسمه من حين لآخر ، و كذلك فعل معيوف الخميس الذي أخذ يطلق من مسدسه ، بينما اكتفى الآخران بهز سيوفهم يمنة و يسرة…

<< والد  وضحه الذي أحرجه وجهاء القرية بطلب وضحه لجاسم ، أصر على حصوله على مهر ابنته كاملا وفق ما تقتضيه الأعراف ، (أربعون راس  و مائة قرطاس*) كان والد جاسم لا يملك إلا أقل من نصفها ؛ فاضطر جاسم للذهاب إلى المدينة كي يكدح  فيكمل مهر حبيبته ، سنة كاملة غاب ، كان يكتفي خلالها بوجبة واحدة و ينام في مواقع عمله غير آبه لحرٍّ أو قر ، و كان كلما تجمع لديه مبلغ من المال يعود لقريته  فيسلمه لوالده الذي كان يبادر على الفور بإضافة بضعة رؤوس من الماشية إلى القطيع المهر ؛ بينما  استمرت  وضحه  ترفض  الخطاب  رغم  كل  الضغوط  التي  مارسها  عليها أهلها >>

كل ذلك يتردد زَجلاًً في أهازيج فتيات القرية ، بينما استمر الخيالة بقيادة عبد العزيز الصوان يدورون خبباً* حول  السحاجين و الدباكات ، و استمر عبد العزيز يطلق من بندقيته ابتهاجا و كذلك كان يفعل معيوف الخميس .

و إذ خرج جاسم ليلقى عروسه و يذهب بها إلى عش الزوجية …

و بينما تعالت الزغاريد أكثر  فأكثر …

و تعالت أصوات السحاجين و تسارعت سحجاتهم حتى أدمت راحات أكفهم ..

جفلت – على حين غرة  –  فرس عبد العزيز الصوان ، فأوقعته أرضا …

و أثناء وقوعه ضغط عن غير قصد على زناد بندقيته …

فانطلقت رصاصة  لتستقر  بين عيني جاسم الهوري .

———————-

الخبب : جري الخيول استعراضيا بسرعة قليلة

الدبكة : رقصة شعبية جماعية معروفة في بلاد الشام

يسحجون : أي يصفقون برتابة و لكن بحماسة بدأت تشتد و تتعالى رويدا رويدا ..و هم يهمهمون بعبارة لامعنى لها كجزء من الإيقاع : ” دح .. دح … دحِّ يُمّة … دح .. دح … ”

مائة قرطاس : مائة من النقد الورقي المتداول في حينه

———————-

نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب