بعد سهرة طويلة في بيت رئيس مخفر  قرية الغدير ، ترك الأستاذ مروان المضافة في طريقه إلى سكنه في المدرسة ، و في يده  عصا ، يهش  بها  الكلاب  الضالة  إذا صادفته  ،  و بيده  الأخرى  ضوء  بطارية ( فلاش ) ، كان يضيئه  من حين لآخر  تجنبا للتعثر بالحجارة التي كانت تملأ الطريق .

كانت تلك هي المرة الأولى التي يتأخر فيها مروان حتى انتصاف الليل ، أما السماء فكانت صافية و الهواء عليلا ، إلا أن القمر كان في أواخر أيامه فلن يظهر قبل الفجر ، و لكن أضواء النجوم كانت كافية لتريه طريقه  بمعاونة ضوء البطارية ..

كان يصفر لحنا جميلا عندما لفت نظره ، حيوان  ما ، يتعقبه …

وجه  الضوء  نحوه  فلمعت  عيناه ، و لكنه  لم  يميزه ..

أما  الحيوان  فقد  كف  عن  اللحاق  به ، لربما  أزعجه  الضوء

” ترى هل هو كلب ضال ؟؟ “

” أم ترى هو ذئب يبحث عن فريسة ؟!  “

ارتعدت فرائصه لمجرد الفكرة

 و بدأ يسمع ضربات قلبه و كأنها طبل أفريقي يعلن النفير !

” لقد انتهيت يا مروان “

” آخرتك بين فكي حيوان مفترس ، يا مروان !! “

أخذ يهمس إلى ذاته و قد بدأ يشعر بشلل الرهبة .. ، و لكنه تجلد  و  استمر يغذ السير ..

” لا زلت في منتصف الطريق ، يا مروان “

” الله يرحمك يا مروان “

و لكنه تجلد  و  استمر يغذ السير …

و من حين لآخر كان  يلتفت نحو رفيقه المرعب ..

يسلط الضوء نحوه ، تلمع عيناه  ، يكف عن اللحاق به  لفترة وجيزة ، ثم يتابع ..

يسمع الآن لهاثه ..

” لقد اقترب اللعين …. ”

يرفع مروان عقيرته بالغناء … فيخرج صوته متحشرجاً ..

يشعر أن الحيوان أصبح  وراءه مباشرة الآن ..

يلتفت مسلطا الضوء عليه ..

يا للهول إنه ضبع ..

يعرفه من ظهره المائل ..

” رأيت الضبع ( الذي أكل بياع الحلاوة) ، في أحد الأعياد ، عندما كنت  طفلا  يا مروان  .”

” رأيت صورته في عدة كتب يا مروان ..”

” الله يرحمك يا مروان ”

يكاد يسقط  …

يتجلد ..

يجر قدميه ..

و لكن الضبع يبتعد عنه قليلا نحو اليمين ..

ربما أزعجه الضوء !

أخذ مروان يصرخ  ، ملتفتا نحو القرية خلفه:

” وين راحوا . وين راحوا…وين راحوا النشامى   ”

” يا أبو عدنان … يا أبو فيصل  .. يا أبو شهاب !!!! ”

و لكن الضبع لا زال يرافقه ..

يسلط عليه الضوء من جديد ..

يبتعد الحيوان أكثر ..

يعاود الغناء بأعلى ما أوتي من صوت ، يخرج صوته متحشرجا أكثر من قبل…

ثم يعاود الإستنجاد بأعلى ما أوتي من صوت الذي لا يزال  يخرج  متحشرجا :

” وين راحوا .. وين راحوا…وين راحوا النشامى  ”

” يا أبو عدنان … يا أبو فيصل  .. يا أبو شهاب .. يا أبو هايل !!!

و لكن بلا طائل فكل الناس- الساعةَ – نيام …

يتجلد  ثم  يستمر يغذ  السير …

فجأة يلمح بناء المدرسة …

” لقد اقتربت من طوق النجاة يا مروان ”

” تجلد يا مروان ”

” إنها بضعة أمتار يا مروان ”

يسلط الضوء نحو اليمين

” لا زال اللعين يرافقني  ”

يقترب من المدرسة ، يجري ، يخرج المفتاح من جيبه سرواله المبلل بيد مرتعشة ، يصعد الدرجات الثلاث قفزا فيتعثر ، ينهض بسرعة ، يفتح باب غرفته ، يدخل و هو يلهث ، و طبول قلبه لا زالت تدق ايقاع الخطر ، يقفل الباب ؛ يجر الطاولة وراء الباب … ثم يتهالك فوق سريره  ، و هو يهمس إلى ذاته :

” لقد نجوت  يا مروان … ”

” كاد الضبع يلتهمك يا مروان … ”

” و ليمة عشاء فاخرة ، كنتَ ستمسي ، يا مروان ”

” ربما كان سيدعو أم عياله السيدة ضبعة ، و جراءه الجائعين ، أو ربما كان سيجرك إليهم …. يا مروان ”

” الحمد لله على سلامتك .. يا مروان …”

في اليوم التالي ، قص ماجرى له ، على كل من صادفه .

صدقه البعض و ظن البعض أنه متوهم !

و بعد انتهاء الدوام المدرسي  ، توجه إلى المخفر ، ليحكي لصديقه أبو عدنان – رئيس مخفر الغدير –  عن تجربته المرعبة  تلك ، و يعاتبه لأنه لم يرسل معه مرافق ليلة أمس .

و تصادف وجود أحد وجهاء القرية ، الذي أكد أن مرافق الأستاذ كان بالفعل ضبعا ، و لكنه لم يكن جائعا ، فقد نبش قبر طفلة  رضيعة كانت قد دفنت بالأمس ؛ ثم أضاف ضاحكاً :

– و لولا أنه كان ممتلئاً لكان الأستاذ مروان وجبته  ! .

 

انتشرت ، قصة الأستاذ مروان بين أهل  قرية الغدير ، ثم تناقلتها الألسن إلى القرى المجاورة ثم إلى مركز المحافظة ، كانوا ينقلونها بصور شتى و بأساليب مختلفة ، حتى تطورت إلى عبارة :      (( الضبع ، أكلَ الأستاذ  مروان ، معلم مدرسة الغدير))

و بطريقة ما  بلغت القصةُ العاصمة  .

ثم تناولتها إحدى الصحف مُبهَّرةً محوّرة !….

 

بعد بضعة أيام ، فوجئ  الأستاذ مروان  بحافلة تقف جوار المدرسة ، ثم  يترجل  منها  والده و عمه و شقيقيه  و بعض  الأقارب  !!!

و ما أن رَأوه حتى هرعوا نحوه يضمونه إلى صدورهم  مهنئين  بسلامته .

 نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب