قصة قصيرة
نزار ب. الزين
صبحة ، مليحة قرية الغدير ، تغنى بجمالها الرعيان و حراثو الأرض و شبان القرية و القرى المجاورة ؛ بعيننيها الدعجاوين و بشرتها زهرية اللون ، و طولها الفارع ، جمالٌ صارخ لشخصية هادئة وديعة خجلى .
ما أن بلغت صبحة السادسة عشر حتى تقدم لطلب يدها ابن عمها شهاب ، و إذا تقدم ابن العم لخطبة ابنة عمه عند أهل الغدير و القرى المجاورة ، فإن الشبان الآخرين يبتعدون ، مهما بلغت بهم لواعج هواها.
شهاب في مطلع شبابه و لكنه فقير ، لا يملك شيئا من (سياقها*) الغالي ، و هو ( أربعون رأس و مائة قرطاس *) كما جرى العرف عند أهل الغدير ، و لكنه أكد لزوجة عمه و هي المسؤولة الوحيدة عنها ، أنه سيسافر إلى دولة عربية مجاورة ، رئيس أركانها الأجنبي يحب أن يجند البدو ، و لا يقصر في إكرامهم ، و حالما يتجمع لديه مهر صبحة فسيعود ليصحبها إلى بيت الزوجية مرفوعة الرأس.
و في ليلة شيطانية تسلل شهاب إلى فراش صبحة ، كانت تلك ليلة الوداع … و الوعود المعسولة….
*****
بعد حوالي شهر ، بينما كانت صبحة ترعى عنزتين و نعجة لا تملك والدتها سواها ، فتعتاشان كليهما من لبنها ، مرت قرب خيمة للشرطة العسكرية ؛ فتمكن ضابط نقطة التفتيش من جرها إلى الخيمة بدون مقاومة تذكر ، اللهم سوى جملتين كانت ترددهما تعبيرا عن شعورها بالحرج أو ربما الخوف : ” ملعون أبو أبويي ، ملعون أبو أمي !.. ”
بعد حوالي شهرين ، كانت صبحة تمر مع عنزتي والدتها و نعجتها ، قرب ورشة العمار التي تقوم ببناء مدرسة القرية الجديدة ، فتمكن المقاول المحنك من جرها إلى إحدى غرفتي المبنى ، بدون مقاومة تذكر اللهم سوى جملتين كانت ترددهما تعبيرا عن شعورها بالحرج أو ربما الخوف: ” ملعون أبو أبويي ، ملعون أبو أمي !!.. ”
بعد حوالي ثلاثة أشهر ، كان يتوالى عليها كل الغرباء من عسكريين و بنائين و( درك* ) و سواهم ممن تواجدوا في القرية أو في محيطها ، و أخذوا يرددون فيما بينهم – و هم يقهقهون – جملتيها : ” ملعون أبو أبويي ، ملعون أبو أمي !!…. ” .
أغضب هذا الحال خالها لافي ، و هو عاطل عن العمل و مشهور في القرية بسوء سلوكه و نشاطاته المشبوهة في مركز المحافظة ؛ سُمع و هو يصرخ في دار شقيقته ، ظنوا بداية أن النخوة استبدت به و أنه ينوي على الشر ، و لكنه كان يقول بأعلى صوته غاضبا و لائما : << اسم صبحة بات على كل لسان ، و ما يبعث على الجنون أن كل ذلك بالمجّان ؛ أبو صبحة – الله لا يرحمه – ترككما على باب الله و لم يخلف لكم إلا هاتين العنزتين الهزيلتين و تلك النعجة التي جف لبنها ؛ أما الكلب ( ولد الكلب ) شهاب ، فقد دخل على صبحة بالحرام و تركها ( مُحيَّرة *) ثم لاذ بالفرار..لا حس و لا خبر.. >> ثم أضاف هامسا : << إذهبا معي إلى مركز المحافظة و سأجعلكما تلعبان بالذهب الرنان ، و سوف أعوضكما عن الذل الذي تعيشان فيه !….>>
و كان ما أراد ! .
*****
بعد سنتين شوهد شهاب في مركز المحافظة يسأل عن ( أبو سامي ) صاحب دكان (( كل شيء)) ؟!
عندما بلغ الدكان ، سأل عن صبحة ، فقال له أبوسامي ببرود : ” خمس ليرات تدفعها سلفا ” فثارت ثائرة شهاب …
ثم أمسك بتلابيبه …
ثم اقتحم الدكان ….
ثم دفع أبو سامي أرضا …
ثم اندفع نحو غرفة داخلية أُخفي مدخلها بستارة ، ليجد صبحة جالسة على حافة سرير متهالك ترتعد خوفا ، و هي تردد بفم مرتعش : : ” ملعون أبو أبويي ، ملعون أبو أمي !.. ” .
*****
عندما توفي مختار القرية ، و توجه رجالها لدفنه ، في قمة تل الفرس ، كما جرت العادة مع وجهاء القوم هناك ، فوجئ المشيعون بمنظر تقشعر له الأبدان ، و بصعوبة بالغة تعرفوا على الجثة المشوهة …
فقد كانت جثة صبحة مليحة الغدير .
—————————-
*سياقها : أي مهرها
* أربعون رأس و مائة قرطاس : اربعون رأس من الماشية تقدم لأهل العروس و مائة ليرة لتجهيزها
* الدرك : شرطة الأرياف
* محيرة : إصطلاح محلي بمعنى أن أحدا لا يستطيع أن يطلب يدها بعد أن طلبها ابن عمها و أعلنها خطيبته
———————-
سوري مغترب