قصة

 نزار ب. الزين *

     تحيط بقرية الغدير أراضٍ استزرعها  سكانها من البدو المستقرين حديثا رغم صعوبة استصلاحها ، و لكن النبعتين الغربية و الشرقية ، كانتا  تشجعان السكان الجدد على الإستمرار ، رغم صعوبة المناخ و تدني الحرارة إلى ما دون الصفر معظم أيا الخريف و الشتاء .

عندما تهطل الأمطار  تفيض النبعتان  بالماء  و تظهر ينابيع أخرى  هنا و هناك ، فتغرق ما زرعه السكان و قد تخربه ، أما في الصيف فتكاد النبعتان – و خاصة الشرقية منهما  تجفان  – مما جعل الزراعة الصيفية مستحيلة !

دوما ، كان السكان يشكون من اضطراب مصدرهم المائي ، فيفيض عندما  لايكون له حاجة و ينضب عند الحاجة ، إلا أن إمتلاكهم لبعض الماشية ، كان يمنحهم بعض التعويض .

كان الأستاذ مروان ، يستمع متأثرا إلى مشكلتهم ، و يناقشهم أحيانا حول إمكانية حفر بئر  قد  يكون ماؤه غزيرا ، كما فعل أهل قرية  الختمية التي لا تبعد أكثر من بضعة كيلومترات ، و لكنهم كانوا يرفضون الفكرة بحجة أن الأرض صخرية و أن أدواتهم البدائية لن تمكنهم من ذلك ، و عندما اقترح عليهم استقدام آلة حفر هزوا رؤوسهم آسفين ، لأن إمكانياتهم المادية لا تسمح لهم بذلك !

 

*****

و ذات يوم

و بينما كان الأستاذ مروان في العاصمة في زيارة الأهل

قابل أحد أقاربه و هو مهندس بناء

سأله ” أين يُدرِّس” ، فأجابه ” في قرية الغدير ”

تبسم قريبه هذا ، ثم سأله :

– أتدري أنني كنت المهندس الذي أشرف على بناء مدرسة الغدير ؟

دهش مروان لهذه المصادفة و لكنه فوجئ أكثر عندما  أضاف :

– إصغ يا مروان إلى القصة العجيبة التي حدثت لي هناك !

فبينما كنا نحفر لبناء أساسات المدرسة ، سمعنا هديرا غامضا ، حفرنا أكثر ، ففوجئنا بمجرى ماء  قوي ، جرف أداة الحفر التي كان يستخدمها أحد العمال …

و لكن في اليوم التالي و بعد أن استدعينا قائد المخفر ليشاهد معنا  ما شاهدناه ، كانت الصدمة ، أن ذلك المجرى قد غار و اختفى  !

أجابه مروان متحمسا :

– هذا معناه أن المنطقة تعوم فوق بحر من المياه .

– محتمل ، لأن المنطقة تقع على أحد سفوح جبل الشيخ  ، و الثلج كما  تعلم يغطي قمم الجبل صيفا شتاء ، مما يشكل مصدرا مائيا لا ينضب .

 

*****

لم ينم مروان تلك الليلة و هو يفكر  بالخبر السعيد الذي سينقله لسكان قرية الغدير ، فقد  يقضي على فقرهم و يرحمهم من ابتزاز أبو عادل المرابي  ، و أبو شاكر البقال اللذان  ما فتئا  يستنزفانهم ،

 

*****

منذ لحظة وصوله إلى القرية و قبل أن يستريح ، توجه إلى مضافة المختار ، الذي استدعى وجهاء القرية بدوره ( إلى مؤتمر قمة !. )

كانوا بين مصدق و مكذب ..

و لكن الأستاذ مروان أوضح لهم أهمية الأمر ، و أن من أخبره مهندس معروف ، و لا بد  أن أحدهم أو بعضهم  تذكره .

و بعد مداولات ، تخللها الكثير من المشاجرات و المهاترات …

استمرت حتى  ساعة  متأخرة  من  الليل ، ثم  استغرقت  اليوم  التالي بطوله …

صدر قرار غير ملزم …

أن يكلفوا شبان القرية بالبدء بحفر بئر  بجوار المدرسة ….

 

*****

بدؤوا الحفر متحمسين و هم يهزجون ….

فترت حماستهم بعد ساعة أو تزيد قليلا …..

كُسرت مِجرفة  محمد العبد الله ، فانسحب غاضبا !

ثم  بدؤوا ينسحبون الواحد تلو الآخر !!!

حاول الأستاذ  مروان ثنيهم عن ذلك…

قال أحدهم : ” إننا كمن ينطح رأسه بالصخر ”

قال آخر: ” أتعبتنا يا أستاذ مروان بلا طائل  …”

آخرون رفضوا حتى الإصغاء إليه ، أداروا ظهورهم له ، ثم غادروا و هم يغمغمون ..

وقف مروان على حافة الحفرة الجافة التي لا يزيد عمقها عن المتر الواحد ،  و قد غمره شعور  بالخيبة و الإحباط   ..

و في الأيام التالية ، ظل مروان يسمع التعليقات اللاذعة و التلميحات الساخرة أينما سار أو زار فيتجاهلها…

و ظل يقرئ السلام فيردون سلامه بجفاء أو لا يردون …

 

*****

أما في المدرسة ، فقد حاول ابن المختار إحراجه ، فسأله و قد رسم على شفتيه ابتسامة خبيثة :

– يقولون  في القرية  أن  ماء  الغدير  إبتلعته  أفعى  ألفيَّة*  ، يا  استاذ !!!…

و قبل أن يتم كلامه دوت ضحكات التلاميذ .

تمكن الأستاذ مروان بصعوبة من ابتلاع غضبه ، ثم بادرهم قائلا بأعلى صوته :

” درس اليوم سيكون عن ماء الغدير ، و عن المياه الجوفية بشكل عام”

و بعد أن شرح لهم كيف تتسرب المياه بين الصخور لمسافات شاسعة ، فتشكل مجارٍ خفية  و على أعماق مختلفة ، منها ما ينبثق  تلقائيا  كنبعي  الغدير  الشرقي و الغربي ،  أو ما  يُجر صناعيا  عن  طريق  حفر الآبار ، كما حصل في قرية الختمية ؛ ثم أضاف مؤكدا بصوت الواثق من كل كلمة يتفوه بها  :

” الإنسان الجاد المخلص لبلده لا يستسلم أبدا ، كما فعل شبان الغدير منذ يومين .. و ما فشلوا فيه كان  نتيجة خمولهم و يأسهم السريع ، و ليس نتيجة  معلومات خاطئة أو مزحة ثقيلة  كما يشيعون ! ”

ثم أضاف :

” ما فشلوا  فيه  قد تنجحون فيه أنتم عندما تكبرون ، فقط إذا تحليتم بالجد  و وحدة الراي و الصبر و المثابرة . ”

*****

ثم استعرت حرب حزيران

الطاغوث الذي استنسخوه على ضفاف التايمز ، من  جينات  عمرها  أكثر من ألفي عام ، التقطوها من أحافير التاريخ ..

أصبح عملاقا ..

فبدأ قفزته الكبرى الثانية  ….

فاستولي من ضمن ما استولى ، على الغدير و ما جاورها…

و صحا أهل الغدير ذات يوم ليفاجَؤوا بنضوب النبع الشرقي !

و لكنهم فجعوا بعد عدة أيام  بنضوب النبع الغربي  !!!

و  إذ جازف أحدهم فاقترب من السور الشائك المقام قرب المدرسة و النبع الغربي..

سمع هدير الماء يطغي على صخب المضخات !

—————

**ألفية :   معمِّرة لألف سنة

—————

*نزار بهاء الدين الزين

   سوري مغترب