قصة

نزار ب. الزين*

–    طلقها !

–   لكم  أكره هذه  الكلمة ، لكم  أمقتها و أنفر من ذكرها ، لكم حطمت بشرا و  شتت  أسرا .

أذكر جيدا يا أبي أنك اخترتها لي  و أنك آثرتها من بين كثيرات بل و قد انتزعتها لي بمؤامرة من أحد خطابها ، فكيف تدعوني الى طلاقها  يا أبي ؟

أطلق من ملأت حياتي بهجة ؟ بأي ذنب ؟ بأي منطق ؟ و ما شأني ببقاء السلالة طالما أنا سعيد  ببقائي ؟!

” على أي حال له قضيته ، لعله يراها عادلة فيتشبث برأيه و يلح بطلبها و يلحف بالرجاء ليحققها ، عدالته هي عدالة المصلحة العليا ، مصلحة السلالة – مع أني لا أظنها سلالة فريدة من نوعها- هي لا شك غريزة عمياء يسمونها غريزة بقاء النوع ؛ أما عدالتي و للغرابة هو غارسها ؛ فهي مقابلة الود بالود ، و الاحسان بالاحسان ، و الوداعة بالرقة ، و الاخلاص بالرعاية ، و العطاء بالسخاء . “

طلقها ، يكررها كلما طلب الخلوة بي و ما أكثر ما يطلب الخلوة بي ليقول لي طلقها !

– طلقها .. طلقها .. طلقها .. لقد أعطاك الشرع هذا الحق فاستثمره .

فطوم ابنة خالك تبين أنها مصابة بالعجز الكلوي ، أفتى شيخ لزوجها بالطلاق فطلقها و هي  لا زالت عروسا ؛ سليمة  حفيدة ابن عمي سليمان ، أصيبت بحالة اكتئاب إثر حمل لم يستقر ، فأفتى شيخ بجواز طلاقها فطلقها ,

كل الناس يطلقون الا أنت ؟!

–  أهي سلعة ، يمكن إعادتها  لبائعها أنى نشاء ؟ يا أبي؟! “

– طلقها .. طلقها .. طلقها ..

ضجيج هذه الكلمة الكريهة يصم أذنيّ .

زوجة أبي مستعدة للبحث عن غيرها في الحال !

” حذاء يمكن استبداله أنّى نشاء ؟!.” هكذا هَمَسَت في أذني ذات يوم .

و لكنك لم تنجبي بدورك يا زوجة أبي ، لِمَ لم يطلقك أبي يا زوجة أبي ؟

عمتي تقترح أن أتزوج من أخرى على أن أبقيها بذمتي فلا أكون ظلمتها !

و لكنك اكتويت بمرارة الضرّ يا عمتي …

أعمامي لاذوا بالصمت ، لقد أنجبوا بناتا فلا يحق لهم و الحال كذلك الحديث عن بقاء السلالة !

مضت عشر سنوات أو تزيد ، مائة و عشرون شهرا أو تزيد ، أربعة آلاف يوم بلياليها و لم أفرحك بطفل يا زهير .

اني أشعر بمعاناتك يا زهير .

أشعر بقلبك الرقيق يكتوي بمرارة الصراع .

أشعر بضرباته القوية في مجابهة الضغوط .

أشعر بحبك الكبير لأبيك  و ببرك بأبيك و رغبتك الصادقة بطاعة أبيك

و كذا  أشعر بحزنك لانتقاصك من برّه و طاعته من أجلي .

كم بودي دعوتك اليها تلكم الكلمة البغيضة فأعفيك من ألم النفس و عذاب الضمير ، و أريح والدك و كل أؤلئك الذين التفوا من حوله يتحسرون على سلالة أصبحت وشيكة الانقراض .

كم بودي دعوتك اليها و لكن الموت أهون علي منها يا زهير .

فأنا لا أشعر بالحياة الا بين ذراعيك و لا بالطمأنينة الا في محيط أنفاسك و لا أستطيب الحركة الا اذا كانت من أجل خدمتك .. أنا .. أنا لا أفهم العالم الا من خلال عينيك .

فلنحاول ثانية و ثالثة  ، فلنحاول للمرة الألف بل للمرة  المليون  … قدرتي على الاحتمال لا حدود لها ..

لقد اعتدت أسّرة المشافي و ألفت طعوم الأدواء و روائح العقاقير .

لم تضجرني أحاجي الأطباء السمر منهم أو الشقر .

و لم و لن أسأم قط إذا حولوني الى فأر تجارب ..

ولم و لن أتذمر أبدا من أنابيب تغرس في عروقي و حقن تمتص دمائي  و شعاعات تنقب في أحشائي و عّينات تنتزع من أنسجتي .

المهم أن أقدمه لك ذات يوم .

له نفس عينيك الحانيتين .

له نفس قلبك الكبير و نفس صبرك الجميل .

حاملا نفس نبلك ..نفس أخلاقك .

لأجل عينيك يا زهير أحتمل كل الشقاء و كل الألم .

وليس من أجل سلالتك المجيدة .

*********

– زهير

لقد احتضنتك أبا و أما حين فقدت الأم ، و رعيتك منذ الثالثة من عمرك ثانية بعد ثانية و تابعت نموك رقما بعد رقم و أنشأتك فكرة إثر فكرة و دفعتك في درب الحياة خطوة بعد خطوة  ، حتى جعلتك طبيبا ينحني له الأطباء  ، و مع ذلك ترى في حلقي غصة فلا تحاول خلاصي منها.

أنا أطلب منك حفيدا و حسب  يا زهير ، هل كثير عليّ أن يكون لي حفيد يا بني ؟

طلقها أو تزوج من أخرى فالشرع أحل لك أربعا يا زهير !

–        – أبتي

العلم يتقدم و الطب  كذلك يتقدم .

كل يوم كشف جديد .

كل يوم فتح جديد .

كل يوم أمل جديد .

أطفال الأنابيب هل سمعت بهم ؟

الأرحام المستعارة هل قرأت عنها ؟

و مع ذلك أنا لا أفكر باستعارة رحم أو استخدام أنبوب .

زوجتي ليست عاقرا يا أبي إلا أنها كثيرة الإجهاض .

زوجتي التعيسة يا أبي تعاني من عدو كامن في أحشائها مرصود لاجهاض فرحتها …

زوجتي ضحية الآلية الحمقاء و شذوذ الطبيعة …

هل سمعت بمقاومة الجسم الذاتية  للمواد الغريبة  حتى لو  كانت لمنفعته ؟

هل سمعت بموت من زرعت لهم قلوب أو رئات  أو كلى ؟

جهاز زوجتي المقاوم يخال أجنتها أجساما عدوّة فيفرز حولها سمومه ليقضي عليها قبل اكتمالها ؛ تلك  هي  المعضلة ؛ فما  ذنب  زوجتي  يا أبي ؟

اني طوع بنانك في كل أمر يا أبي الا في هذا الأمر  فاعذرني أرجوك .

********

بقايا ( أمل ) على سرير أبيض التصق ظهرها به منذ شهور سبعة …

شاحبة الوجه ، ذابلة العينين ؛ غرسوا في رقبتها أنبوبا وصل بين وريد رقبتها الأيسر و جهاز تنقية الدماء ، و هي على هذا الحال منذ شهور سبعة …

( زهير ) الى جانبها جامد التعبير ، عودته الشهور السبعة على كآبة المنظر .

يدخل كبير الأطباء و ثلة ضمت أطباء و ممرضات ؛ يفحصها بدقة ، يبتسم ، يخاطبهما بثقة : ” لقد أكمل شهره السابع و هو بصحة جيدة ، قلبه ينبض بقوة ، وضعه في الرحم سليم ، حركته تشير الى نشاط و حيوية ؛ لقد زالت معظم الأخطار . ” ثم أكمل موضحا : ” الخطر الوحيد المتبقي هو أن يلتهب هذا المكان – و أشار  الى  نقطة التقاء الانبوب بالرقبة – عندها سنضطر الى سحبه قبل موعده ؛ الا أنه خطر بعيد الاحتمال  . ” و أضاف و قد ملأت ثغره ابتسامة عريضة : ” اني أقول هذا لأؤكد لك  بأنك ستصبحين أما و سوف تنعمين بنعمة الأمومة يا سيدة أمل “

لم تستطع ( أمل )  ضبط نفسها فأجهشت بالبكاء .. بكاء الفرح .. بكاء الفرج .. بكاء الأمل الضاحك…

أما ( زهير ) فقد تهاوى على الأرض فسجد سجدة طويلة ، و اذ  احس بابتعاد ملائكة الرحمة ، زحف نحو السرير  فألقى برأسه على صدر زوجته  ثم راحا معا في نشيج متناغم .

كان زهير يسر الى ذاته :- ” ستحصدين قمح الصبر يا ( أمل )…. وتذوقين ثمار النصر .. و تنسين ليالي القهر . “

و كانت ( أمل ) تسر الى ذاتها : ” ستحصد قمح الصبر .يا زهير. و تذوق ثمار النصر .. و تنسى ليالي القهر “

و استمرت تهمس الى ذاتها : ” اليوم عادت الي آدميتي  .. أنت أعدت الي آدميتي يا زهير .. أنت و كل هؤلاء الأطباء  والعلماء و الباحثون .. تضافرتم جميعا لتعيدوا اليَّ إنسانيتي بعد أن كدت أفقدها .. و سأظل مدينة لكم جميعا الى الأبد .”

و فجأة رفعت رأسها ، مسحت دموعها ، و بصوت نابض بالحرارة قالت : ” زهير قم حالا و اهتف لأبيك و بشّره بالخبر السعيد . “

—————-

*نزار بهاء الدين الزين

  سوري مغترب