قصة قصيرة
نزار ب. الزين*
عماد مدرس في إحدى ثانويات العاصمة ، و هو و جميع أفراد أسرته من عشاق الطبيعة ، يحبون الترحال و إكتشاف مناطق جديدة ، يقضون معظم أيام العطلات الصيفية و حتى في معظم أيام عطلات الربيع ، يقضونها متنقلين من غابة إلى مرج ، و من شاطئ بحيرة أو بحر إلى أعالي جبل أو بطن واد ، و من ضفاف نهر إلى ينبوع ماء ؛ مستمتعين بتغريد العنادل و هديل الحمائم و خرير المياه و هدير الأمواج و غثاء الحملان و زقزقة الصيصان و حفيف الأغصان .
إذا صادفوا مخيما سياحيا نصبوا فيه خيمتهم ، و إن لم يجدوه فأي فندق مهما بلغت بساطته ينزلون ، لا يهمهم أين يقضون سواد الليل بقدر ما يهمهم الإصغاء إلى صراصير الصنوبر ، أو مشاهدة الذبابات النارية** تحوم حول الأفنان ، أو تأمل شهب السماء منهمرةً كالألعاب النارية في عيد الجلاء .
*****
في فندق العائلات المتواضع في مصيف تل الصنوبر ، نزلوا ذات مرة …
و من شرفته أطلوا على الوادي الأخضر فشعروا و كانهم فوق عش نسر أو صقر ، فقرروا أن يكتشفوه صخرة صخرة و شجرة شجرة ..
و في شرفة فندق العائلات تعرفوا أيضا على النزلاء و جميعهم أسر قدمت للإستجمام ..
و بسرعة انسجم الكبار و الصغار ..
و لكن ، ذات يوم …
علا صياح إبنة أحد النزلاء ، فقد دخلت في إصبعها شوكة كبيرة الحجم ..إنغرست فيه كخنجر ..
أحضر عماد حقيبة الإسعاف التي إعتاد أن يحملها في حله و ترحاله ،
و تمكن من إخراج الشوكة ، ثم من إيقاف نزف الدم ، ثم من تعقيم الجرح ، ثم من ربطه بإتقان …ثم أعطاها مسكنا ليخفف ألمها …تصرف كمحترف فقد قرأ كثيرًا عن الإسعاف الأولي ..
تم ذلك في الشرفة ، حيث تكأكأ إضافة لوالدي الطفلة بعض جيرانه النزلاء ، يشهدون مهارته .. و يشكرون شهامته .
و ذات يوم آخر …
أصيب طفل لأحد النزلاء بالحُمى ، كان يبكي بحرقة و قد وضع يديه على بطنه ضاغطا عليه ليخفف آلامه الحادة ….
أشفق عماد عليه ، فطلب من أحد أولاده إحضار حقيبة الإسعاف ، طال منها ميزان الحرارة
: “إنها تزيد قليلا عن الأربعين “ قال عماد لوالديه متأسفا ، ثم اضاف : ” الأفضل أن تحملوه إلى أقرب طبيب و بأسرع ما يمكن ! “
أجابه والد الطفل : ” في تل الصنوبر لا يوجد أطباء ، و أقرب بلدة منا تبعد ثلاثين كيلومترا ” فرد عليه عماد قائلاً : ” الأمر لا يحتمل التأجيل ، الحرارة فوق الأربعين يا رجل ؟! “
ثم عاد عماد بحقيبة الإسعاف إلى غرفته ، حيث كانت زوجته و أطفاله قد استعدوا لرحلة نحو نبع الصفصاف مشيا على الأقدام …
*****
لدى عودتهم …
ألقى عماد التحية على مدير الفندق فتجاهله ،
ألقى بالتحية على مجموعة من النزلاء فتجاهلوه ،
ألقت زوجته بالتحية على مجموعة من نساء النزلاء فتجاهلنها ، كررت التحية فتجاهلنها أيضا ..
أراد أطفاله اللعب – كما اعتادوا – مع أطفال النزلاء ، فرفض هؤلاء اللعب معهم ، فعاد أطفاله إلى غرفتهم كسيري الخاطر ..
و استمر الوضع كذلك إلى اليوم التالي .. فأحسّوا أن وراء الأكمة ما وراءها ، و لما لم يعد عماد يطيق صبرا ، توجه إلى مدير الفندق سائلاً و بشيء من الغضب : << عندما نزلنا في فندقك عاملتنا بمنتهى اللطف و الكياسة ، كذلك كان جميع النزلاء ، و شعرنا و كأننا نعرفكم جميعا منذ سنين ، فما الذي غيَّرك و غيرهم ؟ هل بدر مني أو من أي فرد من عائلتي أي سوء ؟ >> .
لم يتمكن مدير الفندق من تجاهله هذه المرة ، فالرجل يطرح سؤالا جادا و مباشرا ، فأجابه بعد تردد : << دكتور عماد ، لقد رفضتَ معالجة الطفل مع أنه كان في حالة خطر ، و أنت بنفسك قستَ حرارته ، و أنت بنفسك من أعلن أنه بحاجة فورية لطبيب ، أما كان بوسعك أن تخصص له بضع دقائق من وقتك يا دكتور ؟ أما كان بوسعك تأجيل رحلتك إلى نبع الصفصاف بضع دقائق لمساعدة طفل بلغ صياحه عنان السماء تألما ؟ الحقيقة أن جميع نزلاء الفندق استغربوا تصرفك هذا و ….. >> و قبل أن يتم مدير الفندق كلامه ، و أمام ذهوله الشديد إنفجر عماد ضاحكا ، و استغرق في ضحكه الهستيري بضع دقائق أخرى قبل أن يتمكن من إجابته قائلاً و هو ما زال يضحك : << الحق على حقيبة الإسعاف >>.
————————————————–
**الذباب الناري : نوع من الحشرات الليلية ، تضييء مؤخرتها فتبدو كنقط ضوء متحركة في كل إتجاه .
—————————-
سوري مغترب