أقصوصة
نزار ب. الزين*
إذا كنت تظن يا صديقي أن الصغار لا يحبون فأنت مخطئ …
إنهم يحبون ، و يتعلقون بحبال الهوى ، و يجربون لواعج العشق و أوجاعه ، يبهجهم اللقاء ، و يعذبهم الفراق ؛ تماما كما يعاني العشاق الراشدون .
كنت في الرابعة ، عندما دعيت ربيعة لتلعب معي فاستجابت ، كنت يومئذ فوق سطح منزلي ، و كانت فوق سطح منزلها ، و لا يفصل بين السطحين سوى حاجز خشبي بارتفاع يتجاوز المتر الواحد بقليل ؛ سمعت والدتها تحذرها من الاقتراب من السور المطل على الشارع ، فاستبد بي الفضول ، جررت كرسيا و بمشقة كبرى تمكنت من إلصاقه بالحاجز ، صعدت على الكرسي ، أطليت برأسي ، فشاهدتها تفترش الأرض و بين يديها الصغيرتين لعبتها المصنوعة يدويا .
* ما اسمك ؟
** اسمي ربيعة ، و أنت ؟
- أنا نصوح ، تعالي لنلعب معا !
** سأسأل أمي ..
و منذ ذك اليوم لم نعد لنفترق ، و كنا سببا لتعارف والدتينا اللتين لم تعودا تفترقان كذلك ..
و ذات يوم وقفت على الشرفة ، ناديتها – كعادتي – فلم تجب …
رفعت صوتي أكثر ..صرخت .. و لم تجب ..
مددت رأسي إلى أقصى ما أستطيع ، فكان باب شرفة بيتها مغلقا و كذلك جميع نوافذ بيتها ..
ربيعة .!..!.. صرخت مجددا ، سمعتني أمي ، فجاءني صوتها بعيدا ، فقد كانت لاهية بالعناية بذلك الشيء الذي أسموه شقيقتي ، و التي أنجبتها لتسليني كما ادعت ؛ صرخت بشيء من الغضب : ” سد حلقك يا ولد .. صوتك مثل الجرس رن في الحارة ، مؤكد سمعه كل من فيها ، ربيعة و أهلها مسافرون ، يا ولد ! “
صدقني أنني شعرت – أنا ابن الرابعة – أن الأرض مادت بي ،
صدقني أنني دخلت إلى فراشي و رفعت الغطاء فوق رأسي و أجهشت بالبكاء ..
بربك أليس هذا عشقا ؟
كان غيابها طويلا ، ربما أكثر من شهر ، كابدت خلاله الأمرين ، شعرت بنفسي كالتائه ، صدقني ، لم أعد أشتهي الطعام ، لم أعد أهنأ بالنوم ، أخذت الكوابيس تنتابني و ترعبني …
و ذات ليلة ، صحوت و أنا اصرخ رعبا ، فنهض والديَّ مذعورين و هرعا نحوي ، فأجبتهما : ” ربيعة أكلها الضبع ” و كم كانت مفاجأتي كبيرة ، عندما انفجرا معا ضاحكين ..
*****
كبرنا معا ، و دخلنا المدرسة الإبتدائية معا ، و لكن هي في مدرسة الإناث و أنا في مدرسة الذكور ” ترى لماذا لسنا في مدرسة واحدة ” كنت أتساءل دون أن أجد من يجيبني ؛ و لكن الأمر لم يختلف كثيرا ، فكانت غالبا ما تجمعنا الأمسيات ، فنكتب وظائفنا معا ، و نذاكر بعض الوقت ، ثم نبدأ باللعب ..تارة في بيتها و مرة في بيتي .
كانت متعتنا الكبرى عندما نصنع خيمة من الملاءات و الأغطية ، و نملؤها بالعابنا و بما تواجد في الدار من حليوات أو مكسرات ، ثم نندس داخل الخيمة فرحين ، و كأننا قد بنينا بيتنا أو عشنا المشترك .
و لم يكن ينغص متعتنا عندما نكون في بيت ربيعة ، سوى شقيقها الكبير فاروق ، كان كبيرا جدا أو هكذا كنت أراه ، كان فارع الطول مع سِمنة واضحة ؛ كان فاروق يقضي معظم وقت ما بعد المدرسة في الحارة ، و لكنه عندما يعود إلى البيت ، يبدأ بمعاكستنا ، و كثيرا ما كان يخرب خيمتنا ، أو يسرق سفرتنا من الحلويات أو المكسرات ، و إذا ما احتجت ربيعة كان يوسعها ضربا و بلا رحمة ، فستنجد بأمها ، إلا أن أمها كانت تتجاهل استغاثاتها ، و إن تشددت قليلا كانت تعاتبه بميوعة واضحة : ” حرام عليك يا فاروق ، اختك أصغر منك ترفق بها ” ، و كم كنت أشعر بأن ما أشاهده ظلم مبين واقع على المسكينة ربيعة ، سواء من قبله أو من قبل أمه .
و ذات يوم صفع فاروق ربيعة فأدمى فمها ، و فجأة وجدت نفسي أندفع نحوه و أضربه بيدي الصغيرتين ، و كانت النتيجة ( قتلة مرتبة )* تعرضت لها ، وضع فيها كل قوته ، و خلفت في راسي نتوأين و في وجهي و يديَّ بقعا زرقاء و بنفسجية .
عندما شاهدتني أمي على هذه الحال ، اندفعت إلى بيت ربيعة ، و لم أعلم ما جرى هناك ، لولا أني سمعت أمي و هي تحدث أبي عن الواقعة ، و أنها كادت تتشاجر مع أم فاروق ، التي كانت منحازة تماما لابنها ، و أنها متعجبة من هذا الأسلوب التربوي الفاشل .
و منذ ذلك اليوم لم أعد أذهب إلى منزل ربيعة إلا عندما أتيقن من عدم وجود فاروق لفترة طويلة ، و لكنها لم تنقطع أبدا عن قدومها إلى منزلي …
*****
و لكن …..
عندما بلغنا الصف الرابع الإبتدائي ، و بدون سابق إنذار أو أية مقدمات ، منعونا من اللعب معا : ” ربيعة كبرت يا نصوح ، و قد منعها أبوها من اللعب مع الصبيان !!! ” قالت لي أمي ، فأجبتها بسذاجة : ” و لكنها لا تلعب مع الصبيان ؟ لا تلعب إلا معي !! ” فضحكت أمي و هي تجيبني بنبرة ساخرة : ” ألستَ صبيا يا نصوح ؟ “
صدقني أنني تعذبت ،
صدقني شعرت بنفسي كالتائه ،
صدقني ، لم أعد أشتهي الطعام ،
لم أعد أهنأ بالنوم ، عادت الكوابيس تنتابني و ترعبني تماما كما أرعبتني عندما سافرت و أهلها ذلك الشهر المشؤوم…
صدقني كانت صدمة ، جعلتني أتساءل : ” و ما معنى أنها كبرت ؟ و ماذا لو كبرت ؟ فأنا ايضا كبرت ، و لم تقل لي أمي أن اللعب مع البنات ممنوع ، و هل ستقول لي أمي ذات يوم لا تلعب مع أختك لأنها بنت ؟ “
أحجية خلطت الأوراق في دماغي الصغير ….
و كان السؤال الملح يتضخم ..” و ما الفرق بين الصبي و البنت ؟ “
*****
بيوتنا العتيقة كانوا يبنونها من هياكل خشبية ملبسة بالطين ، فكان من السهل عليّ أن أسمع كل كلمة من محاورات جيراننا عندما يكونون في الغرفة المجاورة لغرفتي ، و كنت أميز بوضوح صوت ربيعة ؛ فأفرح و أحاول التقاط كل كلمة تتفوه بها ، حتى أصبح التنصت عليها عادة متأصلة .
و لكنني كثيرا ما كنت أسمعها أيضا تتشاجر مع شقيقها فاروق ، لينتهي الشجار ببكائها الذي كان يقطع نياط قلبي …
كم تمنيت أن أندفع إلى نجدتها ، و كم تخيلت أن لدي من القوة ما يجعلني أهدم هذا الجدار لأقفز فوق ذلك العملاق الفظ ، فآخذ بثأري و ثأر ربيعة منه ..
و ذات يوم ارتفعت أصوات استغاثات ربيعه فوق المعتاد ، فهرعت إلى والدتي ، و جررتها إلى غرفتي و أسمعتها استغاثات ربيعة و صراخها و ولولتها : ” إفعلي شيئا يا أمي ” رجوتها بعين دامعة ، فأجابتني مؤنبة : ” و ما دخلنا نحن ؟ من تدخل في ما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه يا نصوح !..” و لكن فجأة تطور الأمر إلى منحى آخر : أم ربيعة تصرخ : ” من عملها فيك يا كلبة ، اعترفي و إلا ذبحتك بيدي هاتين ذبح النعاج .. من يا كلبة .. قولي .. انطقي ” ؛ و يبدو أنها أخذت تضربها بشراسة ، فقد ارتفعت وتيرة استغاثاتها حتى بلغت عنان السماء .
لم أفهم معنى العبارة ، و أخذ السؤال يطن في أذني ” من عملها فيك يا كلبة ؟؟ ” من عمل ؟ و ماذا عمل ؟
والدتي التي كانت تؤنبني قبل قليل و تتهمني باستراق السمع و التجسس و التدخل بما لا يعنيني ، أخذت تصيخ السمع و قد بدا عليها التوتر الشديد ..
” من يا كلبة ، احكي ..انطقي .. قولي ، هل هو نصوح ؟ “
هنا ، التفتت أمي نحوي و حدجتني بنظرة حائرة لم أدرك مغزاها ، و نظرت إليها نظرة بلهاء و قبل أن أقسم لها أنني لم أفهم ما تعنيه ، قاطعتني مشيرة إليَّ أن أصمت ، كانت ربيعة في تلك اللحظة تعترف ، قالت بصوت مرتعش يقطعه النحيب : ” حرام عليك ، نصوح لم أقابله أو أكلمه منذ أكثر من عام ، سأعترف و ليكن ما يكون ، إنه فاروق !!!! ” .
و ما أن سمعت أم فاروق اسم أثيرها ، حتى جن جنونها فانهالت على ربيعة ضربا من جديد و هي تصيح : ” تتهمين أخاك يا كلبة ؟ تورطين أخاك الكبير يا مجرمة ؟ تريدين فضيحتنا يا بنت الحرام ؟ تبغين القضاء على مستقبل أخيك يا حقيرة ؟ و الله و بالله إن سمعتك ثانية تتهمين أخيك لما أبقيتك حية ساعة واحدة ! “
و يبدو أنها انهالت عليها ضربا من جديد ..
ثم …
سمعناها تصيح : ” إلى أين أنت ذاهبة يا كلبة ؟ إرجعي في الحال ..”
ثم ….
سمعناها و قد ابتعد صوتها ، و هي لا تزال تهدد و تتوعد ربيعة ..
ثم …..
سمعناها ، تولول ، و صوتها آتٍ من ناحية الشرفة ..
ثم ……
هرعنا نحو الشرفة ، و يا لهول ما رأينا :
جسد ربيعة مسجى جثة هامدة على رصيف الطريق .
—————————-
سوري مغترب