قصة خيالية
نزار ب. الزين*
اشتدت آلام معدتي ،
لم يتجاوب جسمي مع الأدوية المختلفة ،
تستمر الأوجاع…
تؤرقني ….
تسوِّدُ الدنيا في ناظري…
<< لا بد من إجراء جراحة >>
يقول الطبيب ، فاجيبه بلا تردد بالموافقة ؛
( وجع ساعة و لا كل ساعة ) أقول في سري .
أدخل غرفة العمليات ،
يحقنني طبيب التخدير بالبنج ،
أغيب عن الوجود هنيهة ،
ثم ….
ثم أنتبه لنفسي ، أنني في موقع مرتفع ، أطل منه على غرفة العمليات !
الجراح و مساعدوه و طاقم الممرضين و الممرضات…
أشاهدهم جميعا و قد أحاطوا بجسد مسجى إحاطة السوار بالمعصم ،
كل منهم أو منهن يقوم بعمل ما ،
بدوا جميعا كخلية نحل نشطة …
يتقدم الجراح ،
تناوله المساعدة مشرطا ،
يبدأ بشق الجلد ،
تنبثق الدماء ،
تقوم ممرضة أخرى بتجفيفها ؛
أتساءل : << كيف سمحوا لي بالدخول إلى غرفة العمليات ؟ >>
أتذكر : << أنا المريض ، أدخلوني لإجراء جراحة في معدتي !>>
يصيبني الارتباك ،
يتحول الارتباك إلى هلع ،
اقترب ،
أتاكد ؛
ذلك هو جسدي !..
ذلك هو وجهي !!!
يتحول الهلع إلى رعب ،
كيف يحدث ذلك ؟
من أنا و من ذاك المسجى ؟؟
أذهب إلى دورة المياه بحثا عن مرآة،
أقف تجاه المرآة فلا أرى شيئا …
مزيد من الارتباك ينتابني ،
أعود إلى غرفة العمليات ؛
ألاحظ ارتباك الجراح و معاونيه ،
أحدهم يصرخ :
– ضغطه يهبط .
يعلو صوته أكثر :
– ضغطه يزداد هبوطا .
ثم ….
يصيب الصورة أمامي تشوشا ،
ثم لم أعد أرى أو أسمع شيئا .
*****
صوت مألوف ،
ألتفت ،
لا أجد أحدا ،
و لكن الصوت يناديني من جديد ،
إنه والدي ،
يرحب بي و لكنني لا أراه ؛
أسمع صوت والدتي ترحب بي بدورها ،
و لكنني لا أرها ؛
أسأل والدي :
– لِمَ أسمعك و لا اراك ؟
يجيبني :
– سوف تراني هناك !
ثم يدعوني لأقوم بالسياحة التي طالما حلمت بها :
<< ما أن تفكر بموقع حتى تجد نفسك فيه !..>>
يقول والدي ، ثم تضيف والدتي :
<< و بعد سياحتك سوف نلتقي ، سوف تلتقي أيضا بكل الذين افتقدتهم في كل مراحل حياتك …>>
أشعر براحة لم يسبق أن شعرت بمثلها ،
أشعر بخفة لم يسبق أن شعرت بمثلها !
*****
القمر …
لطالما سحرني بجماله …
حتى عندما وطئوه وقالوا أنه أرض قاحلة ، بقيت على حبه مقيما ،
ما كدت أذكره حتى كنت فوقه ،
أتابع آثار أقدام رواده ،
سهول جدباء كما قالوا ،
صخور و أحجار ،
جبال و وديان عميقة ،
و لكن لذهولي الشديد ، لاحظت في قاع أحد وديانه ماء مجمدا
هذه معلومة لم أسمع بها قبلا …
نظرت إلى الأفق فبانت الكرة الزرقاء ،
إنها الأرض التي أنتمي إليها ؛
ثم همست إلى ذاتي :
هذا قمر الأرض فماذا عن عن قمر المشتري ؟
و إذا بي فوق أرض تيتان ..
يا للروعة ،
أنهار و بحار ،
غيوم و أمطار ،
مخلوقات تظهر فوق الماء بين كتل الجليد ثم تغوص فيه ،
مخلوقات لا تشبه الأسماك ،
و لا تشبه الحيتان ،
و لا تشبه البشر ،
مخلوفات متفردة ،
و لكنها رائعة الجمال ، دائمة الإبتسام ….
تعوم قليلا ، تصدح بأعذب الألحان ، ثم تغوص ليظهر غيرها في استعراض غنائي شجي !
*****
<<اكتشف علماء الأرض وجود كواكب شبيهة بالأرض في مجرتنا>>
قلت في سري ،
و إذا بي في أحد تلك الكواكب ،
كوكب يعج بمخلوقات شبيهة بالبشر ،
مخلوقات نشطة ،
رؤوسهم كبيرة و كذلك عيونهم ، و لكن لا أفواه لهم ؛
أتعجب !
أجول بينهم في الشوارع و البيوت باحثا عن السر ،
فأكتشف أنهم لا يأكلون البتة ،
عناصر الهواء تمنحهم أسباب الحياة ؛
و هم بالتالي لا يتكلمون ، ينظرون في عيون بعضهم بعضا ، فتنتقل الأفكار بينهم بالتخاطر !
هم أيضا لم يعرفوا أو يسمعوا قط بما نسميه بالصراعات ،
لم يجربوا أبدا الحروب ،
ماعرفوا الجرائم أو الانحرافات أبدا …
حكومتهم واحدة ،
حكومتهم منتخبة ،
حكومتهم لا مهمة لها غير الإعمار و البحوث العلمية ،
لم يحتاجوا قط إلى رجال أمن أو استخبارات ، و بالتالي لا سجون و لا معتقلات !
*****
ثم بدأت أتنقل من كوكب إلى آخر ،
مجرتنا درب اللبانة تعج بالكواكب ،
و كثير منها تعمرها المخلوقات ،
بعضها شبيه بالبشر و بعضها بعيد الشبه ،
بعضها يسبق حضارة البشر بآلاف السنين ،
و بعضها لا زال بدائيا ،
*****
ثم يلمع في ذهني سؤال :
<< ترى هل سأتمكن من التعرف على الثقوب السوداء ؟! ..>>
و فجأة أجدني إلى جوار ثقب اسود !
منظر تقشعر له الأبدان ،
مجموعات نجمية بكل كواكبها و أقمارها و مخلوقاتها تندفع نحوه بسرعة جنونية ..
<< لِمَ لا أندفع معها ؟ >>
تساءلت !
*****
لا أدري كم استغرق ذلك من الوقت ،
فقط شعرت باختلاط الزمان و المكان ،
هوة سحيقة يكاد لا يكون لها قرار ،
تهدر في وسطها النجوم و الكواكب كملايين الشلالات النورانية ،
أو كسرب من طائرات ف16 مؤلف من ملايين الطائرات ، تصخب معا ،
و تندفع لولبيا في دوامة هائلة الحجم ؛
ثم ينكشف أمام ناظري كون جديد مختلف ؛
ثم أجد نفسي فوق كوكب مختلف ،
مناظر خلابة لم أشهد أو أسمع بمثلها قبلا ،
أطيار و أشجار و أنهار ،
ألوان تأخذ الألباب !
و فجأة أسمع صوت والدي من جديد ،
ألتفت فأجده أمامي بشحمه و لحمه و لكن في أوج شبابه ،
ثم أسمع صوت والدتي ،
تهرع نحوي فتعانقني و تتشبث بي لفترة و هي تمطرني بقبلاتها ،
ثم يتوالي كل من عرفت من أقاربي من فرع أمي أو أبي للترحيب بي ،
ثم يتوالى كل من عرفت من زملاء و أصدقاء و جيران في كل مراحل عمري ،
جميعهم في أوج الشباب و في عمر واحد ؛
همست لأحد أصدقائي : << هل لديك مرآة ؟>>
يصحبني من يدي إلى شاطئ بحيرة ، صفا ماؤها حتى بدا ما في قعرها و كأنه في متناول اليد ،
اقتربت من صفحة الماء ،
فشاهدت وجهي للمرة الأولى منذ غادرت غرفة العمليات ..
فأنا أيضا عدت إلى شبابي !
*****
يصدح صوت يغرد مناديا :
– المميزون مدعوون لمشاهدة استعراض جديد ،
يتوجه الناس جميعا نحو ما يشبه مدرج هائل الحجم ،
مجموعات و أفرادا ؛
ثمت منظمون في ثياب زاهية ،
ينادي أحدهم :
– فليدخل الشهداء و ضحايا الحروب أولا ،
يصطفون في طابور طويل ، ثم يدخلون أحدهم خلف الآخر ،
المنظمون في الثياب الزاهية يدققون – مبتسمين – في الوجوه ،
ثم :
– فلتدخل الأمهات كل الأمهات بلا استثناء ،
ثم : المضطهدون و المظلومون و ضحايا الإجرام ،
ثم : ضحايا الأمراض و التلوث و الإعاقة بجميع أشكالها البدنية و العقلية ،
ثم : جميع الأطباء و العاملين بالمجال الطبي فيما عدا الذين اتخذوا من مهنة الطب تجارة !
ثم : المعلمون عدا من كان منهم يستعمل العصا و يدعي أنها من الجنة ،
ثم : جميع من عملوا أعمالا خيرة مهما دنت قيمتها .
ثم : أصحاب الأهداف السامية من الأدباء و الشعراء و الفنانين .
ثم : المخترعون و المبتكرون مهما كانت مساهماتهم – في تطوير مجتمعاتهم – تافهة ، و يستثنى منهم مخترعو الأسلحة .
و أضاف :
– كالعادة ،محظور دخول مخططي الحروب و المحرضين عليها و مخترعي و تجار السلاح بلا استثناء .
و كذلك : محظور دخول المجرمين و الزعماء المستبدين بلا استثناء ، و كذلك منفذي رغباتهم الإجرامية سواء بكبت معارضيهم و قمعهم أو سجنهم أو نفيهم أو قتلهم .
و كذلك : محظور دخول المتعصبين و المتزمتين عرقيا و قبليا و إقليميا و دينيا و مذهبيا مهما كانت ممارساتهم التعصبية بسيطة .
و كذلك : محظور دخول الخونة و المحتالين و اللصوص و المرتشين .
و أخيرا : محظور دخول البخلاء و المقترين مهما كانت حججهم .
*****
أجد نفسي في الداخل مع المميزين ،
أتساءل : << ترى ما الذي ميزني ؟ >>
يأتيني الجواب بالايحاء :
<<أمضيتَ حياتك دون أن تؤذي أحدا ، و انتهت حياتك كضحية من ضحايا التلوث البيئي..>>
*****
و يبتدئ الاستعراض ….
ما يشبه شاشة التلفاز و لكنها شاشة عملاقة هائلة الحجم ،
خيوط من النور بجميع ألوان الطيف ما أعرف و ما لا أعرف ، تنبثق من المجهول ،
تتشابك ،
تتدافع ،
يبدو بعضها كمليارات الأسهم النارية تنطلق معا ،
يتدفق بعضها الآخر كشلالات من نور في كل اتجاه ،
تصدر أصواتا موسيقية أروع من أية سمفونية سمعتها من قبل ؛
لا تلبث الأنوار أن تتحول إلى غيوم سديمية ،
ثم ينقسم السديم إلى مجموعات ،
ثم تندمج كل مجموعة ببعضها بعضا ،
فتتحول إلى أجسام ،
ثم تتحول الأجسام إلى نجوم و كواكب و كويكبات ،
يعلو صياح المتفرجين مهللين فرحين مزغردين …..
لقد ولدت للتو مجرة جديدة !
يغرد أحدهم من ذوي الثياب الزاهية :
<< هيا انطلقوا فعمروها بالحب و السلام >>
*****
فجأة أجد نفسي ثانية في غرفة العمليات ،
فرغ الطبيب لتوه من إجراء صدمة كهربائية لجسدي المسجى ،
يعلن أحد المساعدين :
<< أرى نبضا ، قلبه يعود إلى العمل ! >>
بعد فترة لا أدري كم طالت ،
أفيق من تأثير المخدر ،
أجد زوجتي و أولادي إلى جانبي ، يهنئونني بالسلامة !.
——————————
سوري مغترب