قصة خيالية
نزار ب. الزين*
كنت في زيارة ابنتي في تونس عندما خطر لي أن أعرج على المغرب في طريق عودتي ، فاتصلت هاتفيا بالأديب الأخ عبد الله البقالي ، الذي رحب بلقائي و وعدني أنه سيكون بانتظاري في مطار الدار البيضاء ، و لوجه الحق كان الأستاذ البقالي خير مضيف و رفيق ، فقد أخلى نفسه من كل مسؤولية ليتفرغ لمرافقتي و يكون دليلي طوال إقامتي هناك ، فعرفني على معالم الدار البيضاء التي يسميها أهلها ( الكازا ) إختصارا لكازابلانكا ، ثم اقترح علي أن نقوم بجولة في مدن المغرب الأخرى كالرباط و مراكش و فاس و مكناس و تطوان و طنجة و غيرها من مدن الوسط و الشمال ، و لكن لدهشته الشديدة طلبت منه أن نزور الصحراء الغربية ؛ فقلت له في معرض تبريري : ” أريد أن أرى هذه الصحراء التي قرأت عنها الكثير و عن الصراعات التي دارت حولها و مداخلات الأمم المتحدة بشأنها ، أريد أن أعرف لِمَ كان هذا كله ! ” فأجابني مبتسما : ” هي مليئة بمناجم الفوسفات و المنغانيز و ربما معادن أخرى لا أذكرها ، و ربما كان ذلك هو السبب وراء تلك الصراعات التي خمدت و الحمد لله . ” ثم أضاف مشكورا : ” إذا كنت لا تزال راغبا بزيارة الصحراء الغربية فهيا بنا .”
مررنا بعدة مدن صغيرة و لكنها جميلة كمدينة (الجديدة) ثم و صلنا إلى كبرى مدن الجنوب أغادير ، و هناك تذكرت الكارثة التي أحاقت بها ، فقد تعرضت لزلزال كبير عام 1960 أعقبه موجة تسانومي أطلسية ؛ إنها اليوم مدينة سياحية رائعة بشوارعها الفسيحة و فنادقها الفاخرة.
بتنا ليلتنا في أغادير بعد جولة بين فنادقها و مقاهيها و مطاعمها الكثيرة و التي يطل أكثرها على المحيط الأطلسي و التي اتخذ بعضها طابعا أوربيا ، و في عصر اليوم التالي توجهنا نحو الصحراء الغربية ..تحديدا إلى مدينة العيون ، التي تبعد زمناً حوالي ما يزيد عن ساعات ثلاث ، كما افادني الأستاذ عبد الله .
قلت لصديقي الأستاذ عبد الله ، قبيل بلوغنا مدينة العيون المركز الإداري للإقليم الصحراوي ، قلت و قد مالت الشمس إلى المغيب فانعكس لونها المحمر على صفحة الرمال ، قلت له :” و كأننا في الكوكب الأحمر يا صاحبي ، صحراء مقفرة و جبال عالية تتراءى عن بعد و سماء وردية اللون ؛ فضحك الأستاذ عبد الله و هو يجيبني : ” و هل زرت المريخ يا صاحبي ؟ ” فأجبته : ” بل قرأت عن هذا الكوكب – توأم الأرض – الكثير الكثير ” .
و على حين غرة وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع شاحنة قادمة من الإتجاه المعاكس و قد أعشى ضوؤها العالي أبصارنا ثم …….. سمعت قرقعة الحديد و ارتجاج شديد هز كل جسدي ثم لم أعد أشعر بشيء ..
*****
و للغرابة الشديدة وجدت نفسي – بعد أن أفقت – هائما في الصحراء ، و إن هي إلا ثوان حتى كان الأستاذ عبد الله إلى جانبي ، يقول لي : ” الحمد لله على السلامة ” ثم تلفتَ حوله و أضاف منزعجاً : ” و لكن أين سيارتي ؟ و أين الشاحنة التي تسببت بانحرافنا عن الطريق و انقلاب السيارة بنا ؟ ” ثم صمت قليلا ليضيف مستغربا مذهولا : ” بل أين الطريق الذي كنا نجتازه ؟ و أين أضواء مدينة العيون التي كنا نراها عن بعد ؟ بل إننا في ضوء النهار مع أن الليل كاد يرخي سدوله ، أين نحن ؟ و ما الذي حدث لنا ؟ “
بينما كان الأستاذ عبد الله منهمكا بطرح تساؤلاته ، كنت قد بدأت أشعر براحة لم أعهدها من قبل ، اختفت نهائيا أوجاع الروماتيزما التي طالما أقضت مضجعي و أما تعب السفر و الجلوس الطويل في مقعد السيارة فقد زال تماما ، بل بدأت أشعر أنني خفيف الوزن و أكاد أحلق طائرا ، و بدأت أتأمل المنظر الممتد أمامي ، تلال من خلف تلال ، و عن بعد تراءى لي جبل هائل الارتفاع ، أما السماء فهي وردية اللون مع أننا في منتصف النهار فقد نبهني إلى ذلك إختفاء الظلال قرب الصخور البركانية السوداء المتناثرة من حولنا .
و فجأة أحسست أن جسما يتحرك قربي ، التفت نحوه و إذا بي أمام عربة غريبة الشكل ركب فوقها صحن لا قط و خرج منها حفار يغوص في الأرض و ذراع تتناول منه ما يخرجه من عينات و تضعها عل متنها ، اقتربت منها لأسأل سائقها اين نحن ، و لعجبي الشديد كانت بدون سائق أي ( روبوت ) يتحرك فوق ست عجلات ، ثم قرأت على أحد جنبيها عبارة (أوبورتيونيتي) ، فأخذت أتساءل أين سمعت هذا الإسم ؟ و سرعانما تذكرت أنه اسم المركبة الآلية التي أرسلتها وكالة ناسا الأمريكية إلى المريخ سعيا لإستكشافه عن قرب .
أصبت بما يشبه الصدمة و الذهول .. ثم صحت بصاحبي : ” أستاذ عبد الله نحن في المريخ و لسنا في الصحراء الغربية المغربية ” ؛ فابتدأ يضحك مجددا و لكنني صحت : ” تعال فقط و القِ نظرة على هذا الشيء و إلى الكلمة المسجلة عليه !”
ثم بدأت أتساءل بدوري و بصوت مضطرب : ” الرحلة تستغرق بواسطة أحدث و أقوى المركبات الصاروخبة ، أربع سنوات بين الأرض و المريخ ..فكيف أننا فوق المريخ في ثوانٍ أو دقائق و بدون ما يقلنا إليه أي صاروخ ، ترى هل نحن نحلم ؟؟ “
جلس صاحبي فوق صخرة و قد جمدته الدهشة ، و جلست فوق صخرة أخرى ، لا لأنني تعب ، فأنا لم أشعر باي تعب أو أي ألم أو أي جوع أو عطش منذ وطئت قدماي هذه الأرض ، ثم تذكرت أن المريخ كوكب بارد ، تزيد أو تنقص حرارته عن المائة درجة مئوية تحت الصفر ، فلماذا أنني لم أشعر بأية برودة و لا بالحاجة إلى أي غطاء أو ملابس ثقيلة ؟؟ ثم إن المريخ يملأ جوه ثاني أكسيد الكربون بنسبة %95 فكيف أننا لا نشكو من أعراض الإختناق ؟؟؟
هذه المرة رفع الأستاذ عبد الله رأسه من بين يديه و قال لي بصوت حزين ، نحن مجرد أرواح يا صاحبي ، يبدو أن الحادث أودى بنا !!….
*****
لم يطل بنا حزننا على أنفسنا و على فراق الأهل المفاجئ ، و بدأت أعتذر منه لأنني السبب ، فلولا إقحامه برحلتي السياحية لما أصابه ما أصابه ، و بايمانه العميق بالقضاء و القدر أجابني : ” هذا نصيبنا و ما قدر لنا ” ، قلت له : ” إذاً هيا بنا نستكشف الكوكب الأحمر طالما نحن فيه ” .
و كالنوارس حلقنا فوق الكوكب ، هذا مجرى واضح لنهر عظيم جفت مياهه ، و هنا و هناك حفر ضربتها النيازك ، أو فوهات بركانية خامدة ، و ثمت جبال هائلة الإرتفاع و وديان بالغة العمق ، و لكن لا أثر لمخلوق ، و إذ بلغنا منطقة ( سيدونا ) برز في مواجهتنا رأس آدمي منحوت من الصخر شبيه جدا بالإنسان مع بعض الإختلافات البسيطة ككبر العينين و ضخامة الأنف .
و فجأة هبت عاصفة رملية هائلة ، أخذت تبعثر أطنانا من الرمال في فضاء الكوكب ، فتحول كل شيء إلى ظلام دامس .
لم نشعر بلسع الرمال و لم تدخل خياشمنا فتضيِّق أنفاسنا ، لأننا مجرد أرواح ؛ و لم ندرِ كم استغرقت هذه العاصفة من الوقت ، و لكن ما أن هدأت حتى تكشفت لنا عن مبنى محفور في صخور تل مجاور لوجه ( سيدونا ) شبيه إلى حد كبير بمباني البتراء حاضرة دولة الأنباط التاريخية جنوب الأردن .
*****
دخلنا من البوابة الرئيسية إلى قاعة مزدانة بالرسوم و ما يشبه الحروف الهيروغليفية ، أما الرسوم فهي لأشخاص من سكان الكوكب على ما يبدو ، امتازوا بطولهم الفارع و كبر صدورهم و بعيونهم الواسعة و أفواههم المستديرة الصغيرة و أنوفهم الضخمة ، ثم صعدنا سلالم حلزونية إلى طبقات المبنى المتعددة ، حيث امتلآت جدران كل طابق منها بتلك الحروف و الرسوم و كأنها تحكي تاريخ الكوكب و ناسه كما كان يفعل فراعنة مصر .
و في الطابق الأخير تراءى لنا ما يشبه شاشة السينما البانورامية ، و في أسفلها ما يشبه مفتاح أو زر كبير ، لم أتمكن من الضغط عليه ، و لكن ما أن اقتربت منه حتى تحرك تلقائيا ، و إذا بالشاشة تلمع ليظهر من ثم محدث أو محاضر أو مذيع ، بدأ يتحدث بلغة أشبه بتغريد البلابل ، لم نفهمها بداية ، و لكن سرعانما بدأنا نفهم كل كلمة و كأننا من أهل الكوكب .
قال من ضمن ما قال :
ظل كوكبنا مزدهرا أكثر من مليون سنة ، نهرنا العظيم – الممتد من القطب الشمالي حتى ما بعد خط الإستواء – ظل يروي مزراعنا و يؤمن لنا ما يلزمنا من البروتين من أسماكه الغزيرة ، و سادت بيننا العدالة ، و لم نعرف الحروب التي أنهكت الكوكب الثالث ، الذي يسميه أهله بالأرض ، و لم نشهد أية حوادث إجتماعية عدوانية ، فكل منا يعرف تماما ما له و ما عليه ، أما حكومتنا فهي حكومة علماء منتخبة ، بحيث يجري انتخابها مع بداية كل عام جديد ، و قد ازدهرت علومنا و تمكنا من التواصل مع سكان الكواكب الأخرى خارج مجموعتنا الشمسية ، و نحتنا من تلين على الأقل رأسين هائلي الحجم ليكونا مرشدين لمركباتنا العائدة أو مركبات ضيوفنا .
أما كوكب الأرض فقد حاولنا زيارته و لكن أهله لا يعرفون سوى لغة القتل و التدمير ، حاصروا إحدى بعثاتنا و أشهروا أسلحتهم الفتاكة مهددين حيوات مبعوثينا ، لولا أن تمكنوا بسرعة من العودة إلى المركبة لينطلقوا بها عائدين ؛ إنه كوكب شيطاني ، قررنا عدم الإقتراب منه بعد ذلك .
و لكن ….
فجأة بدأ مناخنا يتغير ، و يزداد برودة ، و ما لبث علماؤنا أن اكتشفوا أن مدارنا حول الشمس آخذ بالابتعاد عنها ، فابتدأت مياه النهر الكبير تجف ، و ابتدأ الناس يحرقون كل ما يقع تحت أيديهم من أخشاب ، فانقرضت الأشجار و تحولت المزارع إلى يباب ، و رغم تحذير العلماء بأن كثرة إحراق الخشب سوف يزيد من نسبة ثاني أكسيد الكربون في الجو ، إلا أن الناس من شدة البرد لم يأبهوا ؛ و ابتدأت الوفيات – من ثم – بين الأطفال خاصة تتفاقم ، و ابتدأ عدد السكان يقل ؛ و قد تمكن بعضنا من الهجرة إلى كواكب أخرى ، و لكن عدد مركباتنا لم كافيا للجميع ؛ ثم فني كل أثر للحياة .
*****
فتحت عيني ، لأرى نفسي في إحدى غرف ما بدا لي أنه مستشفى ، و إلى جواري صديقي الأستاذ عبد الله ؛ سألت الطبيب الذي تصادف وجوده إلى جانبنا في جولته التفقدية : ” هل إصابتي خطيرة يا دكتور ؟ ” ، فأجابني مبتسما : ” كنت غائبا عن الوعي بتأثير الصدمة ليس إلا ، و لا توجد أية إصابات أو جروح ، و ربما تتمكن و صديقك من مغادرة المستشفى غدا ” .
و إذ أصبحنا لوحدنا ، قلت له مبتسماً :” لقد كنت في زيارة الكوكب الأحمر ، يا أستاذ عبد الله ! “
و لدهشتي الشديدة لم يضحك هذه المرة ، بل أجابني جاداً : ” و أنا كنت معك في جوار ( وجه سيدونا ) ” .
* وجه سيدونا : عبارة عن تل منحوت على شكل وجه آدمي فوق سطح المريخ في منطقة من شمال الكوكب أطلقوا عليها اسم ( سيدونا ) ، كان المسبار الأمريكي فايكنغ قد التقط أول صورة له في عام 1976 ، ثم تجدد تصويره هذا العام في ( تموز/ يوليه 2006).
———————–
سوري مغترب