رواية من الخيال العلمي

نزار ب. الزين*

الفصل الأول

خمسة أصدقاء من بلاد عربية مختلفة  ، جمعتهم الدراسة في إحدى الجامعات الأمريكية و السكن المشترك قريبا منها

د.عبد الله من المغرب  تخصص ألكترونيات و برمجة و هندسة الحاسوب

د. هشام من سورية تخصص معادن و سبائك معدنية

د. مجدي من مصر تخصص جيولوجيا و طبقات الأرض و علم الزلازل و البراكين

د. حمود من الإمارات العربية المتحدة /أمارة دبي تخصص كيمياء ، فرع النفط و الصناعات النفطية

د. رياض فلسطيني يعيش في الأردن تخصص ميكانيك و محركات ثقيلة .

لم تلههم المغريات الكثيرة من حولهم ، اللهم سوى حضور أفلام الخيال العلمي التي يشتركون جميعا بعشقها ، إضافة إلى زيارة المتاحف و مطالعة المجلات العلمية ؛ و قد أبدوا جميعا  لفرط ذكائهم تفوقا في مجالات دراساتهم ، حتى أن الكثير من مؤسسات البحوث العلمية أو الشركات الأمريكية التخصصية عرضت عليهم وظائف مغرية  ؛ إلا أنهم رفضوها جميعا لأنهم تعاهدوا أن  يعودوا إلى وطنهم العربي للمساهمة في تطويره و تقدمه .

في سنة التحضير للدكتوراه ، و قبل أشهر من مناقشة أطروحاتهم  ، عرض هشام على أصدقائه مشروعا مدهشا ، بدا لهم أول الأمر خياليا و مستحيل التنفيذ ، إلا أنه رويدا رويدا تمكن من إقناعهم به ، مقدما لهم البراهين على إمكانية تنفيذه إذا تضافرت جهودهم معا ، فتعهد حمود بتمويل المشروع ، ليس هذا و حسب ، بل تعهد لهم أيضا بتدبير وظائف لهم في دبي في شركة البناء التي يملكها والده  كغطاء يمكنهم من الحصول على التأشيرات اللازمة لدخول الإمارات .

و طوال تلك الأشهر التي سبقت مناقشة أطروحاتهم ، لم يكن من حديث لخمستهم سوى المشروع الذي سيحدث ضجة عالمية من شأنها أن ترفع من مكانة العرب تجاه الشعوب الأخرى التي سبقتهم علميا و تقنيا بمراحل ، بعد أن كانوا رواد العلوم ذات يوم .

في مكان  ناء  من  مدينة دبي بنوا مختبرهم الذي بدا ظاهريا كأنه مستودع بضائع .

كان هدف الدكتور هشام  السعي لتكوين سبيكة معدنية تحتمل الضغوط الهائلة و درجات الحرارة العالية .

أما الدكتور رياض فكانت أمامه أصعب المهمات ،  الأولى منها ابتكار محرك قوي قادر على دفع مركبة خلال طبقات الأرض ، أما الثانية فكانت العمل على تطوير حفارة حلزونية تثبت في مقدمة المركبة ، أما الثالثة فكانت ابتكار ذراع آلية لالتقاط العينات و فحصها ، و قد وظف حمود تحت إمرته عددا من الميكانيكيين المهرة لتحقيق مهمته الصعبة .

أما الدكتور عبد الله فقد انشغل بابتكار برامج حاسوبية تساعده في عدة أغراض ، أولها تصميم المركبة المنشودة ، و ثانيها ربط المجسات و الرادارات و الكاميرات  بجهاز حاسوبي واحد يمكن التحكم بها من خلاله ، و ثالثها مساعدة الدكتور حمود في ابحاثة ، فالدكتور حمود يأمل بإثبات فرضية حديثة عن تكوين البترول ، الفرضية تؤكد أن النفط غير قابل للنضوب لأن المواد الهيدروكربونية – و هي أساس تكوينه – في حالة تشكل مستمر نتيجة اتحاد الكربون مع الهيدروجين ( و هما مادتان موجودتان في الأعماق مثل وجودهما في الجو ) هذا الإتحاد يتم  تحت درجة حرارة و ضغط هائلين في الطبقات العميقة لجوف الأرض ، لينساب – من ثم –  نحو الأعلى ، مجدداً تعبئة الخزانات الطبيعية الموجودة أو تكوين خزانات غير معروفة و لم يتم اكتشافها بعد .

و يقول الدكتور حمود إذا تمكن من إثبات هذه الفرضية يصبح بإمكان البشر تكوين حاجاتهم النفطية بمصانعهم ، و ستكون تلك خطوته التالية ، مما سيحدث ثورة في مجال الطاقة تفوق الثورتين الصناعية و الألكترونية معا .

أما الدكتور مجدي فكان يبحث في صفائح القشرة الأرضية التي تقوم فوقها القارات و التي تعوم  فوق طبقة  من الصخور شبه  المائعة  فتسبب حركتها  الدائبة التي تؤدي  إلى  حدوث الزلازل ؛ و ذلك سعيا وراء إيجاد الفالق الباطني المناسب الذي يمكِّن من النفاذ إلى الأعماق .

و يؤكد الدكتور مجدي أن هناك فوالقا زلزالية و أنفاقا و كهوفا طبيعية في الأعماق كما في السطح و من الممكن عبورها بيسر إذا نجح زملاؤه  بتصميم المركبة المنشودة ، و التي سوف يكون عليها اختراق عدة طبقات مختلفة التكوين  قبل الوصول إلى طبقة المعادن المصهورة  و هي بسامكة 2800 كيلومتر و بحرارة تقارب المائة درجة مئوية قرب السطح و 3500 درجة مئوية في أعمق نقطة .

و بما أن جاذبية قلب الكرة الأرضية الصلب المكون من معدن الحديد – و هي جاذبية أقوى من جاذبيتها على السطح –  فإن  قوة الدفع المكتسبة من تلك الجاذبية سوف تمكن المركبة من الإتجاه بنفس السرعة نحو السطح ثانية و لكن نحو قارة أخرى من خلال فالق زلزالي آخر ، و قد لا تستغرق الرحلة – نظريا – إذا كانت مباشرة ، أكثر من ساعات معدودة ، و الحاسوب يشير إلى أن الإنتقال من غرب آسيا – مثلا -إلى شرق أمريكا قد لا يستغرق أكثر من أربع إلى خمس ساعات.

بعد ثمانية عشر شهرا من العمل الشاق و إنفاق مبالغ كبيرة قدمها الدكتور حمود و والده بسخاء و بلا أدنى تردد ، اكتمل بناء المركبة التي صنعت من سبيكة معدنية ولَّفها الدكتور هشام ، يمكنها احتمال حرارة تقترب من 4000 آلاف درجة و ضغط عدة أطنان فوق السنتيمتر المربع الواحد ، و بطنت من الداخل بطبقتين من نوعين مختلفين من السيراميك و زودت بمحرك ديزل دافع بقوة تعادل قوة قاطرتي ديزل ، و بمحرك قوي آخر لحفارة حلزونية ثبتت في مقدمة المركبة مستخدمة شفرات شُحذت من نفس سبيكة الدكتور هشام المعدنية ، قادرة على اختراق أصلب الصخور و قذفها إلى ما وراء المركبة ، و بمحرك آخر لتشغيل الذراع الآلية ، و بمحرك رابع لتوليد الطاقة و تشغيل أجهزة التبريد و الأجهزة الكهربائية و الألكترونية الأخرى ، كما زودت بكاميرات ألكترونية خاصة تحتمل درجات الحرارة العالية ، تُمكِّن الباحثين في الداخل من رؤية ما يجري حولهم في الخارج بدل النوافذ ، و برادار قوي  و مجسات حساسة لقياس المسافات و الأعماق و درجات الحرارة فوق هيكل المركبة من الخارج ، و أخرى للتعرف على الإتجاهات ؛ و بجهاز إتصال يصلح للإتصال في جميع الظروف .

و اقتضت الخطة أن تكون أول رحلة تجريبية و مباشرة ، على أن تكون رحلة العودة رحلة إستكشافية تخصصية ، تليها رحلات .

و ستغوص المركبة في الخليج العربي ثم تتجه جنوبا إلى بحر العرب ثم غربا نحو شرق أفريقيا و من هناك سيتم إختراق فالق البحر الأحمر . أما لماذا اختاروا أن تبدأ رحلتهم من أعماق البحر فالدكتور عبد الله يجيب على هذا السؤال قائلا :  ” أن القشرة الأرضية تقل سماكتها في أعماق البحر فهي بين – 60إلى70 كيلومتر-  مما يوفر الجهد و الوقت .”

و من ثم سوف تغوص المركبة في الأعماق مندفعة نحو قلب الكرة الأرضية الصلب ، ثم تنزلق قبيل بلوغه في اتجاه الصعود لتبلغ فالق المحيط الأطلسي – تماما كما تفعل سفن الفضاء التي تستفيد من جاذبية أحد الكواكب لتنزلق قريبا منه باتجاه كوكب آخر مستفيدة من قوة الدفع التي اكتسبتها من جاذبيته –  و لعلها تتجه من هناك إلى إحدى دول أمريكا اللاتينية ، و الأرجح أنها ستكون الجزيرة الكوبية أو أيا من جزر الكاريبي ، و لذا فقد حصلوا على التأشيرات اللازمة من سفارات  تلك  الدول  معلنين  لها  أن  زيارتهم  ستكون عبر سفينة  أبحاث  أسموها :      << دبي 1 >>.

و في اليوم الموعود ، اتجهت المركبة فوق شاحنة مغطاة إلى منطقة معزولة بين أمارتي عجمان و رأس الخيمة ، و ما أن  أُنزلت المركبة على شاطئ الخليج حتى دنت منها سيارة فارهة يعقبها سيارة حماية ، ثم ترجل منها مسؤول رفيع المستوى و برفقته والد الدكتور حمود ، جاءا خصيصا لوداع و تشجيع  زمرة العلماء العرب الذين سيخوضون أكبر مغامرة إستكشافية في التاريخ  ؛ و قد حرص الجميع أن تكون المغامرة بعيدا عن أية ضجة إعلامية ، خشية الصدمة الكبرى و الإحباط الشديد إذا باءت الرحلة بالفشل .

عندما غاصت  المركبة في الخليج كانت قلوب خمستهم واجفة خشية أن يكونوا قد ارتكبوا غلطة فنية ما ، و لكن لسعادتهم البالغة سار كل شيء على ما يرام ، المحرك الدافع قادهم نحو شرق أفريقية خلال 15 دقيقة فقط ( أي اسرع من اية غواصة ) ، و هناك بدأ الدكتور عبد الله  و الدكتور مجدي يبحثان من خلال شاشتي الحاسوب عن فالق البحر الأحمر ، و ما لبث الدكتور مجدي أن صاح صيحة ( أرخميدس ) : وجدته !… وجدته !… ؛ ثم ما لبث الإثنان أن بدءا بالبحث عن الثغرة المناسبة للعبور منها إلى أعماق الأرض ، فوجداها بعد دقائق قرب خليج السويس ، و بدأ من ثم الإختراق ..

كانت الحفارة الحلزونية تعمل بشكل رائع لشق الصخور و الكتل الطينية بينما يدفعها إلى الأمام المحرك الخلفي  بسرعة أكبر من سرعة طائرة نفاثة أو صاروخية ، فكانت سعادة خمستهم لا توصف لمدى النجاح الذي حققوه حتى الآن .

كان اتجاههم نحو الشمال الغربي بشكل مائل تحت القارة الأفريقية وعند بلوغهم عمق خمسين كيلومتر ، أحسوا أن الحفارة الحلزونية تدور في فراغ ، رصدوا ما حولهم بقلق بالغ ، فتبين لهم أنهم داخل كهف عملاق يتجه بهم  نزولا بخط مائل ، فسارت بهم المركبة خلاله  بيسر دونما حاجة إليها..و قد امتد الكهف – من ثم – أكثر من مائتي كيلومتر فكان تارة يضيق إلى بضعة أمتار و تارة يتسع إلى مئات الأمتار ، أما الإرتفاع فيتراوح  بين أمتار قليلة و عشرات الأمتار .

ثم  بلغوا نهاية الكهف  فبدأ الإختراق من جديد ..

بدأت الحفارة الآن تعمل بشكل أيسر فقد بلغوا طبقة أقل كثافة مكونة من الصخور الحارة شبه المائعة و التي – كما سبق أن أفادهم الدكتور مجدي – تطفو فوقها صفائح القشرة الأرضية و التي تسبب حركتها الدائمة .

أما الدكتور عبد الله فقد  أخبرهم  أن  الحرارة  خارج  المركبة  بلغت  الآن  مئتي  درجة مائوية .

و المركبة لا زالت مندفعة نحو الأعماق …

قال الدكتور مجدي : “نحن الآن في عمق ألف خمسمائة كيلومتر ..”

قال الدكتور عبد الله : ” الحرارة  خارج  المركبة  تبلغ الآن خمسمائة درجة مئوية …”

و المركبة لا زالت مندفعة نحو الأعماق …

” نحن الآن على عمق ثلاثة آلاف كيلومتر” ،  قال الدكتور عبد الله ؛

” و بدأنا نخترق المائع الناري ” ، قال الدكتور مجدي ؛

” و بدأت الجاذبية تتزايد وتيرتها بشكل متسارع ، اربطوا الأحزمة جيدا و اتخذوا وضع الإستلقاءعلى ظهوركم ” ، قال الدكتور رياض الذي يتولى قيادة المركبة .

و المركبة لا زالت مندفعة نحو الأعماق  بوتيرة متسارعة…

” بدأنا الآن بالإتجاه المعاكس ”  ، قال الدكتور رياض  ، و قد خرجت الكلمات من فمه بطيئة و بصوت خافت بسبب الضغط الكبير الواقع على صدره و بطنه ؛

إنه ضغط السرعة الخيالية التي اكتسبوها من جاذبية قلب الكرة الأرضية المعدني .

و المركبة بدأت تندفع من الأعماق نحو السطح …

” نحن الآن تحت  المحيط  الأطلسي ، في وسطه تقريبا ، و الرحلة تسير من نجاح  إلى نجاح ” ، قال الدكتور عبد الله ، عندما  بدأ الضغط الكبير يزول تدريجيا عن جسده ، و بدأ يتابع جهاز الحاسوب بدون صعوبة..

و المركبة لا زالت تندفع من الأعماق نحو السطح ..

” سنخترق فالق الأطلسي وشيكا ” ، قال الدكتورمجدي ، رد عليه الدكتور حمود قائلا : ” لقد عثرت بين العينات التي التقتطها من الكهف العملاق الذي مررنا به ، على كميات كافية من عنصر يندمج فيه الكربون بالهايدروجين فيما يمكن أن نسميه خميرة البترول و ليس فيه أي اثر لكائنات عضوية ميتة أو بقايا كائنات عضوية ، و هو ما يؤكد فرضية أن البترول في حالة تكوين مستمر ، و ليس فقط  نتيجة  المواد  العضوية  المترسبة  كما  كان  يُظن  ، و عندما سنمر في طريق العودة من ذلك الكهف سألتقط عينات أخرى لمزيد من البحث.. إنه  لفتح  علمي  كبير  أيها الأعزاء ! ”

و المركبة لا زالت تندفع من الأعماق نحو السطح …

و ما أن اجتازت فالق الأطلسي ، و بدأت الحفارة في تكسير الصخور الصلبة تمهيدا لبلوغ  قاع المحيط ، حتى بدت من جديد و كأنها تدور في فراغ .

الفصل الثاني

لم يطل قلقهم طويلا

” أنه مدخل كهف عملاق آخر !” صاح الدكتور مجدي فرحا!

” شيء لا يصدق يا إخوان ، المجسات تؤكد أن حرارة الكهف لا تزيد عن 40 درجة مئوية ، و الهواء فيه مليء بالأكسيجين ” أضاف الدكتور عبد الله …

فرد الدكتور مجدي : ” أمر غريب نحن على عمق خمسين كيلومترا تحت سطح المحيط الأطلسي ، و الأكسيجين متوفر ؟؟!!  ذلك سيقلب جميع معارفنا الإنسانية رأسا على عقب ، هذا يعني أن الكهف صالح للحياة ، دعونا نتجول قليلا  فيه و نريح أقدامنا المتعبة ، و ما يدرينا فقد نعثر على مخلوقات من نوع ما ! ”

فأجابه الدكتور حمود : ” قد  تكون تلك المخلوقات من فئة الداينصورات ، فعلينا أن نكون متيقظين و ألا نبتعد عن المركبة !”

و ما أن هبطوا من المركبة حتى لجمت ألسنتهم مفاجأة لم تخطر على بالهم ، كان الكهف مضاءاً بإنارة لم  يتمكنوا من معرفة مصدرها و مزدانا بعشرات اللوحات الفسيفسائية تفصل بينها أعمدة رخامية تتصل في أعلاها بأقواس تشبه أقواس قصر الحمراء في غرناطة الأندلس ، أما أرض الكهف فقد رصفت بالحجارة المنحوتة ..

تساءل الدكتور هشام مشدوها : ” هل من المعقول أن  نكون أمام  مدينة ما أو جزيرة ، غاصت نتيجة زلزال ، و بقيت مبانيها على حالها على هذا النحو ؟ ما رايك يا دكتور مجدي ، هل يمكن علميا أن يقع مثل هذا الأمر البعيد عن كل معارفنا ؟ أفدني يا دكتور مجدي ، هل سمعت أو قرأت عن مثل هذه المعجزة التي نراها ؟ ”

أجابه الدكتور مجدي و هو لا يقل شعورا بالذهول عن زملائه : ” قد يحدث أن تغوص مدن أو جزر و لكنها تبقى في قاع البحر و لكن ليس تحت خمسين كيلومترا من قاعه ؛ لقد تم اكتشاف بقايا الإسكندرية القديمة قرب سواحلها و لكنها كانت خرائب ، و ادعى روبرت سارماست و هو عالم أمريكي مؤخرا أنه اكتشف خرائب جزيرة أطلنتس التي تحدث عنها أفلاطون ، و لكنه قال أنها  مجرد آثار مدينة و ليست مدينة  سليمة …”

ما أن أكمل الدكتور مجدي جملته ، حتى سمعوا جميعا صوتا أرعبهم : ” أنتم الآن في أتلنتيا ” ثم اضاف : ” أتلننتيا و ليس أتلنتس ، و شعبها يرحب بكم ، تقدموا بمركبتكم خمسمائة متر و ستروننا في استقبالكم  ! ” .

نظروا إلى بعضهم بعضا و قد عقدت الدهشة ألسنتهم ، ثم قال الدكتور حمود لزملائه : ” هيا مِمَّ نخاف ؟ الصوت بدا آدميا و ودودا ، و بالتأكيد نحن لا نحلم ! ”

أجابه الدكتور هشام و قد ارتعش صوته لرهبة الموقف : ” يا إخوان نحن نعيش الآن معجزة حقيقية ! ”

هبطوا من المركبة ثانية ، عندما وجدوا أنفسهم أمام بوابة ضخمة ، ما لبثوا أن سمعوا صوتها و هي تفتح  ببطء ، ثم بدؤوا يلمحون بشرا حقيقيين ، نساء و رجالا ، في غاية الجمال ؛ طول فارع يعادل 150% من الطول المتوسط للبشر ، شعر يميل إلى الحمرة ، عيون واسعة عسلية اللون ،  ، الرجال منهم  يرتدون  ثيابا  بيضاء  مكونة من  قطعتين ، سروال  قصير و قميص ( نصف كم ) مزين بزخارف هندسية يتوسط  ، بينهما حزام جلدي مزخرف ، و في أقدامهم نعالا خفيفة ترتفع إلى ما فوق الكاحل ، مزينة بزخارف شبيهة بزخارف الحزام  ، أما النساء فقد ارتدين ملابس زاهية الألوان بلا أكمام ، و طويلة تكاد تلامس الأرض ، و قد زينوا صدورهن بعقود اللؤلؤ و المرجان.

تقدم منهم ما بدا أنه كبير القوم  ثم ما لبث أن  قال لهم من خلال جهاز بدا و كأنه جهاز للترجمة الفورية : ”  مرحبا بكم ،  هذه هي المرة الأولى التي يشرفنا فيها بالزيارة سكان من سطح الأرض ، و لا بد أنكم تملكون تقنية عالية الكفاءة مكنتكم من الوصول إلى أطلنتيا .”

تقدم الدكتور حمود – و قد استطاع التغلب على دهشته الشديدة – تقدم منه ، ثم مد يده راغبا في مصافحته ، و بعد تردد منه مد الآخر يده ثم تشابك مع حمود بمصافحة حارة و هو يضحك ، ثم ما لبث أن شده نحوه معانقا ، و تكرر ذلك مع بقية رفاقه ؛ ثم بدأ الدكتور حمود يعرفه بأصدقائه العلماء و بتخصصاتهم ؛ في حين كانت الحشود من حولهم تردد ما يشبه الأهازيج الترحيبية ، و قد تزينت وجوههم جميعا بابتسامات عريضة ملوحين بايديهم  مرحبين.

سار بهم كبير القوم مسافة بسيطة ثم تقدمهم صاعدا درجات مايشبه أهرامات ( المايا ) و لكنها مبنية من الرخام ، ثم ولجوا جميعا إلى قاعة كبرى التف حولها مدرج  جلس عليه عشرات من النساء و الرجال ممن بدوا أنهم وجهاء القوم ، عرَّف بهم مضيفهم على أنهم نواب شعب أتلنتيا ، فقوبل الدكتور حمود و صحبه  بتلويح الأيادي و صيحات الترحيب .

بعد أن رحب بهم رئيس المجلس ، توجه بهم مضيفهم إلى قاعة مجاورة التف حول مائدة بيضاوية الشكل مصنوعة من من الرخام النفيس ، عشر نساء و أربعة رجال ، عرفهم مضيفهم على أنهم وزراء أتلنتيا و أنه شخصيا رئيسهم .

ما أن جلس الضيوف حتى انهالت عليهم الأسئلة ؛ كيف وصلوا و كيف تمكنوا من اختراق المحيط ، و من أي منطقة في العالم جاؤوا و ماهو هدفهم ، كان كل منهم يجيب على أحد الجوانب ، فقد أوضح لهم الدكتور مجدي أن مجموعتهم علمية بحتة ، و أنها لم تكن تفكر إطلاقا بالبحث عن حضارة أتلنتنيا أو آثارها ، و أنهم إنما بلغوها بمحض المصادفة ؛ ثم شرح لهم هدف المجموعة و هو إثبات إمكانية اختراق باطن الكرة الأرضية بسرعة قياسية إذا توفرت المركبة المناسبة ، و أنهم قدموا من البلاد العربية و تحديدا  من الإمارات العربية المتحدة و من أمارة دبي تحديدا ، و يهدفون إلى بلوغ أمريكا الوسطى ، و على الأرجح  بلوغ إحدى جزر الكاريبي ، و بسرعة قياسية تتجاوز سرعة أية وسيلة ابتكرها البشر حتى الآن ، فنحن قضينا حتى الآن ثلاث ساعات و عشرين دقيقة  و هدفنا أن نبلغ إحدى جزر الكاريبي ، في زمن يتراوح بين أربع إلى خمس ساعات .

ثم تناول الدكتور عبد الله الحديث مبينا لهم أنهم لهذا السبب لن يتمكنوا من المكوث أكثر من بضعة دقائق أخرى و إلا  فشلوا في تحقيق هدفهم .

ابتسم أحد الوزراء قبل أن يجيبه من خلال جهاز ترجمته ، الذي  يستعمل كل منهم مثيله  :    ” أنتم  ضيوفنا و لن نتخلى عنكم  بالسهولة التي  تظنون .!..”

ثم أضافت وزيرة أخرى : ” في الحقيقة ، بلدنا ينقصه الذكور ، و عدد سكاننا في تناقص ، فنحن نرحب بكل ذكر يحضر لزيارتنا ، لقد بلغت نسبة الإناث 76% من مجموع السكان ، و هذا يهدد شعبنا العظيم بالانقراض .”

ثم تصدت وزيرة أخرى للحديث ، فقالت : ” علامَ عودتكم إلى السطح ؟ و شعوبه لم يتمكنوا حتى الآن من التغلب على حيوانيتهم ، شعوب لا زالت متناحرة متنافسة متحاربة ، شعوب تملك من وسائل التدمير أكثر مما تملكه من وسائل التعمير  ! ”

أجابهم الدكتور هشام : ” لهذا السبب اتحدنا نحن الخمسة ، و هدفنا الإسهام في تطوير العلوم و المعارف البشرية ، لكي يصبح للناس جميعا  مصادر رخيصة للطاقة ، مصادر جديدة للمياه العذبة ، مصادر جديدة للمعادن ، لنحقق في النهاية ما يكفي كل البشر من الغذاء  و الكساء و البيوت المريحة و المواصلات السهلة ، و نعتقد أنه إذا تحقق كل ذلك فإن الصراعات سوف تنتهي و أن العدالة سوف تسود ؛ أما إن بقينا  في ضيافتكم – كما تطلبون – فإن كل جهودنا ستذهب أدراج الرياح ”

ثم أضاف  الدكتور حمود قائلا : ” لا تنسوا  يا  أيها المحترمون أن لدينا أهلا و أصدقاء في انتظارنا على أحر من الجمر ، فإذا بقينا في ضيافتكم – كما تقترحون – فسيظنون أننا قُتلنا  ، و أن رحلتنا فشلت ؛ و سنسبب لهم خيبة أمل رهيبة و حزنا كبيرا ! ”

صمت الجميع و كأن على رؤوسهم الطير ، ثم ما لبث رئيس الوزراء  أن قال لهم : ” لقد اقتنعت بما تقولون و بأنكم بشر طيبون و أن أهدافكم نبيلة ، و لكنني أطلب منكم أمرين ، أولهما أن تدخلوا غرفة التاريخ لتتعرفوا على حضارتنا و علومنا و مقومات وجودنا لكي تتخلصوا من كل ما  لُفِّق عنا من أقاويل ملأت كتب تاريخكم  ، و ثانيهما أن تتعهدوا بعدم ذكر أي شيء عن وجودنا و مكاننا لأي إنسان على سطح البسيطة ، و إلا عرضتمونا لخطر فادح ، فهناك دول قوية و عدوانية فوق السطح ، قد تتمكن من الوصول إلينا و إيذائنا و تدمير حضارتنا المعمرة ، و التي بلغت خمسة آلاف سنة ، نعم خمسة آلاف سنة بدون حروب أو أي نوع من الصراعات ، نحن لا نحتاج للشرطة أو الجيش ، و لم يسبق أن تشاجر منا اثنان ، و حكومتنا التي ترون هي حكومة علماء و حكماء ، فإذا بحتم بسرنا فربما تكونون السبب في القضاء علينا .”

أجابه الدكتور حمود : ” أعاهدك باسمي و بإسم إخواني بأن نَكْتم سركم ، و بأنكم بالتأكيد لن تسمعوا عن لساننا كلمة واحدة ، و لكن ليس لدينا وقت أكثر للاطلاع على ما تحويه غرفة التاريخ ؛ رجائي – و قد اقتربنا من النجاح – أن يحدثنا أحدكم بموجز عن تاريخ أتلنتيا   و نحن في طريقنا إلى مركبتنا .”

في الطريق إلى المركبة و في وسط حشود شدها الفضول لمشاهدتهم ، كانت إحدى الوزيرات التي كلفت بمرافقة الضيوف العلماء ، كانت تحدثهم عن تاريخ أتلنتيا ، فقالت : ”  كنا نعيش في وسط المحيط الأطلسي و أقرب إلى الأمريكتين ، و كانت لنا علاقات تجارية مع مصر الفراعنة و بلاد الإغريق في الشرق ، و مع سكان المايا بعد ذلك في الغرب ، و كنا نحن وسطاء تجاريين بين هؤلاء و اؤلئك ، و قد حاولنا إقامة علاقات ودية مع الجميع و لكنهم أخذوا  يقابلوننا  بالعدوان ، ففي أواخر علاقاتنا بهم ، كانوا قراصنتهم يعتدون على سفننا  التجارية و ينهبون ما فيها من بضائع  ، ثم  قَدِم إلينا الإغريقيون فوق سفنهم الحربية هادفين غزونا ، فأحرقناها عن آخرها باستخدام الليزر الذي لم يكونوا يعرفونه ، و الذي عرفتموه أنتم حديثا.

أما سكان المايا فكانوا أكثر توحشا ، رغم كل مظاهر التقدم التي كانوا عليها ، كانت لهم أبجديتهم الهيروغليفية و كانت لهم أهراماتهم التي اقتبسوها من أهرامات المصريين مع بعض التغيير ،   كان سكان المايا بعرفون  الأرقام  و الحساب ، و كان لديهم إلمام بعلم الفلك ، و لكنهم كانوا دمويين ، فبينما كانت أهرامات المصريين القدماء مقابرا لملوكهم ، فإن أهرامات المايا كانت تستخدم لنحر الضحايا الأدميين ، أما أهرامتنا التي اقتبسها الطرفان منا فكانت مخصصة للبحوث العلمية ، أعود إلى المايا فقد كان كهنتهم يقيمون كل فترة احتفالات ينتقون خلالها أجمل الشبان أو الفتيات ، فيذبحونهم ذبح النعاج ، ثم ينتزعون قلوبهم و يقدمونها قرابين لإرضاء آلهتهم كما كانوا يزعمون ، و كانوا  يخوضون على  الدوام  حروبا  شرسة فيما بينهم أو مع جيرانهم ، و الحقيقة كنا نتوقع انهيار حضارتهم السريع كما حدث بالفعل .

و عندما اكتشف علماؤنا ، أن هناك بوادر حدوث زلزال كبير قد يغير خارطة الكرة الأرضية ، صنعوا  فوق جزيرتنا قبة هائلة الحجم من لدينة قوية ، و قد شارك جميع السكان متعاونين في تدعيم  البيوت و تقوية أساسات المباني العامة و أهرامات البحث العلمي ؛ ثم جهز علماؤنا الجزيرة أيضا ، بمولدات الطاقة التي ستستفيد من حرارة الأعماق ،  لغرض  الإنارة و استخلاص الأكسيجين و الماء العذب  و الغذاء  من  مياه  المحيط ، إضافة إلى  تعديل حرارة الجو ؛ و انتظروا – من ثم – اللحظة الحاسمة .”

ثم أضافت بعد أن التقطت أنفاسها : ” و حدث الزلزال الكبير و ابتدأت جزيرتنا تغوص في ماء المحيط بهدوء و كأنها فوق مصعد أحد الأبنية ، حتى بلغت القاع ، و بدون إلحاق الأذى إلا بالقليل القليل من الأبنية التي لا زالت في قاع المحيط حتى اليوم ، أما بالنسبة للأفراد فكان هناك عدد من الجرحى فقط  ؛ و حدثت هذه الضرار البسيطة عندما استقرت جزيرتنا في قاع المحيط .

ثم  ما أن استقر الوضع حتى ابتدأ  الحفر نحو هذا  الكهف الذي كان علماؤنا  قد اكتشفوه  قبلا ، و الذي أصبح مدينتنا المزدهرة كما ترون ، أما  القبة فقد تآكلت بالتدريج بتاثير ماء  المحيط المالح ، ثم أخذت الرمال تغطي ما تركناه من مبان . ”

كانوا قد وصلوا إلى مركبتهم عندما قالت لهم مرشدتهم : ” لا حاجة لكم للرجوع إلى أول الكهف ، فلدينا منفذ يؤدي بكم إلى قاع المحيط مباشرة ، تستخدمه مركباتنا الفضائية التي تطلقون عليها اسم الأطباق الطائرة أو ظاهرة الأجسام المجهولة ، نعم أيها السادة إن حضارتنا كانت متقدمة منذ خمسة آلاف سنة على الأقل و لم تقف عجلة تقدمنا لحظة واحدة ،  فقد تمكنا مثلا و منذ البداية ، من اكتشاف وسيلة تلغي حاذبية الكرة الأرضية  أو أي الكواكب الأخرى ، مما  يَسَّر تنقلنا  بين النجوم و  الكواكب! ”

تساءل الدكتور هشام متعجبا : ” إذاً أنتم  الذين دوختم العالم بأطباقكم مجهولة الهوية ؟! قال بعض البحارة أنهم شاهدوها تخرج من المحيط و لكن أحدا لم يصدقهم .. ! ”

ضحكت المرشدة و هي تجيبه : ” نحن من كنا نجوب بلادكم مستكشفين مدى تقدمها ، و مدى اقترابها من السلام الشامل الذي سبقناكم إليه منذ قرون، و أحيانا نختطف منكم بعض ذكوركم فيقيمون بيننا ضيوفا معززين مكرمين ، فكما أفادكم رئيس وزرائنا ، نحن نعاني من نقص حاد بالذكور ، و لهذا السبب قمنا  باختطاف بعض طياريكم  ، أو ركاب سفنكم ، أو مزارعيكم ، دون أن نسبب لهم أي أذى ، و قد عاشوا بيننا سعداء في غاية الرضا  ، و منهم من لا يزال بيننا حتى اليوم ، لأننا تمكنا أيضا من إطالة أعمار البشر !” .

سألهها الدكتور حمود : ” لديكم كل هذه التقنية و لا زلتم عاجزين عن حل مشكلة النقص الحاد في عدد ذكوركم  ؟ ” ابتسمت مرافقتهم و هي تجيبه :” بعد بحوث علمية و تجارب كثيرة تبين استحالة التلقيح الصناعي بسبب لا زلنا نجهله  ، و إن كنا نعتقد أن للجاذبية الكبيرة التي نعايشها في هذا العمق دورا في هذه المشكلة ، و هو السبب نفسه الذي جعلنا أطول من البشر فوق السطح ، أي بالإختصار فإن بعض التغييرات البيوفسيولوجية طرأت على كينونتنا منذ هبطنا هذا الكهف الذي جددنا فيه حضارتنا .”

سألها الدكتور عبد الله : ” كما فهمت منك ، فإنكم جُلْتم في الفضاء الخارجي أيضا ، فهل اكتشفتم حياة في أي كوكب غير كوكبنا الأرض؟! ”

أجابته واثقة مما تقول  : ”  لقد جبنا كل مجرتنا  ( درب اللبانة أو التبانة ) من أقصاها إلى أقصاها  ، و هي التي تضم ما يزيد عن 200 مليار نجم , و التي يزيد قطرها على 100 ألف سنة ضوئية ؛ ذلك أن علماءنا  اكتشفوا  خطوطا للجاذبية تمر بين النجوم ، و  تسمح بالإنطلاق بسرعات تفوق أضعاف سرعة الضوء ، و النتيجة أننا لم نعثر فيها على كوكب واحد صالح للحياة كما كنا نأمل .

سالها الدكتور رياض مستغربا  : ” طالما أنكم تعيشون هذه الحضارة المتقدمة و تنعمون بالسلام الشامل ، و بالاستقرار الإقتصادي و السياسي و  الإجتماعي ، فما هو دافعكم لاكتشاف الفضاء؟”

أجابته بعد فترة صمت : ” سؤالك في محله ، السبب أنتم ، أنتم من دفعنا لبذل هذه الجهود الجبارة و التكاليف الباهظة ؛ فبعد إلقاء قنبلتي هيروشيما و ناغازاكي النوويتين ، و ما تبعهما من تجارب نووية ، شعرنا أن الكرة الأرضية باتت تحت خطر الفناء ، فقد تنحرف عن مسارها بسبب ردات الفعل العكسية ، و قد يتلوث جوها كله بالإشعاعات النووية ؛ و لهذا السبب كثفنا بحوثنا في الفضاء على أمل العثور على كوكب ملائم نهاجر إليه ، هناك كواكب كثيرة صالحة للحياة ، و فيها مخلوقات بعضها أرقى من البشر و بعضها أقرب إلى الحيوانات ، و لكن لم نجد شبيها لكوكب الرض .

إن البشر منذ تواجدوا فوق هذا الكوكب ، و هم يتخيلون الفردوس ؛ الفردوس يا سادة بين أيديكم ، الفردوس هنا في  كوكب الأرض لو أحسنتم رعايته و تعلمتم  أخلاق التعايش فيه ، كوكبنا لا مثيل له في كل مجرتنا المحتوية على ملايين النجوم و الكواكب ، لا مثيل لمناخه ، لتنوع مخلوقاته من حيوان أو نبات ، لألوان أزهاره و أطياره و فراشاته و أسماكه ، لمناظر جباله و بحاره و أنهاره و بحيراته الخلابة ،  لخيراته الوفيرة ؛ و لكن  ناسَكم  للأسف لا  يدركون ذلك و لا يقدرونه ، بل يسعون  لتدميره  بالتلوث البيئي  و الأخلاقي معا ، من تعصب عنصري إلى استعباد قويِّكم لضعيفكم ، إلى حروبكم المدمرة التي تشعلونها لأتفه الأسباب ، و التي لا تخلف إلا الخراب و اليباب و القتلى و المشوهين و المقعدين ! ”

سألها الدكتور حمود : ” و ماذا عن المجرات الأخرى ؟”

فأجابته:” المجرات الأخرى تبعد ألاف و بعضها ملايين السنين الضوئية و أقرب مجرة إلينا هي مجرة المرأة المتسلسلة التي تبعد عن مجرتنا مليونين و نصف المليون من السنين الضوئية  ، و ليس في وسع تقنيتنا بلوغ أيا منها حتى الآن . ”  ثم أضافت : ” سأصعد معكم لأدلكم على المنفذ .”

عندما بلغوا النهاية لاحظوا وجود عدد كبير من الأطباق الطائرة بأحجام مختلفة بعضها بقياس سيارة صغيرة و بعضها الآخر أكبر من باخرة  ، عدد منها على شكل أقراص و مجموعة أخرى في أشكال كروية و مجموعة ثالثة في أشكال أسطوانية .

قالت لهم مرافقتهم :  “عندما نفتح البوابة التي تقابلكم ادخلوا فيها بمركبتكم ، ثم سنغلقها من خلفكم ؛ ستمتلئ الغرفة بالماء قبل أن نفتح البوابة العلوية ، عندئذ سوف يكون بوسعكم الإندفاع إلى أعلى لمسافة تزيد قليلا عن خمسين كيلومترا و بعدها ستبلغون قاع المحيط  في منطقة مثلث برمودا . ”

ثم ودعتهم بحرارة و هي تذكرهم بوعدهم – بلهجة مفعمة بالرجاء –  ألا يتحدثوا عن وجود أتلنتيا مع أي كان حتى مع أقرب المقربين .

شَغَّل  الدكتور  عبد الله  جهاز الاتصال و لفرحته تجاوّبَ في الحال ، نادي الدكتور حمود قائلا : ” هيا اتصل  بالوالد  و طمئنه  أننا  اقتربنا من الهدف و أننا سنكون في سواحل جزيرة كوبا خلال عشر دقائق ”

–      ألو .. آلو … مرحبا ( يوبا ) أنا حمود … أنا حمود هل تسمعني ؟

يجيبه صوت مختلط ببعض التشويش :

=  هَلا ( بِولْدي الحبيب ) لقد تأخرتم أكثر من ساعتين عن موعدكم المقدر ، و بدأنا نقلق عليكم ! ..و لكن  أين أنتم الآن ؟

–      نحن قريبون جدا من جزيرة كوبا ( يوبا ) ، بلغ سفير الأمارات هناك ، بقرب وصولنا

( طال عمرك ) .

يصيح والد حمود  :

=  إحذروا من الإقتراب من (غوانتنامو) يا حمود يا ( وِلْدي )…أكرر ، إحذروا ..إحذروا…لا تقتربوا من ( غوانتنامو ) !

– عبد الله .. عبد الله .. إصحَ من نومك  يا ( خوي ) ، كف عن الصراخ ، فأنت تحلم !

يلتفت نحو مجدي الجالس بجواره ، قائلا :

–     يبدو أن عبد الله  تعرض لكابوس اسمه ( غوانتنامو ) !!!

يفتح عبد الله عينيه بصعوبة ، يتلفت حوله ، ثم يغرق بالضحك و هو يجيبهما  بكلمات قطعتها  قهقهته :

= بل كنت أحلم بأتلنتيا و بمدينة أفلاطون الفاضلة !

الفصل الثالث

يجيبهم رياض مستغربا :

–    علام تضحكون ؟؟؟ ربما كان عبد الله يحلم بمدينة أفلاطون الفاضلة و بجمهورية أتلنتس الأسطورية ، و لكنه لا يحلم بغوانتانامو فنحن نمر قربها الآن ، و على بعد بضع دقائق من هافانا عاصمة كوبا ، إننا فوق سطح المحيط الأطلسي يا إخوان !

يتحرك عبد الله نحو أجهزته الألكترونية ، ينظر إلى الخارطة المنقولة عبرالأقمار الصناعية ، يصيح :

–    نحن بالفعل قريبون من ( هافانا ) ، لقد نجحنا يا إخواني … نجحنا .. نجحنا ..!

و أخذوا يهنئون بعضهم بعضا و يتبادلون العناق و القبل .

يخاطب حمود والده فرحا :

–    ( يوبا ) نحن قريبون جدا  من  هافانا ، عدة دقائق و نكون في مينائها ، هل أبلغت سفيرنا بقرب وصولنا ؟

يجيبه والده فرحا :

–    إنه في عرض البحر في انتظاركم مع مسؤول كوبي كبير ..

يصيح عبد الله فجأة :

–    الله و أكبر … أعداد  كبيرة من  المراكب و السفن مزدانة بالأعلام الكوبية و العربية ، تتجه نحونا ، سيكون استقبالنا حافلا  ، يا إخوان ، جهزوا أنفسكم لهذا الحدث العظيم ، رتبوا ملابسكم  ، اعتنوا بمظهركم ، ربما هناك – أيضاً – صحفيون و تلفزة ..

يفتح رياض الفوهة العلوية للمركبة ، ثم  يباشر رفاقه  بالخروج منها الواحد إثر الآخر .

بدؤوا – من ثم – يلوحون للمراكب الآتية نحوهم  ، و إن هي إلا بضع دقائق ٍ، حتى اقترب منهم ( يخت ) ناصع البياض، كاد يلامس مركبتهم ، و مالبث أن  ظهر في مقدمته رجلان بالملابس العربية الخليجية و إلى جانبهما ضابط بحرية بدا أنه أدميرال البحرية الكوبية ، لكثرة الأوسمة التي يزين بها صدره ، و خلفهما اصطفت ثلة من الجنود البحارة .

يلكز عبد الله صديقه الدكتور هشام ، و يهمس في أذنه :

–                          إنظر إلى الأعلى ياأخي ، هناك قليلا إلى الشمال ؛ ينظر هشام إلى حيث أشار صديقه ، ثم يجيبه مندهشا :

–                          حتما إنه صحن طائر !!!!

في صباح اليوم التالي ، كان موعدهم مع الصحافة في بهو الفندق الكبير ؛ كانت المفاجأة الأولى وجود والد حمود إلى جانب السفير الأماراتي ، و لفيف من أركان السفارات العربية الأخرى .

كان اللقاء حميما و التهاني تزفهم فردا فردا و التصفيق يصم الآذان.

ثم جلسوا على المنصة …

افتتح وزير العلوم الكوبي المؤتمر الصحافي ، مشيدا بهذا الإنجاز غير المسبوق ، ثم تلاه السفير الأماراتي ، منوها بالإسهامات الكبيرة للعلماء العرب عبر التاريخ في مجالات الرياضيات و الفيزياء و الكيمياء ، و حتى الطيران ، فقد ثبت أن عباس بن فرناس و هو من الأندلس ، أول من حاول الطيران في التاريخ ؛ مؤكدا أن زمرة العلماء العرب الشبان- الذين ترونهم الآن – بدؤوا باسئناف المسيرة العلمية العربية .

و انهالت من ثم اسئلة الصحافيين :

السؤال الأول :

=  كيف تمكنتم من اختراق باطن الأرض مع أننا نعلم أن الحرارة قد تصل إلى درجة 2000 درجة مئوية أو أكثر ، و أن الضغط قد يصل إلى طن فوق البوصة الواحدة أو أكثر .

أجابه الدكتور عبد الله :

–                          لقد دخلنا فعلا في حرارات تتراوح  500 و 2000 درجة مئوية ، و تحملت مركبتنا ضغوطا أعلى من طن على ميلمتر مربع ؛ و يعود الفضل بهذا الإنجاز الكبير إلى الدكتور هشام ، تفضل يا دكتور .

يتناول الدكتور هشام مجسم الصوت ( المايكروفون ) و يجيب الصحافي السائل :

–                          لقد تمكنتُ مع فريق من التقنيين ، من توليف سبيكة مقاومة للحرارات العالية ، كما أننا اختبرنا عدة هياكل مقاومة للضغط الهائل الذي من المحتمل أن تتعرض له المركبة  ، إلى أن توصلنا إلى الهيكل المناسب ، و قد نجحت مركبتنا باختراق درجات حرارة باطن الكرة الأرضية العالية كما تحملت أثقل الضغوط ؛  بنجاح تام و بدون أية صعوبة تذكر .

عقب صحافي آخر :

= هذا يعني أن هذه السبيكة يمكن أن تدخل في صناعة مركبات الفضاء ، أليس كذلك ؟

– بالتأكيد ! و يعني أيضا ، أننا يمكن بمركبة كهذه زيارة كوكب الزهرة ( فينوس ) توأم الأرض ، على سبيل المثال ، و التجول فوق سطحه بيسر، حيث تصل درجات الحرارة هناك إلى  450  درجة مئوية أو أكثر ، بينما بلغنا بمركبتنا مناطق في الأعماق بلغت قرابة الألفي درجة مئوية .

السؤال الثاني :

=  علمنا أن المدة الزمنية بين الإمارات و هافانا استغرقت ست ساعات و ربع تقريبا ، أي اسرع من أية طائرة معروفة حتى الآن ، فهل هذا هو الزمن الذي  قدرتموه  بالضبط ؟

أجابه الدكتور حمود :

–                          جميع تقديراتنا وفق الدراسة التي أجراها الدكتور عبد الله ، تؤكد أننا كنا سنصل إلى إحدى  جزر الكاريبي خلال  أربع  ساعات ، و قد  كنا بالفعل تحت قاع المحيط الأطلسي نبحث عن فالق يمكننا اختراقه لبلوغ قاع المحيط بسهولة ، بعد ثلاث ساعات و عشرين دقيقة من انطلاقنا ، و اصارحكم القول أننا لا  نعلم ما الذي أخرنا ساعتين إضافيتين ، و التفت إلى الدكتور عبد الله  طالبا منه أن يشرح هذه النقطة ؛ فاضاف الدكتور عبد الله قائلا :

–                          بعيد بلوغنا قاع الأطلسي ، فوجئت تماما بأن جميع تسجيلاتي الصوتية و المرئية عن الرحلة كانت ممحية بالكامل خلال آخر ساعتين ، و قد حاولنا ، جميعا ، شحذ ذاكراتنا لنعرف ما الذ ي جرى خلال ذلك الزمن الضائع المعادل لثلث الرحلة ، و لكن دون جدوى ؛ شيء ما عطل أجهزتنا و ذاكراتنا لمدة ساعتين !

و هنا جرى لغط كبير بين جميع الحضور ، فقد أصابتهم الدهشة لهذا الزمن المفقود ، لولا أن نهض أحد صحافيي فضائية عالمية،  فطرح  السؤال الثالث :

=  هل لذلك علاقة بأحجية مثلث برمودا ، فالمعروف لدى الكثير من قادة السفن و الطيارين أن لديهم ملاحظات شبيهة بما ذكرت ، كتوقف البوصلات و أجهزة الإتصال و ما إلى ذلك ؟

أجابه الدكتور عبد الله :

–                          ربما ؟ و بالمناسبة فقد لفت نظرنا وجود صحن طائر خلال استقبالنا في عرض البحر .

صمت قليلا ريثما هدأت الضجة التي أثارتها ملاحظته ثم أضاف :

–  ربما  نتمكن من حل هذا اللغز أثناء رحلة العودة !

السؤال الرابع :

= هل يمكن أن تصفوا لنا ما شاهدتموه في أعماق الأرض ، أقصد على أعماق تزيد عن الخمسين كيلومتر تحت قاع البحر ؟

فيتصدى الدكتور مجدي للإجابة على هذا السؤال :

–            باطن الكرة الأرضية ليس  طبقات ذات كتلات متجانسة لكل منها -كما شبهها البعض – بطبقات ثمرة البصل مثلا  ، فهناك مناطق صلبة رغم وجودها على أعماق تزيد على المائة كيلومتر ، و هناك مناطق ملتهبة ، و أخرى نصف مائعة قريبة جدا من سطح الأرض أو قاع البحار  ، تتحرك فيها المعادن المنصهرة كأنها في مرجل من مراجل مصانع الحديد و الصلب ؛ و في الأعماق – أيضا –  كهوف ضخمة ، أحدها تجاوز المائتي كيلومتر طولا تحت القارة الإفريقية ، و هناك تسرب كبير من  مياه المحيط إلى الأعماق ، فما أن أن تلامس المياه المتسربة الخليط المنصهر  حتى تتبخر و تبدأ في الصعود ثانية إلى أعلى متخللة المادة الأصلب لتتبرد من جديد متفاعلة مع المعادن و أشباه المعادن لتظهر على شكل مياه معدنية ، أو لتشكل فجوات من الماء العذب ، لم يكن لدينا وقت كافٍ لرصد حجمها ، و لكن بعضها كبير جدا ، و سنقوم بدراستها بتأنِ خلال رحلة العودة .

و مما يلفت النظر أنه في قاع البحر الأحمر قرب خليج السويس أي قرب الفالق الذي تمكنا من اختراقه إلى الأعماق ، توجد مساحات دائمة الإشتعال رغم وجودها في وسط مائي ، و لاحظنا مثلها في قاع الأطلسي ، أي قرب الفالق الذي خرجنا منه باتجاه القاع  .

السؤال الخامس :

= ماهي قوة المحركات التي سمحت لكم باختراق باطن الأرض ، بما تحويه من صخور و معادن صلبة  ؟ و نحن نعلم أن اختراق الصخور في بعض المناجم يحتاج إلى أشهرا أو سنينا .

تصدى الدكتور رياض للإجابة فقال :

–                          زودنا مركبتنا ( دبي1 ) ، بثلاث محركات ، أولها محرك الدفع و تعادل قوة دفعه حوالي 3000 حصان ، و باستخدام وقود مضغوط شبيه إلى حد ما بالوقود الجاف المستخدم لدفع الصواريخ الفضائية ، و المحرك الثاني محرك الحفر لتشغيل الحفارة الحلزونية المثبتة في مقدمة المركبة ، و الثالث محرك لتشغيل الذراع الهايدروليكية ، لالتقاط العينات ، و نستفيد منه أيضا في عملية التبريد الداخلي للمركبة .

ثم اختتم الدكتور حمود المؤتمر الصحافي ، مؤكدا على روح التعاون التام التي سادت بين مصممي المشروع و فريق المهنسين المساعدين الذين حولوا العمل من النظرية إلى التطبيق ،  مشيدا بدور والده الذي أنفق على المشروع من ماله الخاص و بسخاء منقطع النظير ، و بدور  الحكومة الأماراتية عامة و أمير دبي على وجه الخصوص ، لما قدموه من دعم معنوي و تشجيع منقطع النظير .

الفصل الرابع

وُدِّع العلماء العرب الشبان بمثل ما استقبلوا به من حفاوة ، ثم ما لبثت مركبتهم أن غاصت في اليم .

بعد أربع دقائق من الغوص المتواصل نزولا باتجاه فالق الأطلسي ، و ما أن  بلغوا الفالق و باشروا في اختراقه ، حتى شعروا بأمر غريب ، فقد توقفت أجهزة رصدهم فجأة عن العمل ، كما توقف محركا الدفع  و الحفر معا ؛ فأخذوا ينظرون إلى بعضهم بعضا و قد تملكهم الخوف و القلق ؛ ثم شعروا بأن مركبتهم تتجه بسرعة عالية جدا في اتجاه معاكس ، و كأن قوة ما قذفتهم إلى الناحية الأخرى ، كانت السرعة شديدة بحيث تمكنوا بصعوبة من شد أحزمتهم ، و كان الضغط كبيرا بحيث أحسوا كأن بطونهم التصقت بظهورهم ، ثم و بعد بضع دقائق أخرى ، بدأ كل شيء يعود إلى طبيعته ، فعادت الأجهزة تعمل ، ليكتشف الدكتور عبد الله  أن المركبة قُذفت إلى المحيط الهادئ ( الباسيفيك ) قريبا من سواحل جمهورية كوستاريكا .

قال الدكتور عبد الله :

–                          – لا مبرر للقلق يا اخوان ، فالأرض كروية ، و نحن في رحلة العودة غير مرتبطين بزمن محدد للوصول ، فقد حققنا الريادة في هذا المجال . فأجابه الدكتور مجدي :

–                          =  كل هذا الذي حدث و تقول لا مبرر للقلق ؟ ، ساعتان من الزمن المفقود قبلا ،  قَذْفنا من محيط إلى محيط – رغم إرادتنا – و كأننا كرة قدم ضربتها قدم لاعب كروي ماهر ، و تقول لا مبرر للقلق ؟! ترى ما هي هذه القوة التي تحكمت بنا سابقا ثم  لاحقا ؟ ألسنا معرضين  للعبث بكل جهودنا  و كل علومنا مرة ثانية ؟ و كأن هناك من يسخر بنا و بكل تراثنا البشري العلمي !

من ؟ و كيف ؟ و لِمَ ؟

يجيبه الدكتور عبد الله و هو يهز رأسه تعجبا :

= أتدرون يا إخوان ، لا زال ذلك الحلم يراودني كلما استسلمت لسلطان النوم ، حلم أتلنتيا و جمهورية أفلاطون الفاضلة ، إنني اشعر في قرارة نفسي أنه ليس مجرد حلم ! و أن له ارتباطا بما تعرضنا و نتعرض له !

على أي حال ، فلندع الأحلام جانبا و لننظر إلى واقع الحال ، نحن  كما تشير خارطة الأقمار الصناعية ، على بعد حوالي 200 كم من جمهورية كوستاريكا باتجاه الغرب نحو جزيرة اسمها كوكوس ، و كما نحن متفقون ، فإن زمن رحلة العودة غير محدد  ، إذاً مارأيكم في أن نحاول استكشاف أعماق المحيط الهادئ ؟

يجيبونه جميعا بالإيجاب ، فيطلب من الدكتور رياض أن يخفف من سرعة محرك الدفع .

– نحن الآن بجوار جزيرة كوكوس ، هل سمع أحدكم بها من قبل ؟ سأل د.عبد الله رفاقه !

= كلا لم نسمع ، أجابوه ، و لكن  د.هشام عقب قائلا :

– سأبحث لكم عن معلومات حولها من خلال حاسوبي المحمول .

و بينما انهمك د. هشام بالتفتيش عن معلومات باستخدام محركات البحث المختلفة في حاسوبه ، بدأ الآخرون  يستعرضون أشكالا و ألوانا من المخلوقات البحرية ، تعرفوا على بعضها و جهلوا الأخرى ، أنواع  من أسماك القرش تحوم في المنطقة ، أعدادها كبيرة ، عشرات بل مئات ، و هناك عدد  كبير من الدلافين أيضا ، و أعداد هائلة من فصائل الأسماك  مختلفة الأشكال و الأحجام و الألوان ؛ يزدادا عددها مع اقتراب المركبة من جرف الجزيرة ؛ بعضها يتحرك على شكل قطعان ، و بعضها يتسلل بين الشعاب و بعضها الآخر على شكل صخرة تلتصق بصخور الجرف حتى لا يمكن تيميزها عنها !.

شاهدوا أخطبوطا كبيرا يتشارك في التهامه عدة قروش ، و قطيعا من الأسماك تحاصره مجموعة أخرى منها ، و تبدأ من ثم بالتهامها واحدة بعد أخرى ، ثم  شاهدوا نوعا من الأسماك يسمونه في بلادنا العربية الحبار ، تنطلق نحو سطح المحيط بسرعة رهيبة فرارا من مجموعة ثالثة من القروش فتتمكن من النجاة . ثم شاهدوا شعابا مرجانية  بلونيها الأصفر و الأحمر الزاهي ، و أخرى تظهر من بينها نباتات طويلة السوق تداعبها تيارات المياه ، و نباتات أخرى على شكل مراوح اليد  ملونة و عملاقة الحجم ، و صخورا التصقت بها أشكال و ألوان من مختلف أنواع  القواقع .. منظر رائع أشبه بلوحة فنية بانورامية متحركة ، و أجمل بكثير من أي متحف مائي زاروه من قبل .

ابتدأ من ثم د.هشام يسرد لهم باختصار ما  قرأه عن الموقع ، فقال :

– جزيرة  كوكوس من المواقع السياحية العالمية المشهورة ، و سبب شهرتها أنها تجتذب هواة الغطس في الأمريكتين و هي تابعة لجمهورية كوستاريكا ، و الجزيرة  تجتذب العديد من أسماك المحيط الهادئ بسبب كثرة الغذاء حول جدرانها الصخرية و غزارة العوالق الحيوانية و النباتية ؛ و قد كانت ملاذا للقراصنة الذين كانوا يتربصون للمستعمرين الإسبان و هم في طريق عودتهم محملين بالغنائم من بلاد الأنكا ( البيرو حاليا ) و يستولون على سفنهم بحمولتها من الذهب و الفضة ، و لذا فالجزيرة موئل للباحثين عن كنوز مما قد يكون القراصنة أخفوه فيها ،  كما أنبأتهم بعض الخرائط المكتشفة ، هذا و قد أعلنت كوستاريكا رسميا – منذ سنوات قليلة – أن الجزيرة  أصبحت محمية  طبيعية .

–                          أعتقد أننا إذا التففنا حول هذه الجزيرة نحو غربها فسنبدأ بالغوص عميقا ، يقول د.عبد الله ، ثم يضيف :

–                          الأعماق المنتظرة قد تصل إلى 4000 متر أو يزيد ، ما رأيك يا رياض بأن تبدأ بالغوص بنا في الحال ؟ و يلتفت إلى زملائه الآخرين :

–                          هيا استعدوا يا إخوان …

و لكن  د.حمود يقاطعه بشيء من الحدة ، قائلا :

– أنت تتصرف  و كأنك  قائد ( كابتن ) هذه السفينة  ، أليس لنا رأي يا أخ عبد الله ؟

يجمد الذهول د.عبد الله ، و يتلعثم و هو يجيبه :

–            =  أنا لم أدع قط أنني قائد هذه المركبة ، أنا أعمل من منطلق اختصاصي ، كل منا و كما اتفقنا منذ البداية ، يتصرف من منطلق إختصاصه ، و ليس بيننا رئيس أو مرؤوس ، تفضل انت و تسلم القيادة إذا شئت و أنا أول من يصوت لك ..

يضحك د.حمود ملء شدقيه ، ثم يجيبه  بصوت تقطعه قهقهته المتواصلة :

–  جاد ، دوما جاد و صارم ، ألا تحتمل المزاح – هداك الله – من أخيك حمود يا عبد الله  ؟ إنما أردت أن أغير جو الجدية و القلق الذي سيطر علينا ، و خاصة على وجهك المتجهم أنت بالذات ، منذ قذفنا الغرباء إلى المحيط الهادئ ..!

يبتسم د.عبد الله بينما لا زال الآخرون يتضاحكون .

و سرعانما يعود عبد الله إلى حاسوبه و شاشات التصوير الضوئي و الصوتي و الحراري المرصوصة أمام  مكتبه .

 

– نحن الآن على عمق 1000 متر تقريبا ، لا أثر للضوء ، الظلام 100% و درجة الحرارة تقارب 5 درجات مئوية ، يقول د. عبد الله ، فيجيبه د.مجدي متسائلا :

= و لكنني أرى أضواء مختلفة الألوان و الأحجام  تحوم هنا و هناك ، ترى ماهي ، و نحن في هذا العمق ؟

فيجيبه د. هشام :

– أعتقد أنها الأسماك المضيئة ، قرأت عنها ذات يوم ، و يمكنني أن أستخرج لكم بعض المعلومات من حاسوبي المحمول ؛ على أي حال حتى لو لم أتمكن من استخراج المعلومات الكافية فإن أخي عبد الله يسجل كل شيء على اسطوانات( د.ف.د DVD ( و سنقوم بدراستها فيما بعد ..

= أنظر إلى هذه السمكة الكبيرة ، يصيح مجدي مندهشا ثم يتمم :

= صفان  من الأضواء الزرقاء  تنير ما حولها ، يا لروعتها ، لم أتصور أنني سأشاهد يوما مثل هذا المخلوق .

يصيح د. مجدي :

–                          – أنظروا إلى هذا القطيع  من الأسماك ، تشع كلها باللون الأخضر  ، فيجيبه د.هشام :

= اسمتمعوا معي لهذه الحقائق عن الأسماك المضيئة استخرجتها لكم لتوي :
1 – إن اللون المنبعث من الأسماك ، يكون إما ازرقا أو ازرقا مخضرا وذلك لسببين هما:-

آ- أن اللون الأزرق والأزرق المخضر يسافر لمسافات طويلة داخل مياه البحار المالحة والمحيطات

ب- أن الأسماك حساسة لهذه الألوان فتستطيع رؤيته بسهولة في الماء

ج – و نجد في بعض أنواع السمك ما ينبعث منها ضوءا احمرا ، طوله الموجى طويل جدا فلا تراه باقي الأسماك وبهذا فهي ترى الأسماك الأخرى وهي لا تستطيع رؤيتها ، فتستخدم هذه الخاصية في افتراس غيرها من الأسماك ، أو تستخدمها كلغة إشارة بين بعضها البعض .

2-     د –  تستخدم بعض الأسماك هذا الضوء في جذب فرائسها ثم تقوم بإمساكها بفكها ثم تلتهمها

3-    ه –   تستخدم الضوء كوسيلة تخويف وتشويش لباقي الأسماك التي تخاف من هذا الضوء المتوهج وتبتعد عنها.

4-     و – تستخدم هذا الضوء ككشافات ترى بها الطحالب والكائنات الدقيقة والتي تتغذى عليها ، و

5-  تستخدم الضوء كلغة إشارة بين أفراد النوع الواحد فهي تستخدم إشارات ضوئية فيما بينها لا يعرفها احد غيرها

6-  البعض الأخر يستخدم الضوء كرموز بين الذكور والإناث أثناء موسم التزاوج

فنجد بعض أنواع إناث الأسماك ينبعث منها أضواءا ملونة من أماكن مختلفة على أجسامها فتصبح مثل الطاووس في روعتها وجمالها فتجذب الذكور إليها أثناء موسم التزاوج ، والغريب أن هذه الأضواء المبهرة لا يراها إلا الذكور التابعة لنفس نوع الإناث أما أنواع الذكور الأخرى فلا تراها.

يعلق د. مجدي قائلا :

إنه عالم غريب ، لو لم أشاهده بنفسي لما صدقته !

تلتف مركبة الأعماق ( دبي 1) حول جزيرة  كوكس ، و تبدأ بالغوص من جديد باتجاه جنوبي غربي ، الأنوار الكاشفة تضيء ماحولها ، الحيوانات البحرية أصبحت قليلة ، و لا شيء غير العوالق تسبح في  هذا الظلام تكثر حينا و تقل حينا آخر .

د. عبد الله  يبلغ  زملائه بأن المركبة و صلت إلى عمق أربعة آلاف متر ، و أنها تكاد تبلغ القاع .

و على حين غرة يظهر ضوء يزداد سطوعه رويدا رويدا ، ثم يتحول من اللون الأصفر إلى  اللون الليلكي ثم الأحمر القاني ، كان  المنظر يشبه  إلى حد  بعيد الشفق  قبيل  لحظة الغروب .

تشرئب الأعناق فوق المناظير المطلة على خارج المركبة ، و إن هم في حيرة من أمرهم يعلو صوت د.مجدي : ” إننا نقترب من أحد الشقوق البركانية الضخمة ، أكبر بكثير من تلك التي شاهدناها من قبل .”

يسأله د.هشام :

–                          – و هل من المحتمل وجود أحياء مائية وسط هذا الجحيم ؟

يقاطعه د. حمود :

–                          = انظروا جهة اليمين يا إخوان ، فيأتيكم الجواب ، انتبهوا إلى هذا المخلوق الذي يتحرك كالأفعى العملاقة قرب فوهة النار ، دون أن يخشى الإحتراق  ! فيجيبه د. مجدي :

–                          – إنها إلى دودة عملاقة أقرب ، إنها تشبه الدودة الوحيدة التي كانت تفتك بالجهاز الهضمي لمن يبتلى بها  منذ  خمسين سنة و ما قبل..

يعلق د. هشام :

–                          = طولها حوالي عشرة أمتار ، ترى علامَ تتغذى لتصل إلى هذا الطول ؟

يقاطعه د. رياض مندهشا :

–                          – انظروا لهذا السرطان العملاق ، إنه على حافة الصدع و يجرى غير مهتم بالنار التي لا تبعد عنه أكثر من بضع سنتيمترات ؛ يقولون أن الحياة مستحيلة في  هذه الأعماق ، و ها نحن نرى مخلوقات متنوعة تعيش فيها و في درجات الحرارة العالية ، ألا ما أقصر معارف الإنسان عن أعماق البحار .

يبدأ د.رياض بتشغيل اليد الهايروليكية لجمع العينات ، بينما ينهمك د. عبد الله بتصوير كل ما تقع عليه عينه من العجائب ، أما الدكتور حمود فيصفق فرحا  و هو يقول :

–                          = سنقدم للعالم من المعلومات ما عجزت  عنه الدول العظمى ، سأقول لهم : ” اكتشفوا أعماق  محيطاتكم  و هي في متناول اليد ، بدلا  من اهتمامكم بالفضاء الخارجي و أبعاده الخيالية !

يتصل د.حمود بوالده فيدور بينهما  الحوار التالي :

– يوبا أنا حمود ، سامعني ؟

= سامعك يا حمود ، هلا  بولدي ، كيف أحوالك و أحوال اخوانك ؟

– الحمد لله يوبا ، كلنا بخير ، نحن في أعماق المحيط الهادئ ، نشاهد عجائبه ..

= المحيط الهادي ؟ ماذا أودى بكم إلى المحيط الهادي يا  ولدي  ؟ هل غيرتم خطتكم ؟

–                          ( يوبا ) ، القصة طويلة ، سأحكيها لك عند عودتنا ، المهم أننا شاهدنا بأم أعيننا الأسماك المضيئة ، ( يوبه منظر يهبِّل ) ، و شاهدنا مخلوقات عملاقة تعيش على حافة بركان في قاع المحيط ، تصور يوبا ألسنة النار في قلب الماء البارد و نهر من الصخور الذائبة الملتهبة يتلوى في قلب الماء ، و شاهدنا أيضا نباتات بعضها يتجاوز طولها العشرين مترا .

= الله … الله .. الله !!!!ليتني كنت معكم ، عساكم سجلتم كل شيء؟

– بالتأكيد يوبا ، أخي عبد الله يقوم بتسجيل كل شيء و قد بدأنا نجمع العينات  ؛ يوبا ، قاع المحيط مفروش بالمعادن  من جميع الأجناس بعضها مغمور تحت طبقة رقيقة من الرمال الناعمة و بعضها ظاهر للعيان على شكل أحجار و حصى ، ميز منها أخي مجدي الحديد و النحاس و النيكل .. و  ربما نجد الذهب أيضا ، و قرب البركان الذي حدثتك عنه ، وجدنا مركبات كبريتية تزكم الأنوف برائحتها النفاذة  .

= اوصِ الدكتور عبد الله أن ينتبه جيدا لأجهزة تصويره ، كي لا يحدث لها ما حدث من قبل !

– حاضر يوبا على أمرك ، أستودعك الله ، و لاتنسَ أن تسلم على الوالدة و الأهل .

يلتفت د.عبد الله نحو د.حمود و يقول له معاتبا :

–      كأني بوالدك يحملني مسؤولية ما جرى خلال الزمن المفقود !

= معاذ الله ، أن يتهمك أحد ، يلتفت د.حمود نحو بقية الزملاء متسائلا :

= هل لمس أي منكم يا إخوان أي اتهام  أو لوم موجه لأخي عبد الله ؟

يستبعد الجميع ذلك ، فيبتسم د.عبد الله ، يفكر لحظة ثم يقول برنة تشوبها الدهشة :

–      إنني أزداد يقينا  ساعة بعد ساعة أن لحلمي المتكرر حول حضارة أتنلنتيا اساسا واقعيا ، و أن الزمن المفقود له علاقة وثقى بذلك كله ، ليلة أمس مثلا شاهدت في حلمي سيدة فارعة الطول  ذات شعر أحمر و عينين كبيرتين عسليتي اللون ، تقودنا إلى ساحة مليئة بما نسميه بالأطباق الطائرة من مختلف الأشكال و الأحجام ؛ لقد بدأت تتضح لي الصورة يا إخوان ، لقد كنا في زيارة لأتلنتيا خلال الزمن المفقود .

–      يتبادلون نظرات الإستغراب و لكنهم لا ينبثون ببنت شفة .

–           عودوا إلى مناظيركم يا إخوان ، أمامنا منظر مدهش ، يقول د.عبد الله ، ثم يتمم :

– نحن نقترب من سلسلة جبال على مايبدو ، يشير الرادار أنها سلسلة طويلة قمم بعضها تصل إلى سطح المحيط على شكل جزر و لكن أغلب القمم مغمورة بالماء ، أعتقد أننا قرب أخدود ماريانا ؛ هشام يا ( خوي ) حاول أن تستخلص لنا بعض المعلومات عنه رجاءً .

–                          يستمر بالمراقبة عبر المناظير كل من د.حمود و د.مجدي ، في حين آثر متابعة المشاهد عبر شاشات الرادار و الفيديو كل من د.عبد الله و د.رياض ، بينما انهمك د.هشام  باستخراج المعلومات المطلوبة من حاسوبه النقال .

–                          يقول د. هشام بعد فترة صمت طالت :

–                          – اصغوا إلي يا اخوان … أخدود ماريانا يقع إلى الشرق من جزر ماريانا و على مسافة ليست بعيدة عنها ،  على خط عرض ( 12 شمال خط الإستواء ) و خط طول ( 142 شرقا ) و هو بطول  حوالي 3000 كيلومتر و عرض يتراوح بين 20 و 70 كيلومتر ، و أعمق نقطة فيه تصل إلى 11 كيلومترا ، أي أعلى من قمة افرست ، و تسمى ( هوِّة المتحدي  Challenger Deep ) ، و يوازي الضغط في هذا العمق ثقل فيل فوق صرصار.

يتساءل الدكتور رياض :

– ترى هل تعيش مخلوقات في هذه الأعماق ؟ و هل تتحمل هذا الضغط الهائل، و هل تتحمل مركبتنا هذ الضغط أيضا ؟

–                          يضحك د.حمود ، و يجيبه :

– ( عفى عليك يا خوي رياض ) اسمح لي هذا سؤال ساذج ، لقد بلغنا في عمق الأرض أكثر من 2000 كيلومتر ، يعنى أن الضغط كان أعلى بكثير ، و تحملته المركبة .

–                          يجيبه الدكتور رياض :

–                          – لا تنس أننا كنا مندفعين بمحرك بقوة 2000 حصان ، فالسرعة تخفف من الضغط كما أعلم أو تلغيه ، و لكننا الآن في رحلة استكشافية ، أي أن المركبة بطيئة نسبيا ، و لذا ستتعرض للضغط  كله ، هذا ما قصدته يا دكتور حمود.

يجيبهما الدكتور عبد الله :

–                          – لا تستبقا الأحداث ، سنخوض التجربة ، و سنرى ، و أن كنت متأكدا أن المركبة ستحتمل هذا الضغط ، و كما تعلمون فقد أجرينا عدة اختبارات حول الضغط و الحرارة  !

يقاطعه د. هشام :

–      أنا مع أخي عبد الله ، على ثقة بأن المركبة ستحتمل  كل هذا الضغط ، و أعتقد أن نظرية أخي رياض ليست صحيحة 100% ، و إن كنت سوف أراجعها لاحقا .

= و الآن – أعزائي –  بلغنا أول خندق ماريانا من جهة الشمال ، يقول د.عبد الله منبها ، ثم يضيف:

=  و سنبدأ  في التحرك  خلاله  نحو  الجنوب ، و لا تنسَ أخي رياض التقاط ما تيسر لك من العينات .

الفصل الخامس

كانوا جميعا منشغلين بالمراقبة ، و كعادتهم ، كان يراقب عبر المناظير كل من د.حمود و د.مجدي و د .هشام ، في حين آثر متابعة المشاهد المتلاحقة عبر شاشات الرادار و كاميرات الفيديو كل من د.عبد الله و د.رياض .

تلال ، وهاد ، هضاب ، سهول ، و وديان تعج بالحياة الحيوانية المائية منها العملاق كبعض أنواع الأخطبوط و الحبار ، و قناديل البحر و الربيان و الديدان الأنبوبية ، فلقد أدهشهم قنديل بحر عملاق بقطر ثلاثة أمتار و لا يقل وزنه عن الطن و النصف ، و شاهدوا كذلك ديدان أنبوبية يصل طولها إلى حوالي خمسة أمتار تبدو و كأنها مغروسة في رمال إحدى الهضاب القاعية ، كما شاهدوا قواقع عملاقة تتسع الواحدة منها لإنسان .

و منها كذلك المخلوقات المتناهية الصغر التي لا يتجاوز طولها الملليمتر ؛ أما الحياة النباتية فهي أشد غرابة : غابات من شجيرات  طحلبية و أخرى تتكون من سوق عملاقة يتلاعب بها الماء ، و غابات أخرى من الإسفنجيات و المرجانيات  ..بينما تناثرت القواقع في كل مكان … أما الألوان فهي أكثر تنوعا و زهوا من تلك التي تغطي سطح الأرض .

قال الدكتور عبد الله :

– أتدرون يا إخوان ، أشعر أنني على متن طائرة تحلق  فوق سطح الأرض بتضاريسها المتنوعة ، على علو منخفض يسمح لي برؤية  كل التفاصيل  ، لولا أن ما يحيطنا هنا أشد ظلمة ، و لولا أن كشافاتنا لا تغطي إلا مساحات  محدودة .

لا يجيبه أحد فقد بهرتهم جميعا هذه المناظر العجيبة ، و لكن بعد دقائق أجابه الدكتور مجدي :

= و نحلق أيضا فوق البراكين و أنهار اللافا المشتعلة ، نحن نطفئ النار بالماء ، و هنا نار  تنبثق في قلب الماء فلا يطفئها !…

ذلك أنهم  كانوا يرصدون – من حين لآخر – شقوقا بركانية أو فوهات بركانية تنبعث منها الصهيرة الملتهبة ، بثبات و استمرار مشكلة جداولا نارية ، و أحيانا أخرى تنبثق  من الوديان مادة سوداء شبيهة بدخان المصانع تتصاعد لمسافات عالية .

يعلق الدكتور حمود :

–  قرأت ذات مرة لأحد العلماء :” أن الإنسان يعلم عن المريخ أكثر مما يعلم عن المحيطات ”  و ما ترونه يا أعزائي هو توكيد لكلام ذلك العالم .

يعلو صوت الدكتور عبد الله قائلا :

–      نحن الآن على عمق سبعة آلاف متر ، الم تلاحظوا أن الحركة هدأت من حولنا ، أي لا أسماك و لا نباتات ..مجرد صحراء قاحلة .

يجيبه الدكتور مجدي :

= حتى التلال و الهضاب و الوديان تجردت من النباتات و لم يبق ظاهرا غير الصخور بأشكالها الغريبة ..

يعلق الدكتور حمود :

__  حتى الكشافات الضوئية لم تعد تكشف إلا مزيدا من الظلام ..

يردد الدكتور عبد الله :

–        ثمانية آلاف متر …

–        تسعة آلاف متر ..

–        عشرة آلاف متر

يصيح الدكتور حمود فرحا :

__ عشرة آلاف متر ، عمق لم يصل إليه بشر من قبل ، إنه لفتح مبين في دنيا العلوم يا أحبائي ..

أجابه الدكتور هشام :

= الله و أكبر ، مركبتنا لم تتأثر حتى في هذا العمق الكبير ، حيث يوازي الضغط هنا وزن دايناصور فوق صرصور ، إنه فتح مبين في عالم السبائك المعدنية أيها الإخوان ، إننا نرتقي من نصر إلى نصر و من نجاح إلى نجاح ..

ثم التفت إلى الدكتور حمود قائلا و قد تملكته الفرحة :

= أخبر والدك يا حمود بأننا بلغنا هذا العمق غير المسبوق .. أخبره بكل ما شاهدناه فلسوف يبتهج ..و دعه يتصل بأهلنا و يطمئنهم عنا كالعادة و اسأله ما إذا كان لديه رسائل لنا …

بعد  دقائق من حديث د.حمود إلى والده ، التفت إلى زملائه مبشرا :

– لقد دعا والدي من يشاء من عائلاتكم للحضور إلى دبي و النزول في أفخم الفنادق ، على حسابه  الخاص ، و من الفندق سوف يتصلون بكم و تتصلون بهم عن طريق الصوت  و الصورة ..

و لكن  مجدي  و  هشام  قاطعاه  صائحين  في  صوت  واحد : ” يا الله .. ما هذا الذي نراه ؟!!”

أجسام مضيئة تحوم حول المركبة ، تتخذ شكل البشر و لكن بدون ملامح ، فلا عيون و لا أفواه و لا أنوف مجرد أجسام و رؤوس بأحجام متشابهة ..

تتكاثر الآن .. و تقترب أكثر من المركبة

يصيح مجدي بصوت مرتعش :

–      هدئ السرعة يا رياض  ( يا خويا ) ، لنتأكد أننا لسنا نحلم أو نتوهم ..!

يجيبه د.حمود و قد استبد به الفضول :

=  مخلوقات –  أيا كانت –  في  هذا  العمق ؟!! يا  للدهشة .. يا  للعجب .. سبحان  مالك الملك !!!

رد عليه د.عبد الله :

–      قلت لكم في السابق أننا زرنا جمهورية أتلنتيا ، خلال الزمن المفقود ، فظننتموني أتوهم ، و الآن هل نحن جميعا متوهمون ، أم لعل حمى جديدة ، فلنسمها حمى الأعماق ، قد أصابتنا جميعا ؟؟!

انبرى د.هشام للإجابة قائلا :

=  تعاودني من حين لآخر ومضات عن مجتمع شاهدناه و عشنا بين أفراده لفترة ، مجتمع يعيش ضمن منظومة يوتيبية ، مجتمع يشبه جمهورية أفلاطون المثالية التي طالما قرأنا عنها عندما كنا في المدرسة الثانوية ، مجتمع يعيش في الأعماق ؛  فلعلك على صواب يا عبد الله في كل ما ذهبت إليه ، و لكن دماغي حتى الآن غير قادرة على تجميع تلك الومضات .

يعقب الدكتور حمود منبها :

–  دعونا الآن من تجربة الزمن الضائع ، و لنتأمل تجربتنا المدهشة التي نعايشها الآن ، و لكن كيف لنا أن نتواصل مع هذه المخلوقات العجيبة ؟

ثم أضاف في رجاء :

= هل تسجل كل شيء يا أخي عبد الله ؟

ضحك عبد الله ، ثم أجابه :

–      في الزمن الضائع كنت أسجل كل شيء حتى بلوغنا الزمن الضائع ، و لكن يدا خفية مسحت كل ما سجلته كما مسحت كل ما سجلته أدمغتنا ، و إن كنا – على مايبدو – قد بدأنا نسترجع ما سجل فيها !

–      و قبل أن يجيبه هشام صاح مجدي منفعلا هلعا :

= إنهم هنا .. انهم هنا ..إنهم هنا ..

جمدتهم المفاجأة ، فجحظت عيونهم و فغرت أفواههم و تدلت ألسنتهم ، ذلك أن اثنين من تلك المخلوقات المشعة التي لا زالت تحوم حول مركبتهم ، تسربا إلى الداخل ..

بدأ أحدهما يرطن بعدة لغات و مع كل لغة كان لون جبينه يتغير ،  و كأنه يبغي التعرف على لغتهم ، فوفر عليه الدكتور حمود المشقة قائلا بصوت مرتبك : ” نحن عرب ” ، و فجأة تغير لون جبينيهما معا إلى اللون البرتقالي ، و سرعانما نطق أحدهما بلغة عربية فصحى ، و لكن بصوت رفيع هامس ، بالكاد يمكن سماعه :

–      إذًا أنتم عرب ؟؟!! و ماذا أتى بكم إلى هذه الأعماق التي لم يسبقكم إليها أحد ، يا عرب ؟

= نحن مجموعة من العلماء العرب ، في رحلة استكشافية  .

أجابه الدكتور حمود ، الذي فوجئ و الآخرين بهما يضحكان ، مما استفز الدكتور هشام ، فصاح بهما غاضبا :

= و ما المضحك في الأمر ؟ هل أصبح العرب مادة للسخرية حتى لغير البشر ؟ و لكنكما حتى الآن لم تخبرانا من أنتما ، و بأي حق دخلتما هنا دون استئذان ، و كيف اقتحمتما مركبتنا و تسللتما إليها ؟

اعتذرا بصوت واحد ، ثم أضاف أحدهما قائلا :

–      دوما أنتم سريعو الغضب يا عرب ، نحن لم نكن نسخر و لكننا كنا نبدي استغرابنا ، فنحن نعلم أن العرب دخلوا عصر الظلمات منذ انهيار الخلافة العباسية  في المشرق و الأموية في الأندلس …أي منذ تحررت أوربا من عصر الظلمات !

أجابه الدكتور عبد الله بمزيج من الهدوء و الدهشة :

= أنتم تعرفون تاريخنا أيضا ؟ و لكن لك الحق فيما ذهبت إليه … إلا أن الأمور تتبدل ، فهناك الكثير الكثير من العلماء العرب من جميع التخصصات ، منتشرين في كل مكان فوق المعمورة ، للأسف لم يجمعهم جامع في جهد عربي مشترك ، و  لعلنا قد ابتدأنا – نحن – مسيرة علمية عربية من جديد ، كما ترى .

تناول الدكتور حمود الحديث مجددا قائلا بجدية و حزم :

– لم تجبانا حتى الآن على تساؤلاتنا ؛ من أنتما و هؤلاء المحيطين بالمركبة من كل صوب ، و كيف اخترقتما دروع المركبة التي لم يخترقها الضغط الهائل أو الماء المحيط ،  كيف  دخلتما إلينا ، و كبف تعيشون في عمق أحد عشر ألف مترا ….

–      نحن من أسميتمونا بالجن ، و أسمانا الآخرون بالأشباح ، و غيرهم بالأرواح الهائمة ، نحن مخلوقات من ” المادة المعتمة ! ” .

و أكمل زميله قائلا :

= كنا – و لا زال بعضنا –  نتجول على سطح الأرض دون أن يرانا أحد فنحن غير مرئيين فوق السطح ، و لكننا هنا في الأعماق السحيقة ، و تحت ظروف الضغط الهائل ، فإن قدرتنا على التخفي تزول .

يلتفت الدكتور هشام إلى الدكتور عبد الله  سائلا :

–      هل سمعت أو قرأت عن المادة المعتمة ؟

يجيبه :

= في السنوات الأخيرة بدأ العلماء يتحدثون عنها و يحاولون اكتشاف كنهها ، و قرأت مؤخرا أنها تشكل النسيج الجامع غير المرئي لمجرات الفضاء ، و أن %90 من المادة الموجودة في مجرة نموذجية هي مادة غير مرئية ؛ هذا كل ما أعرفه .

يتجاهل  أحد المخلوقين الحوار  الدائر بين الدكتور عبد الله و الدكتور هشام ، ليستأنف حديثه قائلا :

– نحن نعيش في مملكة كبيرة و نتكاثر بطريقة التناسخ ، يستطيع الواحد منا أن يصدر نسخة عنه كل ثلاثة أعوام ، و  لكننا لا نحتاج إلى الغذاء مثلكم و  بالتالي نحن لا نتصارع من أجل الغذاء و الماء العذب كما تفعلون ، فغذاؤنا نستخلصه من أحد أنواع الأملاح و لسنا بحاجة للماء العذب ، أما هواؤنا فنستخرجه من ماء المحيط ، و كلاهما – الملح و الماء – عنصران متوفران بكثرة كما ترون ..

أجابه الدكتور مجدي و قد بدا عليه الإنفعال :

–      إذاً ، فالأساطير التي حيكت عن الجن و الأشباح ، ليست مجرد أساطير و أوهام .

= كلها ، لها أساس من الصحة و لكن البشر يميلون إلى المبالغة فيما يشاهدونه و ينسجون حوله من بنات أفكارهم ،

أجابه أحدهما ، ثم أضاف :

=  كنا نظهر في الغالب لمساعدة الناس المحتاجين في أزماتهم الحادة ، فكان يصدق تجاربهم البسطاء منهم ، و يكذبها من يدعون أنهم أكثر ذكاء ، و كثيرا ما كانوا يتهمون ذوي التجربة  بالهلوسة أو الجنون أو ممارسة السحر أو محالفة الشيطان..و كلها أقاويل ظالمة لا أساس لها ..

يضيف المخلوق الآخر :

= كنا نظهر أحيانا  لمداعبة إنسان يائس لنشفيه من يأسه ، أو رجل مصاب بمرض الخوف لنحرره من خوفه .

يصمت الجميع و كأن على رؤوسهم الطير ، ثم يرفع الدكتور هشام رأسه و قد استبد به الفضول ، ليسأل الزائرين :

–      و ماذا عن التقمص في أجساد  بعض المدعين ؟

ضحكا معا ، و لكن سرعانما عقب أحدهما :

=  عفوك ، نحن لا نسخر منك أو من سؤالك ، بل كان سؤالك مفاجئا ، و إجابته فيها بعض طرافة ؛ في حقيقة الأمر فإن بعضنا يشعر بميل كبير لإنسان ما أو يجتذبه مجاله المغناطيسي – أنتم تعلمون طبعا أن لكل إنسان مجاله المغناطيسي –  فإذا   بقي  أحدنا فوق السطح مدة طويلة قد يتفاعل عاطفيا مع مجموعة بشرية أو فرد بشري ، أو ربما يدفعه الفضول الشديد ليعرف عن البشر أكثر ، فيتقمص أحدهم ليتعرف على أسلوب حياته و طريقة تفكيره ، و هناك الكثير من حالات التقمص كانت تساعد البعض و تجعل حياتهم أكثر إشراقا و يسرا .

يسأله الدكتور  حمود :

–      كيف تتعرفون على بعضكم بعضا  و أنتم متشابهون ؟ هل لديكم أسماء مثلا ؟ ، فأنا لم أستطع حتى الآن التمييز بينكما !

يجيبه أحدهما :

= كل منا لديه علامة مميزة على صدره ، اقترب مني قليلا فستجد فوق صدري بقعة صغيرة بلون مغاير ، فكل منا لديه لونه الخاص  فهو اسمه و علامته الفارقة ، فأنا إسمي ( ميمون ) و لون علامتي أخضر مصفر ، و إن كل من يحمل هذا اللون في المملكة  فإسمه  ميمون  ، و أنا بالمناسبة أحد مستشاري ملك المملكة المعتمة ؛ أما زميلي فإسمه ( زينون ) و تميزه  البقعة الوردية و كل من يحمل البقعة الوردية إسمه زينون ، و زميلي هذا هو وزير العمران في المملكة .

يسأله الدكتور رياض :

–      ألاحظ أنكما تستخدمان كلمة كنا و كنا ، هل تعنيان ، أن شعبكم  أقلع عن زيارة سطح الأرض و ما عليها من بشر ؟

يجيبه ( زينون ) :

= منذ أن بدأ الإنسان بتجارب السلاح النووي و استخدامه في اليابان علنا و في مناطق أخرى سرا ، و منذ حرصت بعض الدول على تخزينه و التهديد به ، و منذ أن تكاثرت المفاعلات النووية لصناعة القنابل النووية أو لتوليد الطاقة ، أو تسيير مركبات بحرية باستخدامها ، تكاثرت في الجو الإشعاعات ، التي أخذت تضر بنا و تحد من تكاثرنا ، فآثرنا  العزلة في الأعماق لتجنب هذا الخطر الوبيل ، و مع ذلك فإن بعضنا لا زال يجازف بالذهاب إلى السطح لسبب أو لآخر ليفقد بالتالي قدرته على الاستنساخ ، و لكن أصبح نادرا ما يحدث ذلك .

بعد أن اطمأن الجميع إلى سلامة نية ميمون و زينون ، و أنهما من علية هذه المخلوقات ،  بدؤوا يتداولون معهما  حول بعض الأحداث الأسطورية و تفسيراتها ؛ و فجأة تذكر الدكتور مجدي أمرا هاما ، فقطع النقاش سائلا :

–  حدثتمونا عن  ماهيتكم و عن أسلوب حياتكم و لكن لم تخبرونا ما إذا كنتم تتعرضون للموت مثلنا أم أنكم خالدون ؟

يجيبه زينون :

= يعيش واحدنا حوالي ثلاثة آلاف سنة ، ثم يختفي ، و نعتقد أنه مع أرواح البشر التي هي أيضا من المادة المعتمة ، تسافر عبر الثقوب السوداء أو ما تسمونه بالبرزخ إلى عالم آخر ، تسوده المحبة و السلام .

يصمت الجميع مفكرين بهذه المعلومات التي تفسر الكثير ، و لكن الدكتور رياض لا يلبث أن يطرح  سؤالا آخر :

– هذا يعني أن الروح حقيقة  مؤكدة !

يجيبه :

= طبعا هي حقيقة ، و أبسط برهان على ذلك ، أن ملايين من خلايا المخ تموت يوميا ، و لكن وعي الإنسان يظل كما هو ، فالوعي هو الروح .

يسأله الدكتور رياض :

– و ماذا عن قدرتكم على التحول ؟ كما تتداولها الساطير ؟!

و لدهشتهم الكبيرة ، تصدى ميمون للإجابة عمليا ، فتحول إلى حصان عربي أصيل ، ثم إلى قط شيرازي جميل ، ثم إلى فأر أبيض من فئران التجارب ، ثم إلى فتاة في ريعان الصبا و أوج الجمال ، ثم عاد كما كان ..

كان ذهول الأصدقاء العلماء كبيرا لدى رؤيتهم ميمون يتحول من شكل إلى آخر ، و كان ذهولهم أكبر عندما تولى زينون قيادة المركبة ، متجها بهم نحو المملكة ، في رحلة سياحية إستكشافية لم يكونوا ليحلموا بمثلها ..

بعد الولوج في نفق طويل يزيد طوله عن المائة كيلومتر ، التفت ميمون إليهم قائلا :

–      لن تتمكن مركبتكم من المضي قدما فبقية النفق أضيق من أن يتسع لها ، و لا بد لكم من الخروج منها .

يجيبه الدكتور هشام :

= هذا مستحيل يا  أخي ميمون ، فإن أجسامنا لن تحتمل الضغط الهائل ، و بمجرد أن نفتح باب المركبة العلوي ، فإن كل شيء بما فيه المركبة و أجسادنا  ، ستنفجر و تتناثر أشلاء ..

يضحك ميمون و يقهقه زينون ثم كالعادة يعتذران مبررين ضحكهما ؛ فيقول ميمون :

–      و من قال أننا سنترككم لهذه النهاية المأسوية ؟؟

سنحيط مركبتكم بفقاعة من المادة المعتمة ، و عندما تكتمل الفقاعة حول المركبة ، يمكنكم حينئذ ، فتح الباب العلوي و الخروج من المركبة .  و فوق سطح المركبة سنحيط كل منكم بفقاعة من المادة المعتمة ذاتها  تناسب حجمه  ، و عندئذ يمكنكم التحرك داخل المملكة بحرية ، و يسرني أن أظل مرشدكم السياحي .

الفصل السادس

تجرأ الدكتور رياض ، ففتح بوابة المركبة بيد مرتجفة ، و لذهوله الشديد ، سار كل شيئ كما أخبرهم به ميمون ، لم يندفع ماء المحيط و لم تتفجر المركبة فكأنها  فوق السطح ، لم ير اي اثر للفقاعة و لكنها بالتأكيد موجودة بدلالة خروجه من المركبة دون حدوث أي مكروه .

و تجرأ الآخرون ، فخرجوا الواحد إثر الآخر ، ثم قام الدكنور رياض بإغلاق الفتحة ، تولى ميمون إحاطة كل من الدكتور عبد الله و الدكتور حمود و الدكتور هشام بفقاعة من المادة المعتمة غير المرئية و فعل نفس الشيء زينون لكل من الدكتور مجدي و الدكتور رياض . و بلا أدنى وجل أو تردد تبعوا جميعا ميمون مطمئنين واثقين .

تحرك ميمون في المقدمة فتحركوا وراءه ، شعروا كأنهم طيور تحلق بكل يسر ؛ كان النفق الذي بدؤوا يخترقونه ضيقا للغاية ، و لكنه كان واضحا تحيطه من جميع الجوانب نتوءات ملونة بدت و كأنها زخارف ، و لكنه كان أيضا طويلا و متعرجا ، و ما أن أتموا اختراقه حتى ظهرت أمام أعينهم ما يشبه مدينة كبيرة تعج بالمخلوقات المشعة من فوقهم و تحتهم و من جوانبهم ، ثم  بدا  لهم ما يشبه البيوت ، و لكنها صغيرة جدا ، مبنية كلها من هياكل مرجانية ملونة ، ثم لفتت أنظارهم بضع أبنية عالية نسبيا تراءت لهم و كأنها قصور أو قلاع  أوربية من عصر القرون الوسطى ، ثم ما لبث ميمون و من ورائه زينون أن دخلا أكبرها فدخلوا وراءهما .

كان الملك يتصدر قاعة كبرى و كان يتميز بلونه الأزرق و من حوله عدد قليل ممن بدوا أنهم من العائلة المالكة فذلك لأنهم  يشعون جميعا بلون أزرق جميل ، إضافة إلى عدد آخر من المخلوقات العادية من أمثال ميمون و زينون .

رحب بهم جلالته ، و ضحك ملء شدقيه عندما علم أنهم علماء عرب ، و لكنه توقف عن الضحك عندما اقترب منه ميمون و خاطبه بلغة غير مفهومة .

ثم نطق جلالته قائلا بترو و بصوت بدا أوضح من صوتي ميمون و زينون :

–      أخبرنا مستشارنا أنكم في رحلة إستكشافية ، و إننا نقدر لكم هذه الجرأة غير المسبوقة من البشر ، كما نقدر علومكم  الوفيرة التي أهلتكم لهذا الإنجاز العظيم ، و سنكلف في الحال فريقا من كبار علمائنا للإجابة على كل ما ستطرحونه من أسئلة علمية تهمكم و  سيكونون خير معين لكم ، فإن جرأتكم العلمية هذه تستحق منا كل عون .

و لكن : ” و لكن هل أعجبتكم مملكتنا ؟ ” استدرك قائلا ، فتطوع الدكتور حمود للإجابة :

=  نعم يا جلالة الملك ، إنها جميلة و لكن ما لفت نظري و ربما نظر إخواني ، أن البيوت صغيرة جدا مقارنة ببيوتنا .

فتصدى لإجابته زينون وزير العمران قائلا :

–      ليس لدينا عائلات و أطفال مثلكم ، و لا  نقضي في بيوتنا مددا طوية كما تفعلون ، نحن نلجأ إلى بيوتنا للراحة مرة كل أسبوع حيث نقضي فيها بضع ساعات من التأمل ، فنحن – أيضا – لا ننام ، أو نلجأ إليها من أجل الإستنساخ مرة كل ثلاث سنوات حيث يقضي  فيها واحدنا – عندئذ – حوالي اسبوع ؛ فكما ترى لسنا بحاجة للبيوت الكبيرة ..

يسأله الدكتور عبد الله :

=  هل لديكم حكومة و مجلس شعب أو أحزاب سياسية أو اي نوع من التشكيلات السياسية ؟

يجيبه جلالته :

–      لاحاجة بنا إلى أحزاب و نرفض كل تشرذم أيا كان نوعه ، فما شوَّه حياتكم أيها البشريون غير التشرذم ، فكل فرد من شعبنا يحق له أن يتقدم بمطالبه في أي وقت ، ثم يقوم الوزير المسؤول أو أحد أعوانه بتنفيذها على الفور إذا كانت معقولة ، اما بالنسبة للتشكيلات التي  تسمونها  بالحكومة ، فهي ثلاثا لا غير : مجلس العلماء برئاسة وزير العلوم ، و مجلس العمران ويرأسه وزير العمران و هو للقرن الحالي صديقكم  زينون ، و مجلس الأطباء برئاسة وزير الشؤون الصحية ؛ و كل منها لديه الصلاحيات المطلقة ، و لا يرجعون إليّ إلا عند الحاجة الماسة .

يسأله الدكتور هشام و لكنني ألاحظ يا جلالة الملك ، أن جسدك يشع باللون الأزرق و هو مختلف عن الآخرين !

يجيبه : ” سأترك الرد لميمون ” فيقترب هذا منهم و يبدأ بالرد على السؤال :

– في طفرة تطويرية يتميز بعضنا  بقدرات عقلية فائقة ، فيتحول لونهم إلى الأزرق ، و من مجلس هؤلاء يخرج الملك ! أما الآخرون فيترأسون المجالس العلمية كمجلس الأطباء مثلا …

ثم أشار جلالته إلى أحدهم ، فتقدم من العرش ، ثم استدار نحو العلماء العرب قائلا :

–  لم نكن بحاجة إلى الأطباء أو لمجلس الأطباء حتى قبل حوالي سبعين سنة ، اي عندما بدأ البشر يجرون تجاربهم على القنابل النووية ، فمنذ أول تجربة بدأ من كان متواجدا على السطح منا يشكون من بعض الأعراض كالاضطراب العام و عدم القدرة على الإستنساخ ، ثم تضاعفت المشكلة عندما ظهرت الهواتف اللاسلكية فالهواتف الجوالة التي انتشرت كالنار في الهشيم في القرن الحالي ، فأحدثت اضطرابات مغناطيسية كبرى ، لهذا ظهرت الحاجة إلى الأطباء .

قاطعه الدكتور حمود  متسائلا :

= ألم تقولوا أن خروجكم إلى السطح بات نادرا ؟

– علماؤنا مضطرون للتواجد ، و قد راينا أن تكون مدة تواجدهم قصيرة ، و هناك بعض منا يحب المغامرة و المخاطرة مهما كلفه ذلك ، و نحن لا نمنع أحدا و نكتفي بالنصح .

تذكر ميمون مستشار الملك أمرا فتقدم من جلالته هامسا ، الذي التفت إليهم قائلا :

–      بالتأكيد أنتم جوعى و بحاجة إلى الطعام ، سأعطي أوامري في الحال إلى وزير العلوم ليتدبر الأمر لكم .

ثم اضاف  متسائلا :

–      ما هي تخصصاتكم العلمية ؟

أجابه الدكتور حمود :

= أخي الدكتور عبد الله إختصاص برمجة حاسوب و هندسة ألكترونية ، أخي الدكتور هشام إختصاس معادن و سبائك معدنية و بفضله و فضل أخي الدكتور رياض  المختص بالميكانيك و المحركات الثقيلة نحن هنا ، أما أخي الدكتور مجدي فهو إختصاص جيولوجيا و طبقات الأرض إضافة إلى علم الزلازل و البراكين ؛ أما  أنا  فاختصاصي كيمياء  فرع النفط  و الصناعات النفطية .

يجيبه جلالته ، و هو يهز برأسه إعجابا :

– هذا شيئ عظيم يا عرب ، أن تحملوا مثل هذه التخصصات و أن تتفقوا معا في خدمة العلم على هذا النحو ، مع أننا نعلم أن عربيين لا يمكن أن يتفقا ، و أن عشقكم للزعامة يدمر عقلكم الجمعي ؛ و برأيي أن البشر لن ينقذهم من نزعتهم العدوانية و ما تجره عليهم من ويلات غير العلم النظيف ، أي العلم الذي لا يشمل اختراع أو تطوير الأسلحة بجميع أشكالها و على الأخص أسلحة الدمار الشامل  .

و سأضع تحت تصرفكم وزير العلوم ليقدم إليكم ما تشاؤون من مساعدة ضمن اختصاصاتكم ، و التي ستوفر عليكم الكثير من العناء .

بعد تناولهم لطعام شهي أعدوه  لهم مما لذ و طاب من مأكولات بحرية ، و بعدما أدخلهم إلى قاعة بدا أنها مخصصة للبحوث العلمية ، قال لهم وزير العلوم (جِمنا ) و هو على ما يبدو من لونه الأزرق من العائلة المالكة  :

–      في هذا المكان نرصد و نسجل كل ما يجري فوق سطح الأرض ، و هناك قاعة ثانية لتتبع ما يجري  في أعماقها ، و قاعة ثالثة لرصد الكون ، و في كل منها عشرات العلماء و الخبراء – كما ترون هنا مثلا – مستخدمين مئات الأجهزة العلمية ، و نحن متقدمون عنكم علميا ، و لكننا لا ننكر أننا نستفيد من بحوثكم و اكتشافاتكم العلمية ثم نطورها ، فنحن – عل سبيل المثال لا الحصر – نستخدم مرصد (سييرا باشون) المقام حديثا في شمال جمهورية التشيلي منذ إنشائه ، و قد أضفنا إلى تجهيزاته أجهزة مصنوعة من المادة المعتمة ، و كنا  قبل  عقود نستخدم  مرصد ( بانومار قرب مدينة إسكنديدو ) جنوب كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية ، بحيث لا يرانا أو يرى أجهزتنا أحد ، ذلك لأن  الرصد من عمق أحد عشر كيلومتر متعذر ، نحن نتلقى المعطيات من علمائنا فوق السطح و نحللها هنا .

بُهِت الأصدقاء العلماء لما سمعوه ، و تمكن الدكتور عبد الله من تجاوز دهشته فسأله :

= هل تقصد أن لديكم تسجيلات عن السطح منذ وُجِد الإنسان ، مثلا ؟

يجيبه جِمنا :

–      امسكوا أعصابكم و التفتوا إلى الوراء :

يلتفتون ،

يضطرب الماء قبالتهم قليلا ،

ثم يتشكل فجأة أمام أعينهم ما يشبه شاشة سينمائية بانورامية ،

ثَمَتَ ما بدا أنها سفينة فضائية ضخمة تهبط على السطح ،

تتوقف مثيرة غبارا كثيفاِ ،

يهدأ الغبار ،

تُفتح من أحد جنباتها بوابة كبيرة  ؛

يخرج منها أعداد كبيرة من المخلوقات الشبيهة بالبشر ، ذكورا و إناثا و أطفالا ، من مختلف المقاسات ، شقر الشعر ،  حفاة عراة ،  و قد كسا الشعر الأشقر معظم  أجسادهم ،

ثم يصدر من المركبة شعاع يغمرهم جميعا ،

ثم ينغلق الباب لتنطلق المركبة صعودا نحو الفضاء .

قال جِمنا موضحا :

–      إنهم منفيون من كوكب  بعيد في أقصى مجرة اللبانة ، نسميه الكوكب رقم 18300  ، فقد دأبت الكواكب المتحضرة على نفي  كل من  يجدون لديه نزعة تمردية أو عدوانية ، يجمعونهم في معسكرات ، ثم يطلقونهم إلى كواكب ليست مأهولة ، كما كان حال الأرض ، يمحون ذاكراتهم بنوع من الإشعاع كالذي رايتموه ،  ثم يتركونهم لمصيرهم .

فالأرض أحد كواكب المنفيين من الكواكب الأرقى ، أما المكان الذي نزلوا فيه فهو الجزيرة التي تسمونها  صقيلية ، و قد أسمى سلالتهم بعض علمائكم بالإنسان النيندرتالي.

يسأله الدكتور حمود :

= هل ما شاهدناه هو أول موجة من المنفيين مثلا ؟

يجيبه جِمنا :

– كلا ، بل عرضت لكم إحدى هذه الموجات ، فقد نفي إلى الأرض مجموعة من الكوكب رقم 4222 و هم يمتازون بلون بشرة باذنجانية و شفاه غليظة و شعور مجعدة و قد هبطوا أول مرة في كينيا بأفريقيا ، و أخرى من الكوكب رقم 1402 و لون جلودهم باهت و عيونهم صغيرة و قد نزلوا في وسط الصين ، و هذه مجرد أمثلة ، ذلك أن بعضهم يشبه الإنسان الحالي أما غيرهم فكان إلى القرود أقرب .

يسأله الدكتور رياض :

= تقول أن الأرض كانت غير مأهولة ، بينما تعلمنا أن الأرض كانت مسكونة بالحيوانات الضخمة التي نسميها دايناصورات ،  قبل ظهور الإنسان .

يجيبه جِمنا :

–        أنا لم أقل خاوية بل عنيت أنها غير مأهولة بالمخلوقات البشرية .

 

الفصل السابع

بعد أن شاهدوا- و قد عقدت الدهشة ألسنتهم – الموجات الأولى من أشباه البشر المهجرين المنفيين من أقاصي المجرة ،  تساءل الدكتور هشام :

–      ترى هل تعلم ما إذا كان المنفيون قد تمكنوا من العيش مع الحيوانات العملاقة التي نسميها الدينصورات ؟

أجابه جِمنا :

= قبل عمليات تهجير المنفيين من كواكب مجرة درب اللبان الأخرى ، تلك الموجات التي شهدتها الكرة الأرضية ، قدمت إلى الأرض مركبات من الفضاء البعيد و نظفتها من الحيوانات العملاقة ، أعني سلطت عليها موجات شعاعية خاصة قزمتها ، فما الحرابي و الحرادين و العظايا و الضباء و الإغوانات و الثعابين  و الطيور الكاسرة كالنسور و الصقور التي تملأ الأرض حاليا ، إلا أحفاد مقزمة لتلك الدينصورات ، و مع ذلك فقد بقي بعضها في بعض المناطق النائية ردحا آخر من الزمن تشارك الإنسان أو اشباهه العيش في الغابات أو على ضفاف الأنهار و البحيرات ،  بل لا زال بعضها موجودا حتى اليوم ، و لكن خشيتها من أسلحة البشر الفتاكة جعلتها تهاجر إلى كهوف في أعماق الأرض أو أعماق بعض البحار و البحيرات ، و هذا ما خلق الأساطير التي  تتداولها حكاياتكم التي تسمونها بالخرافية ، كخرافة التنين الذي ينفث نارا ، هو في حقيقته ثعبان عملاق يخرج من فمه بخار كثيف كما يخرج من أفواهكم أيام برد الشتاء فظنوا البخار دخانا ، و طائر الرخ الذي ورد في مسلسل حكايات ألف ليلة و ليلة ، إن هو إلا نسر عملاق ، كان ينقض على أطفال البشر و يختطفهم ليغذي بهم فراخه ، و الكينغ كنغ إن هو إلا غوريلا عملاقة عاشت آلاف السنين في أفريقيا و الأمازون قبل أن تتقزم ، و هكذا …

يجيبة الدكتور هشام :

–      هذا يعني أن لكل أسطورة أساسها من الحقيقة ! أليس كذلك ؟

= صدقت

أجابه جِمنا ثم أضاف :

بعد أن اخترع البشر الأسلحة اختفى أشباه البشر ، و من هنا بدأت محنة الإنسانية الحقيقية ، اخترعوا السلاح  بداية لاصطياد الحيوانات الضعيفة و استطعامها ، أو للدفاع عن أنفسهم تجاه هجمات الحيوانات المفترسة القوية ، ثم بدؤوا يستخدمونه ضد النينترداليين ، ثم ضد بعضهم بعضا ، فتعلموا  تنظيم الغزوات  التي طوروها  فيما بعد إلى حروب .

فتاريخكم أيها البشر سلسلة من الحروب ارتكبتها أياديكم الآثمة ؛ شاهدوا معي :

انتصبت الشاشة المائية العملاقة و بعد بعض التشوش ظهرت قرية بنيت بيوتها من أغصان الأشجار و أوراقها ، و ثمت أطفال يلعبون في ساحتها ، و نساء  يشوين غزالا تم اصطياده مؤخرا ، و رجال يتسامرون في حلقات ، و كلهم رجالا و نساء و أطفالا عراة كما ولدتهم أمهاتهم ؛ و على حين غرة ، ينقض شبان من مكان آخر على القرية من عدة جهات ،  يحملون ما يشبه رماحا صنعت من أغصان الأشجار و قدت رؤوسها من الحجارة المنحوتة التي ربطت إليها بخيوط من لحاء الشجر ؛ فيفاجئون أهل القرية الآمنين ، يقتلون الرجال ثم يسوقون النساء و الأطفال كما تساق السائمة .

و في لقطة ثانية ، يظهر جيشان متقابلان في صفين طويلين قادة جند أحد الجيشين يعتمرون خوذا صنعت من جلود الحيوانات و ظهر منها ما يشبه القرون و أحاطوا صدورهم و ظهورهم بدروع جلدية ، و تصحبهم  كثرة من الخيول المطهمة ، يبنما تميز جند الجيش المقابل بخوذهم المعدنية اللامعة و دروعهم المعدنية .

تجري هنا و هناك على طول المجابهة ، مصارعات زوجية  بين جنود من هؤلاء و آخرين من اؤلئك ، ثم يلتحم الجيشان في قتال شرس تتطاير فيه الرؤوس و الأيدي و الأرجل و تجري الدماء في جداول ، و تدوم المعركة طويلا ليبدأ ذوو الخوذ المعدنية بالفرار بعد أن خلفوا وراءهم عشرات القتلى و مئات الجرحى ، ثم يظهر قائد الجيش المنتصر و قد رُفع على الأكتاف ، بينما أخذت جموع ذوي القرون تهتف و تهزج بأهازيج النصر .

يقول جِمنا :

= هذا الذي ترونه فوق الأكتاف هو الإسكندر المقدوني الملقب بذي القرنين ، و الذي  غزا بجيشه نصف العالم القديم ، لغاية واحدة هي استعباد الآخرين و نهب ثرواتهم .

و في لقطة ثالثة : يظهر جيشان متقابلان على طول ضفاف نهر طويل متعرج تميز جند أحد الجيشين باثواب خفيفة قصيرة و قطع من القماش تلتف حول رؤوسهم أغلبها أبيض اللون ، و نعال تجعلهم إلى الحفاة أقرب ،  يستخدمون الجمال بكثرة إضافة إلى الخيول ؛ و في المقابل كان جند  الجيش الآخر  مدججين بالسلاح ، يعتمرون الخوذ المعدنية التي تلمع كآلاف الأضواء عاكسة نور الشمس ، و قد تدرعوا أيضا بدروع معدنية ، و ربطت كل مجموعة منهم بالسلاسل ، و هم يستخدمون الخيول و العربات الخفيفة التي يجر كل منها حصان واحد ، و يعتليها جندي واحد مسلح برمح طويل .

و  يلتحم الجيشان من ثم  في قتال شرس ، تميز بخفة حركة الجنود غير المدرعين ، و بثبات الجنود المجنزرين رغم وقوع عدد كبير منهم بين قتيل و جريح ، و في الأكمات الخلفية للجيش الأبيض ، تظهر نساء يشبهن البدويات العربيات المعاصرات ، يحملن عصيا و أعمدة  الخيام ، فيهاجمن بها كل جندي منهم يحاول الفرار ، و يدفعنه للعودة إلى القتال ، بينما تصيح الأخريات منشدات أهازيج تشجيعية ، و تستمر المعركة شرسة حتى غياب الشمس ، عندما يبدأ الآخرون مولين الأدبار .

يسألهم جِمنا :

= هل منكم من خمن اسم المعركة و ما هي هوية المتحاربين ؟

فتصدى للإجابة الدكتور رياض :

– أعتقد أنها معركة اليرموك بين العرب و الروم البيزنطيين .

و في لقطة رابعة :

تظهر قاعة كبيرة مزدانة بالزخارف العربية و ستائر الديباج و مطارح و مساند  الموصلي و الأغباني و غطيت نوافذها بستائر من الحرير الطبيعي الملون ، و في القاعة التي اعتقدوا أنها قاعة العرش ، جلس ما بدا  أنهم من كبار الحاشية و القادة و الوجهاء ، بينما تصدر القاعة ما بُظن  أنه ملك أو ربما خليفة ، فقد اعتمر قلنسوة من الأغباني توسطتها ماسة كبيرة  .

يتقدم منه أحد قواد الجيش ، ظهر ذلك من ارتدائه لعدة القتال ، ليقول له : ” مولاي ! جيوش المغول تتقدم و قد اجتازت قبل قليل السور الشرقي للمدينة ، و مدينتنا بغداد سوف تسقط بين لحظة و أخرى ” فيجيبه الأمير أو الخليفة : “استرضوه ، أرسلوا له الهدايا و الأموال ، و قولوا له أن يأخذ ما يشاء و لكن فليتركني و قصري !!!! ” .

ثم  يظهر جند المغول و هم يجتاحون بغداد فيفتكون بكل من يشاهدونه في طرقاتها و حواريها من بشر و حيوان ، ثم يهاجمون قصورها و مدارسها و مساجدها و مكتباتها و وراقيها ، فينهبون ما فيها من ذهب و فضة و نفائس عمرت بها ، فحتى قباب المساجد المذهبة قطعوها و تقاسموها ، ثم  ألقوا ما صادفوه من كتب و مجلدات جمعت على مدار خمسة قرون ، في نهر دجلة الذي تحول ماؤه إلى اللون الأسود ، و تراكمت قراطيس جلد الغزال في النهر و التي كانت تستخدم بدل الورق ، حتى أصبحت  كجزر متناثرة  في وسط و أطراف النهر ، أما  أغرب مشهد فكان استخدام المجلدات العلمية في بناء معسكر لهم بدل الطوب ، في أكبر ساحات وسط بغداد .

ثم يدخل هولاكو و قواده و ثلة من أعتى جنوده قصر الخليفة ، و بعد أن أرشدهم الخليفة أو الأمير – صاغرا – إلى أماكن ثروته الشخصية و ثروة المدينة ، فتكوا به و بقواده و من تجمع  حوله من حاشيته ، ثم التفتوا إلى الحرملك فأخذوا يفتكون  بالنساء و الأطفال ، فذبحوهم ذبح النعاج .

ثم التفت جِمنا إلى مجموعة العلماء قائلا :

إنه آخر الخلفاء العباسيين الملقب بالمستعصم ، و ما شاهدتموه هو سقوط بغداد في أيدي المغول بقيادة هولاكو شقيق ملكهم .

تدمع عيون الدكتور عبد الله  و الكتور هشام ، بينما يهز الآخرون رؤوسهم يمنة و يسرة حزنا و أسى ..

يسألهم جِمنا : ” هل أنتم على استعداد لمشاهدة المزيد ؟ ” ، فيهزون برؤوسهم علامة الموافقة

تظهر امامهم مدينة بغداد ، كمدينة عصرية عملاقة بمبانيها الحديثة و ساحاتها الملأى بالنصب التذكارية و حدائقها الغناء ، عرفوها من الأعلام العراقية المرفرفة فوق أكبر مبانيها ، و قد امتدت على ضفتي دجلة ؛ الدخان الأسود يتصاعد من محيط المدينة ، و طلقات مدفعية و صاروخية تنطلق في الجو محاولة تفجير الصواريخ الذكية الأمريكية قبل بلوغها أهدافها ، و  قد  خلت الشوارع من الناس فالتجؤوا إلى أقبية منازلهم ..

ثم يتحول المشهد إلى مطار بغداد و قد امتلأ بالطائرات الأمريكية العملاقة ، عرفوها من شعار النجمة الخماسية المرسوم على أجنحتها و جذوعها ، أخذت تلفظ ما أجوافها من تجهيزات عسكرية ضخمة ؛ مئات الدبابات و المجنزرات أخذت تحتشد ، و مئات حاملات الجنود ، و مختلف أنواع الشاحنات ، بينما حلقت في الجو عشرات الحوامات و من فوقها عشرات الطائرات الحربية لحمايتها .

ثم يتحول المشهد إلى جهة لا تبعد كثيرا ، حيث انطلقت عشرات الدبابات نافثة دخانها الأسود من عوادمها ، و قد رفعت كل منها العلم العراقي و عليه عبارة الله و أكبر ، و اندفعت متجهة نحو المطار من خلال عدة طرق رئيسية و مسارب ترابية .

و فجأة تلمع فوقها كتلة هائلة من نور شديد السطوع ، تلحقها كتلة ثانية ثم ثالثة  ؛ ثم يتكشف المشهد عن دمار رهيب شمل الدبابات و العربات جميعا بلا استثناء ، و ظهر  فوق الطرقات ما يشبه ظلالا بشرية ، هي بقايا جنود حاولوا الفرار من مركباتهم  فانصهروا  مع  الإسفلت صهرا ..

و يعلق جِمنا قائلا : ” إنه اليورانيم المخضب ! أو ما يسمونه القنابل النووية النظيفة !!!! ”

ثم ينتقل المشهد إلى داخل المدينة  ،  فثمت عشرات من رجال ملثمين يحملون رشيشات خفيفة و مدججين بالقنابل اليدوية ، تنطلق على شكل شراذم في شوارع بغداد ، فيفتك أفرادها بكل من يشاهدونه في طريقهم من بشر و حيوان ، ثم يهاجمون قصور المدينة و مدارسها و جامعاتها و مساجدها و مستشفياتها و مكتباتها و متاحفها ، فينهبون و يحرقون و يقتلون ، بينما كان آخرون يبحثون عن العلماء و أساتذة الجامعات ، مسترشدين بقوائم سجل عليها أسماء و عناوين  هؤلاء ، فيقتحمون بيوتهم و يذبحونهم و عائلاتهم ذبح النعاج ..

 

الفصل الثامن

يعلق الدكتور عبد الله و قد تملكه الحزن :

–      نفس المدينة يتم غزوها بنفس الأسلوب الوحشي بفارق زمني قدره حوالي ثمانية قرون ، و  هذا ما يؤكد النظرية التي تقول ” أن التاريخ يعيد نفسه ” .

ثم يوجه سؤاله لجِمنا :

–      ما هي ابشع الحروب البشرية برأيك ، و ما هي أفظع المجازر ؟

يجيبه جِمنا على الفور :

= إنها الحرب العالمية الثانية و التي كانت حصيلتها ست ملايين قتيل و أضعاف ذلك من الجرحى و المعوقين عدا الدمار الذي لحق بعشرات المدن و البلدات و القرى عبر العالم ، أما أبشع مجزرة فهي مجزرة هيروشيما التي احترق فيها خلال عشر دقائق أكثر من سبعين ألف نسمة قتلوا في الحال بينما أصيب أضعافهم بالحروق و المضاعفات الإشعاعية .

ثم أضاف بصوت أعلى و بتوكيد على كل كلمة :

= و الأدهى و الذي لم ينتبه إليه أحد من علمائكم أن الكرة الأرضية تزحزحت قليلا عن مدارها مقتربة حوالي مائة ألف كيلومتر من الشمس بتأثير رد فعل قوة تفجير قنبلتي اليابان النوويتين و ما تبعهما من تجارب نووية ، تصادف أكثرها في النصف الآسيوي من الكرة الأرضية ؛ و على الرغم بأن هذه النقلة لا تشكل إلا نسبة بسيطة من المسافة بين الأرض و الشمس ، إلا أنها مقترنة بظاهرة الدفيئة ،  كافية لما نشاهده من تغيرات مناخية خطيرة .

و لعلمكم فقد كان فوق السطح في اليابان حوالي أربعة آلاف فرد من شعبنا ، فقدوا قدرتهم على الإستنساخ بتأثير الإشعاع النووي !

يتساءل  الدكتور رياض :

– و لكنك يا أخ جِمنا ، لم تذكر حتى الآن سوى الجانب السيء من مسيرة البشرية التاريخية ، فهل من المعقول أن  للإنسانية وجها واحدا ، هو هذا الوجه القبيح ؟

إن للإنسانية جانبها الإيجابي أيضا ، فهناك الأنبياء و الأولياء الصالحين و القديسون ، الذين نذروا أنفسهم من أجل تقدم البشر و نقل أخلاقياتهم نحو الأفضل ؛ و هناك المخترعون و المكتشفون الذين لهم الفضل الأكبر في تطور الإنسانية و تقدمها ، و على المستوى الفردي ، هناك أمهات يتفانين من أجل رعاية أولادهن و توفير حياة كريمة لهم ، و هناك أغنياء كرماء بذلوا و يبذلون من أموالهم لمساعدة الفقراء و هناك جمعيات إنسانية يديرها أشخاص نذروا أنفسهم للتخفيف من آلام البشر .

فليست الإنسانية كلها حروبا و توحشا ، ألا ترى ذلك معي يا سيدي ؟

يبتسم جِمنا و هو يجيبه :

= نعم هناك إيجابيات قليلة تضيعها السلبيات الكثيرة …

و سأعرض  لكم  لقطة عن مجتمع كان و لا زال مثاليا ينعم بالسلام الدائم منذ آلاف السنين ، و لكنه نأى بنفسه عن الآخرين ، بسبب نزعتهم العدوانية ، و آثر أن تبقى حضارته  الرائعة  طي  الكتمان و أحاط   وجوده  بالسرية  التامة   تحسبا ؛ ذلك  هو  مجتمع ” أتلنتيا ” الذي تعرفونه جيدا .

و تنتصب الشاشة المائية و يبدأ العرض :

نساء و رجال ، في غاية الجمال ؛ طول فارع يعادل 150% من الطول المتوسط للبشر ، شعر يميل إلى الحمرة ، عيون واسعة عسلية اللون ،  ، الرجال منهم يرتدون ثيابا بيضاء مكونة من قطعتين ، سروال قصير و قميص ( نصف كم ) مزين بزخارف هندسية يتوسط بينهما حزام جلدي مزخرف ، و في أقدامهم نعالا خفيفة ترتفع إلى ما فوق الكاحل مزينة بزخارف شبيهة بزخارف الحزام  ، أما النساء فقد ارتدين ملابس زاهية الألوان بلا أكمام ، و طويلة تكاد تلامس الأرض ، و قد زينوا صدورهن بعقود اللؤلؤ و المرجان.

يصيح الدكتور عبد الله على حين غرة :

–      ألم اقل لكم أنني لم أكن أحلم ؟!!!

يجيبه الدكتور حمود بصوت متلجلج انبهارا و دهشة :

–      لك الحق .. لك الحق .. لك الحق و الله … لقد بدأت أتذكر ، نعم لقد كنا هناك !!…

و لا يلبث أعضاء المجموعة أن تعود إليهم جميعا ذاكرة ساعتي “الزمن المفقود” …

ثم يؤكد لهم جِمنا :

= نعم كنتم هناك ، و قد استخدموا معكم أشعة محو الذاكرة ، لكي لا تشوا بوجودهم لعالم سطح الأرض المضطرب ، و أنا بدوري ، أرجوكم ألا تفعلوا ، بل إني على ثقة أنكم لن تفعلوا ، خشية دمار هذه الحضارة الإنسانية المثلى ، أما عنا فتحدثوا ما شئتم ، فلن يصدقكم سوى الجهلة و أنصاف المتعلمين..

ثم  يفاجؤون بظهورهم على الشاشة و هم يسيرون الهوينى بين أفراد شعب أتلنتيا ، الذين أخذوا يلوحون لهم مرحبين …

ثم  بظهورهم في قاعة فسيحة توسطتها طاولة رخامية بيضاوية الشكل ، التف حولها أربعة رجال و ست نساء هم أعضاء مجلس وزراء أتلنتيا .

و مع وضوح كامل للصورة و الصوت ، تنهض إحدى الوزيرات لتلقي كلمتها ، فتقول : ” في الحقيقة ، بلدنا ينقصه الذكور ، و عدد سكاننا في تناقص ، فنحن نرحب بكل ذكر يحضر لزيارتنا ، لقد بلغت نسبة الإناث 76% من مجموع السكان ، و هذا يهدد شعبنا العظيم بالانقراض . فعلامَ عودتكم إلى السطح ؟ و شعوبه لم تتمكن حتى الآن من التغلب على نزعتها الحيوانية  ، شعوب لا زالت متناحرة متحاربة يفترس قويها ضعيفها ، شعوب تملك من وسائل التدمير أكثر من تملكهم لوسائل التعمير! ”

فيتصدى لها الدكتور هشام قائلا : ” لهذا السبب اتحدنا نحن الخمسة ، و هدفنا الإسهام في تطوير العلوم و المعارف البشرية ، لكي يصبح للناس جميعا  مصادر رخيصة للطاقة ، مصادر جديدة للمياه العذبة ، مصادر جديدة للمعادن ، لنحقق في النهاية ما يكفي كل البشر من الغذاء  و الكساء و البيوت المريحة و المواصلات السهلة ، و نعتقد جازمين ، أنه إذا تحقق كل ذلك فإن الصراعات سوف تنتهي و أن العدالة سوف تسود ؛ أما إن بقينا  في ضيافتكم – كما تطلبون – فإن كل جهودنا ستذهب أدراج الرياح ” .

يعلق جٍِمنا قائلا  و موجها كلامه للدكتور رياض : ” هذا بالضبط ما يجعلني متحمسا لمساعدتكم بكل ما أملك من إمكانيات – بصفتي رئيسا لفريق العلماء الذي أقوده –  فأهدافكم نبيلة و تستحق الإحترام ” .

يسأله الدكتور حمود بعد أن رفع إليه آيات الشكر الجزيل لهذه الثقة الغالية ، يسأله :

– لقد لفت نظري أن علماء جمهورية أتلنتيا الفاضلة ، تمكنوا من اقتحام الفضاء الخارجي و أن لديهم الكثير من مختلف أنواع المركبات التي نسميها أطباقا طائرة ، و لاحظت شبها بينها و بين الأطباق الطائرة التي أحضرت المنفيين من أعماق المجرة إلى الأرض ، فما سر هذا التشابه برايك ؟

يجيبه جِمنا :

= لقد تمكنوا من الإتصال بمخلوقات الكواكب الأخرى ، و لما تأكد هؤلاء من نزعتهم السلمية و رقي حضارتهم و تقدمها ، نقلوا إليهم تقنية مقاومة الجاذبية ، و أرشدوهم إلى ممرات الجاذبية الكونية التي تخترق المجرة ، و تمكن المركبات بالتنقل بين كواكبها بسرعة تتجاوز أضعاف سرعة الضوء !….

التفت الدكتور مجدي إلى أصدقائه مذكرا :

–      لا تنسوا أننا على موعد مع أهلنا عن طريق الإتصال المرئي  ، فما رأيكم أن نتوجه حالا إلى المركبة لهذا الغرض ، لابد أنهم في غاية الشوق لسماع أخبارنا من أفواهنا كما شوقنا إليهم .

يقاطعه جِمنا قائلا :

= بإمكاني أن أن أساعدكم بهذا الإتصال عن طريق شاشتنا المائية ، و لكن لن يروكم لأنكم محاطين بفقاعات المادة المعتمة .

فيعتذر  الدكتور حمود بأنه يفضل تبادل الرؤية و الصوت مع الأهل ، فذلك أكثر حميمية بالنسبة للجميع .

عندما عادوا إلى قاعة المختبر في مملكة المادة المعتمة ، كانوا متأثرين ، مطرقين برؤوسهم فقد كان اللقاء مشحونا بالعواطف الجياشة .

تقدم منهم مخلوق مشع آخر عرف بنفسه قائلا : ” إسمي نمرود ، كلفني الأمير جِمنا أن أكون  في  خدمتكم  في كل  ما  تسألون أو ترغبون ، فقد اضطر للمغادرة  في مهمة  طارئة ” أجابه الدكتور حمود :

–      عاجزون عن الشكر يا أخي ، في الواقع لدينا رغبة في المغادرة على متن مركبتنا ، لنكمل الهدف من رحلتنا الإستكشافية التي لم نحقق منها إلا القليل مما نصبو إليه حتى الآن ..

يجيبه نمرود مؤكدا على كل كلمة تصدر من فمه الذي لا يكاد يرى ، و بصوته الرفيع الشبيه بزقزقة عصفور :

= ماهي أهدافكم بالضبط ؟ نحن جميعا هنا طوع بنانكم ؛ و لأكون أكثر تركيزا ، ما هو اختصاص كل منكم لنساعده في مجال اختصاصه ، فقد أكد لنا رئيس فريق العلماء الأمير جِمنا  قبل  مغادرته ، أن أهدافكم نبيلة ، و ذات أبعاد إنسانية ، و تستحق الإحترام .

يعرِّف كل منهم باختصاصه و أهدافه ، فيجيبهم نمرود :

= مارأيكم أن تنقسموا إلى فريقين : الفريق الأول يتألف من الدكاترة : هشام ، و مجدي  ، و حمود ؛ لتقارب إختصاصاتهم من حيث دراسة موارد أعماق الكرة الأرضية ، و سوف أكون شخصيا  مرافقكم و مرشدكم .

أما الفريق الآخر فمن الدكتورين عبد الله و رياض ، اللذين سينحصر عملهما  في المختبرات ، و سيكون في خدمتهما  زميلي العالم كرزون .

و قبل أن يتم لفظ اسمه ، ظهر كرزون أمامهم مرحبا ، و معرفا بنفسه ،  و واضعا نفسه رهن الإشارة .

الفصل التاسع

بعد أن تشاور العلماء العرب الخمسة فيما بينهم ، رفضوا فكرة الإنقسام إلى فريقين و رؤوا ضرورة بقائهم معا ، على أن تتم زيارة المختبرات فيما بعد .

و هكذا توجهوا جميعا إلى المركبة يرافقهم نمرود و كرزون معا  ، و سرعانما حررهم نمرود من فقاعاتهم المصنوعة من المادة المعتمة  ، ثم اتخذ كل موضعه استعدادا للإنطلاق .

قال لهم نمرود مقترحا : ” ما رايكم أن نبدأ بتجمعات المياه العذبة ؟ ” فوافقوه في الحال .

تقدم كرزون من الدكتور رياض و أخذ يرشده إلى الإحداثيات التي يجب اتباعها للوصول إلى أول جيب مائي يستحق الإطلاع و الدراسة و بأسرع وقت ممكن .

و  تنطلق المركبة بركابها مخترقة باطن الأرض صعودا في اتجاه الشمال الغربي ، و إن هي إلا دقائق لم تبلغ العشر ، حتى وجدوا أنفسهم يسبحون بمركبتهم في وسط مائي شديد الظلمة ، ما أن وصلوا إلى سطحه حتى شاهدوا بكشافاتهم أنهم ضمن كهف ، ما لبث الدكتور عبد الله ان أخبرهم أنه بواسطة المسح الصوتي ، تمكن من التأكد أنهم ضمن  كهف عملاق يتوسطه هذا الماء  الذي  بدا له – أيضا –  و  كأنه بحر واسع أو محيط مترامي الأطراف …

قال لهم نمرود مؤكدا :

– نعم  إنه محيط ، إنه بحجم ما تطلقون عليه  المحيط الهندي ، و كله  من  الماء  العذب !

أصابتهم الدهشة و عقدت ألسنتهم ..

و بعد فترة صمت ، علق الدكتور مجدي بصوت متهدج عَكَسَ انفعاله الشديد :

= لو أن البشر تمكنوا من اكتشاف هذا المحيط من المياه العذبة و تمكنوا من الوصول إليه و استثماره ، لكفوا عن الصراع و الحروب إلى الأبد ، فإن هذا الماء وحده  كافٍ  ليحوِّل  الكرة  الأرضية  بجبالها  و هضابها  الجرداء و صحاريها  القاحلة  إلى  جنة  وارفة ….

يجيبه نمرود :

– ليس هذا فحسب ، بل هناك تجمعات مائية أخرى من المياه العذبة في عدة أماكن  ، ساطلعكم عليها تباعا ، إن شئتم !

و يتساءل الدكتور هشام :

= و لكن كيف تكوَّن هذا المحيط و في هذا العمق ؟ و يلتفت إلى إلى الدكتور عبد الله  متسائلا   ” كم هو عمقنا الآن في جوف الأرض ، أخي عبد الله ؟ ” فيجيبه الدكتور عبد الله : ” نحن على عمق أقل بقليل من ثلاثة آلاف و خمسمائة متر ! تحت بحر الصين مباشرة ، و هو البحر الذي يفصل اليابان عن الصين . ”

و يقاطعهما نمرود مجيبا على  استفسار الدكتور هشام :

– على مدى ملايين السنين ، كانت المياه تتسرب من المحيطات و البحار أو من الجبال دائمة الغطاء الثلجي ، إلى أعماق سحيقة في جوف الأرض ؛ و بتأثير الحرارة الشديدة في الأعماق تتبخر متحررة من أملاحها و تتحول إلى أبخرة تبدأ بالصعود بين الشقوق  ، إلى أن تصل إلى طبقات أبرد ، فتتحول من جديد إلى ماء و لكنه ماء عذب ، في ظاهرة قريبة من ظاهرة تكون المطر فوق سطح الأرض ، و تحت تأثير الضغط العالي و الجاذبية يحاول الماء التسرب من جديد إلى الأعماق ، إلا أن بعضه و أثناء حركته الراجعة قد يصادف صخورا لا تسمح له بالتسرب فيتجمع فوقها ، و تصادف في هذا المكان وجود صفيحة غرانيتية ضخمة سمحت بهذا التجمع المائي هائل الحجم .

يعلق  الدكتور  هشام :  ” هناك  مقولة علمية تفيد  بأنه  حيثما  يوجد  ماء  توجد  حياة ، فلِمَ  لا  نباشر  بالبحث  عن  حياة ما ، هنا ؟ ”

يوافقه زملاؤه و يقررون الغوص من جديد ، فيشغل الدكتور عبد الله  الكشافات الضوئية جميعا ، بينما استعد الدكتور مجدي لجمع العينات ، أما الآخرون فاتجهوا  إلى المراقبة الخارجية عن طريق كاميرات الفيديو أو شاشات الرادار …

و تبدأ من ثم الأعاجيب بالظهور ، أسماك شبيهة بأسماك البحار المعروفة و لكن لا لون لها و لا  عيون ، منها الكبير بحجم قرش و منها الصغير بحجم عقلة الإصبع ، يبدو أنها تعيش في عالم شمي كما يعيش النمل  .

و على حين غرة يبرز أمامهم مخلوق مائي عملاق ، بدا وكأنه يتجه نحوهم مباشرة و بسرعة كبيرة ؛ صاح الدكتور عبد الله  بأعلى صوته : ” أعلى سرعة يا أخي رياض ، إنه يهاجمنا ” .

و يتمكن الدكتور رياض بمناورة بارعة من تحاشي الإصطدام بهذا المخلوق الذي يعادل حجم حوتين كبيرين من نوع  الحوت الأزرق ، على الأقل .

و بعد التقاط الأنفاس ، يعلق الدكتور عبد الله : ”  إنه بطول ستين مترا أي أكثر من ضعف طول مركبتنا ، لو أننا ارتطمنا به لكنا واجهنا كارثة ! ” فيرد عليه الدكتور هشام واثقا بما يقول : ” لا أظن ذلك ، فمركبتنا قوية ، فقد اخترقت الصخور الصلبة و قاومت الضغط الهائل ، و لو أننا اصطدمنا به لقطعناه إربا !..”  أما الدكتور حمود فكان سؤاله موجها للدكتور عبد الله : ” هل سجلت الواقعة (أخوي) عبد الله ؟ ” .

يضحك الدكتور عبد الله و يضحك  الآخرون ..و قد تذكروا مقلب الزمن الضائع ..

يقاطعهم كرزون قائلا و قد تملكه الإعجاب الشديد :

– مركبتكم هذه سوف تغير وجه العالم ، أتدرون ؟

تعود المركبة إلى سطح الماء ، فقد قرر العلماء البحث عن شاطئ هذا البحر المذهل ، و لكن بعد بضع دقائق يرصد الدكتور عبد الله  صوت هدير عالٍ ، يسلط  كشافات المركبة في كل اتجاه للتعرف على مصدر الصوت ، و فجأة يكتشف اقتراب المركبة من  شلال هائل  ، فيصيح الدكتور عبد الله  صيحة ( أرخميدس ) : ” إنه شلال ، شلال حقيقي يربو ارتفاعه على المائة متر ،  و كأني أمام شلال فيكتوريا الأفريقي الذي شاهدت فيلما عنه ذات يوم . ”

يتساءل الدكتور حمود مشدوها :

= بحر و مخلوقات مائية  و شلال عظيم  في عمق يزيد على  ثلاثة آلاف و خمسمائة  متر ؟ هذا يعني أننا قرب شاطئ هذا البحر …  و يعني أيضا ، أن الإنسان لا زال يجهل الكثير الكثير عن كوكبه الأزرق !..

يصدق نمرود على كلامه و يضيف :

–  أخبرتكم قبلا ، أن البخار الصاعد  من الأعماق ، بعد أن يتبرد و يتحول إلى ماء عذب ، و لكنه يحاول العودة من جديد إلى الأعماق بتأثير الجاذبية ، و ما ترونه هو إحدى تلك المحاولات ، لولا أن القاع الغرانيتي قد حبسه ؛ و إذا تجولتم في هذا البحر فسترون في أطرافه الكثير من المصبات المائية بعضها لا يتجاوز نصف متر و بعضها على شكل شلالات أخرى ، و لكن هذا الشلال الذي ترون هو أعظمها ..

يقترح الدكتور تسمية هذا المحيط المائي العذب : “بحر السلام العالمي” فيؤيده الآخرون ؛ و يمتدح نمرود و كرزون هذا الإقتراح ، و يبدأ الدكتور رياض بتحريك المركبة من جديد فوق سطح الماء ، كما يبدأ كل من الدكتورين عبد الله و مجدي بإجراء القياسات اللازمة عن طريق المسح الراداري و المغناطيسي و الليزري ، ليصبح بالإمكان تسجيل هذا الإكتشاف العلمي  في الجهة المعنية في الأمم المتحدة .

و بينما هم يقومون بمهمتهم لاحظوا اقترابهم من شاطئ صخري ، فيتوجهون نحوه .

يقترب الدكتور حمود من نمرود سائلا  :

–  هل بوسعك إحاطتنا بفقاعات من المادة المعتمة لنتمكن من التجوال على الشاطئ ، كما فعل الأخ جِمنا من قبل ؟

يجيبه نمرود:

= بالطبع ، و لكن هل لديكم كشافات خاصة ؟ فكشافاتكم لن تعمل و أنتم ضمن فقاعات المادة المعتمة  ؛ نحن مثلا لا نحتاج  إلى الضوء ، أما أنتم فلا يمكنكم الحركة بدونه ، فالظلام دامس كما تلاحظون !

يتدخل الدكتور عبد الله قائلا :

– في الحقيقة نحن لم نكن نعلم عن وجود المادة المعتمة أصلا ، و بالتالي ليس لدينا مثل هذه الكشافات .

يقاطعهم كرزون مطمئنا  :

= لا تشغلوا بالكم ، سأذهب في الحال إلى المملكة لإحضار ما يلزم .

وأمام الأعين المذهولة يتلاشى كرزون ثم يختفي .

يتوجه الدكتور حمود إلى إحدى الخزائن ، فيستخرج منها مجموعة أعلام  هي أعلام الإمارات و مصر و سورية و فلسطين و المغرب التي تمثلهم جميعا ، و هو يقول : سأغرس هذه الأعلام على الشاطئ ، لنؤكد أننا أصحاب هذا الإكتشاف الذي سوف يغير وجه العالم كما قال أخونا كرزون .

أثناء فترة الإنتظار ، أخذ نمرود يحدثهم عن أماكن الماء العذب في أعماق الكرة الأرضية ، فقال من ضمن ما قال :

= هذا البحر هو اكبرها ، و لكن هناك بحرا آخر في أعماق المحيط المتجمد الجنوبي ، يختلف عن هذا ، بأنه على شكل بحيرات متعددة تربط بينها شبكة من الأنهار ، و هو أقرب إلى سطح الأرض من ( بحر السلام العالمي ) هذا  .

و هناك بحيرة كبرى  في أعماق الربع الخالي في السعودية ، و بحيرة كبيرة على شكل جيوب متعددة ، تحت أطراف ليبيا شرقا و مصر و السودان و تمتد إلى دارفور حيث تدور الحرب الأهلية هناك من أجل الإستحواذ على مصادر المياه ! أليست هذه مفارقة كبرى ، يتصارعون على الماء و الماء الغزير تحتهم ؟؟

ثم يضيف قائلا :

= و هناك بحر كبير يمتد في أعماق اوربا و تعيش فيه بعض  حيوانات ما قبل التاريخ العملاقة و التي تسمونها بالدايناصورات  .

ثم أضاف :

=  فإذا كنتم ترغبون ، ساصحبكم إليها جميعا .

عندما عاد كرزون ، رش مادة ما لم يتمكنوا من  معرفة كنهها و طبيعتها ، و لكن بعد لحظات  انتشر الضوء في المكان إلى مسافة عشرات الأمتار بعدا و ارتفاعا  ، فتكشف المكان عن شاطئ فسيح .

قال لهم نمرود :

= أنتم الآن ضمن فقاعاتكم  ، أنتم ترون كل شيء ، و لكن أحدا لا يراكم ، اعتقد أن الأمير جِمنا أخبركم بهذا من قبل .

ما أود أن أقوله ، أنكم قد تُجابهون مخلوقات مخيفة ، فلا تأبهوا بها أو تخشونها ، فهي لن تراكم و لذا لن تهاجمكم .

أما الأمر الآخر الهام أيضا ، هو أن فقاعاتكم من المادة المعتمة ، سوف تسمح لكم بالتجوال  بالسرعة  التي ترغبون ، ما عليكم إلا أن تفكروا بالمكان الذي ترغبون بزيارته حتى تجدون أنفسكم فيه .

أما الأمر الثالث فكما تعلمون ، فلكي تتمكنوا من الخروج من مركبتكم ( دبي 1 ) أحطتها بفقاعة من المادة المعتمة ، أي أنكم لن تتمكنوا من رؤيتها ، لذا وَضَعَ لكم كرزون علامة ضوئية خضراء فوق تلك الصخرة المجاورة للمركبة ، حتى إذا  ابتعد أحدكم عن المجموعة لسبب ما  و شعر أنه ضل طريقه ، فتلك هي  العلامة التي سترشده إلى المركبة ، فما عليه الإنتظار فيها حتى عودة الجميع .

عقب الدكتور حمود قائلا :

– فوق تلك الصخرة ساضع أعلام بلادنا .

و عندما أتم الدكتور حمود تثبيت الأعلام ، وسط تصفيق زملائه ، حمل كل منهم مصورته ، بينما حمل الدكتور عبد الله ( كمرة فيديو ) ، و ابتدؤوا  التحرك  فوق الشاطئ .

كان سقف الكهف الصخري يبتعد حينا عاليا لمسافة تزيد عن المائة متر  و ينخفض حينا حتى ليكاد  يلامس الرؤوس ، و قد لفتت  نباتات فطرية عملاقة انتبهاهم ، تنتشر أفقيا على شكل فروع  تمتد  إلى مسافات بعيدة ، و فطريات أخرى تنمو عموديا فكانت اشبه بشجيرات الصباريات .

و إن هي إلا دقائق ، حتى برز أمامهم حيوان عملاق يشبه السحلية و لكن بدون عينين،  فقد  نبت مكانهما قرنا استشعار طويلان ، و  انهمك بالتهام فروع شجيرة فطرية ، مروا امامه و حوله و التقطوا له الصور ، دون أن يلتفت إليهم أو يشعر بوجودهم ، ثم ما لبثوا بعد قليل أن وجدوا قطيعا كاملا من نوعه يرعى شجيرات  الفطر .

كانوا يتحركون و كأنهم في مركبات فضائية بخفة و رشاقة و سرعة لم يجربوها من قبل إلا عندما غادروا مركبتهم في رحلتهم المدهشة إلى مملكة المادة المعتمة .

كانوا يفترقون حينا و يتجمعون حينا ، أما الدكتور مجدي فقد  انهمك بفحص كل ما تقع عليه عيناه ، فاكتشف الكثير من العروق الذهبية ، و الكثير الكثير من معدني الحديد و النحاس ، فملأ حقيبة مكتب يحملها ، بعينات منها .

ثم ارتقوا جميعا إلى أعلى الشلال الذي  كانوا قد شاهدوه ، و إذا بهم أمام نهر عظيم لا يتجاوز عرضه عشرة أمتار إلا أن ماءه كان غزيرا ، يتسارع جريانه  كلما اقترب من نقطة الإنحدار  .

و  خلال نصف ساعة تمكنوا من اكتشاف معظم ( بحر السلام العالمي ) و شواطئه ، و من التقاط ثروة من الصور و لقطات الفيديو ، و العينات ، ثم عادوا إلى المركبة و قد غمرتهم السعادة .

الفصل العاشر

في طريق عودتهم إلى المركبة ، باغتتهم رؤية مخلوق يشبه العقرب إلا أنه عقرب عملاق يزيد طوله عن المترين ، و هو بدوره بلا عينين و حتى بلا قرني استشعار ، بدا و كأنه خرج من الماء لتوه ،  يقفز فجأة  فوق ظهر واحدة من تلك  السحالي العملاقة ، يلدغها بابرته الأطول من منقار مالك الحزين و المُركّبة في نهاية ذيله ، فتنتفض السحلية و ترتعش مزلزلة الأرض من تحتها ، ثم تنفق  خلال دقائق ؛ و فجأة يخرج من ماء المحيط عقربا آخر بدا أنها أنثاه فقد اعتلى ظهرها  ثم تبعها عدد كبير مما بدا أنها فراخ العائلة الصغار ، و بدأ الجميع بالإلتفاف حول الوليمة الجبارة و المباشرة بالتهامها .

علق الدكتور مجدي باشمئزاز : ” المسلح يفتك بالمسالم حتى في أعماق الأرض ، يا لها من معادلة موغلة في الوحشية ! ”

و إذ دخلوا المركبة و تحرروا من فقاعاتهم فوجئوا جميعا بأن ايا منهم لم يلتقط أية صورة ثابتة كانت أم متحركة ، لمشهد العقرب و أفراد عائلته بالغي الشراهة ؛ فقد ألجمت الدهشة عقولهم عن التفكير بتسجيل ذلك المشهد الفريد المرعب ..

يسألهم الأمير نمرود ، بعد أن هدأ انفعالهم و توقفوا عن تعليقاتهم :

–      نحن قريبون نسبيا من سيبيريا ، فهل تفضلون المرور بها لأطلعكم على أمر يهم الدكتور حمود كثيرا ، أم تفضلون الإطلاع على تجمع آخر للماء العذب ؟

تختلف الآراء فيقترح الدكتور عبد الله قرعة ألكترونية ، فيوافقون على ذلك بالإجماع . يسجل الدكتور عبد الله على حاسوبه كلمة ماء ، ثم كلمة نفط ، ثم يترك للحاسوب أن يختار بينهما  ؛ و إن  هي  إلا  ثوان  حتى  ظهرت على  شاشة  الحاسوب كلمة  نفط .

تهللت أسارير الدكتور حمود ، و صاح جزلا : ” هيا  يا  دكتور  رياض ، الخيرة  فيما  اختاره  الله ، هيا  إلى سيبيريا .”

كان نمرود قد اقترب من الدكتور رياض و  بدأ يرشده إلى الطريق التي عليه أن يسلكها ، ثم تحركت المركبة .

خلال خمسة عشر دقيقة تمكنت المركبة من اختراق باطن أرض الصين باتجاه  الشمال مع انحراف بسيط نحو الشمال الغربي ، عندما أعلن الدكتور عبد الله أن المركبة الآن في أعماق الروسيا ، شرقي سيبيريا تحديدا .

قال لهم الأمير نمرود :

–      أنتم الآن في مصنع أنشأته الطبيعة لصنع البترول ،

فغر الدكتور حمود فاه دهشة و انفعالا ، ثم سأل الأمير نمرود

= هل  أنت  تؤكد  بكلامك  هذا  ما  يشيعه  بعض  العلماء  هذه  الأيام  من  أن  البترول  غير قابل  للنضوب ؟

يجيبه الأمير نمرود بكل ثقة :

–      النظريات المتداولة حتى الآن تشير إلى أن مصدر البترول هو عبارة عن  بقايا عضوية ، هذا صحيح في جانب ضيق من الحقيقة ، إلا أن الحقيقة  الأساسية أنه تحت تأثير ضغط الأعماق الكبير و الحرارة الهائلة فإن هايدروجين الماء الموجود بكثرة في الأعماق كما شاهدتم  بأنفسكم  ، يندمج بعنصر الكربون الموجود بكثرة  أيضا ليشكلا معا البترول الخام ، و هي عملية مستمرة و صناعة طبيعية  لا  نهاية لها .

يجيبه الدكتور حمود :

= هذا يعني أن البترول سيغرق العالم و بأسعار رخيصة …

فيعلق الدكتور عبد الله قائلا و بشيء من الأسف :

= و يعني أيضا أن مشكلة التلوث سوف تتفاقم !

بمساعدة كرزون يحيط الأمير نمرود المركبة بفقاعة من المادة المعتمة ، ثم يحيطا معا كل من العلماء العرب الخمسة بفقاعة من المادة نفسها ، تمكنهم من الخروج و التجوال بيسر .

المكان كهف منخفض السقف ، و في وسطه تجمع سائل أسود داكن ، و بواسطة أنبوب يشبه عود القصب المفرغ ، تمكن الدكتور حمود من اختراق فقاعته و شفط جزء من السائل  ، و سرعانما صاح بأعلى صوته : ” إنه نفط .. بترول .. بترول ”

بعد جولة قصيرة  فوق سطح البحيرة النفطية هذه ، عادوا إلى مركبتهم و بدؤوا  يغوصون في أعماقها ، جامعين ما تيسر لهم من عينات ، بينما انهمك الدكتور عبد الله بقياس البحيرة ، و كانت النتيجة ، أنها تعادل بحيرة طبريا مساحة ، و أن عمقها يتراوح بين  ثلاثة  إلى عشرين مترا ، و كانت مفاجأتهم الثانية أن  أعماق هذه البحيرة  مكون من الماء الفائر من شدة الحرارة  ، و أنه ماء مشبع بالكبريت ؛ و قد شاهدوا و سجلوا كيف يصعد البترول إلى الأعلى على شكل خيوط سوداء أو على شكل دخان أسود ..

قال لهم كرزون موضحا :

– تحت  قاع هذه البحيرة مخزون هائل من الصخور الكربونية تنتشر في عمق كبير ؛ الكربون يتفاعل مع الأبخرة المائية التي تتجاوز حرارتها ألفي درجة مئوية و الصاعدة من أعماق القشرة الأرضية مخترقة شقوقها الكثيرة ، و تحت ضغط  يتجاوز 150 كيلوبار يتم اندماج الكربون بهايدروجين الماء لينتج النفط .

و يضيف  الأمير نمرود :

– هذه البحيرة  تقع على عمق أربعة آلاف متر ، و لكن هناك بحيرات أقرب إلى سطح الأرض و أخرى أعمق من هذه ، و تتراوح مساحتها بين 100 هكتار و ألوف الهكتارات  ، و هي مساحات متواجدة في الكثير من أنحاء العالم  ، تم اكتشاف قليلها  و لا زال أكثرها مجهولا .

الفصل الحادي عشر

و هناك أمر آخر بالغ الأهمية لم تنتبهوا إليه ، ذلك أن تفاعل الهايدروجين مع الكربون ينتج أيضا بعض الغازات و أهمها غاز الميثان ، هذه الغازات قد تتجمع و تختلط مع الوسط النفطي و قد تتطاير و تتسرب بين الشقوق لتتجمع في  كهوف أخرى ، و لها  دور  كبير  في  تفجر البراكين .

يسأله الدكتور حمود :

= هل لديك علم بمواقع التجمعات النفطية التي لم تكتشف بعد في العالم ؟

يتصدى كرزون للإجابة :

– في أعماق جميع المواقع المكتشفة .

بعض تلك المواقع  ظنوا أنها على وشك النضوب ، و لكنهم فوجئوا بامتلائها بالنفط من جديد ، أو أن النفط كان يظهر بعد حفر بضع عشرة متراً إضافية في نفس الموقع ، أما أكثرها فلم يكتشف أصلا بسبب عجز أدواتهم عن بلوغ حد معين من العمق .

و هنا اختطف الأمير نمرود الحديث ثانية من صاحبه ، قائلا و مؤكدا :

– محرك مركبتكم الدوار هذا ، سيقلب كل المفاهيم العلمية السابقة في مجال النفط و استخراجه ، ألم أقل لكم أنكم و مركبتكم  سوف تنقلون العالم إلى الأمام في قفزة جديدة لا تقل عن قفزة الثورة الصناعية أو أختيها الثورة الكهربية و الثورة الألكترونية ؟!.

و أضاف :

– في أعماق الغرب من سيبيريا قرب بحر الأورال  توجد تجمعات نفطية و غازية هائلة ، في أعماق منطقة بحر قزوين و ما جاوره من دول ، في أعماق شبه الجزيرة العربية و حتى جنوب تركيا ، في أعماق الجزء الغربي من أوربا ، في أعماق خليج المكسيك ، و في أعماق حوض الأمازون في البرازيل ، و بدون مبالغة فإن النفط تنتجه الطبيعة أينما كان الماء ، مائعا أو متجمدا أو ثلجا ، و لكن في الأعماق .. دوما في الأعماق ، و من يبلغ الأعماق يحصل على النفط و الغاز  ، بكميات لا ينضب معينها .

ثم أضاف و هو يضحك فخرجت ضحكته و كأنها صفير العندليب :

–      و الآن  ماذا تقترحون لنقلتكم التالية ؟ ماء أم نفط ؟!

يلتفتون نحو الدكتور عبد الله الذي فهم مرادهم على الفور و بدأ في استفتاء حاسوبه ، و كانت نتيجة الإستفتاء هذه المرة : ماء !…

****

قال لهم الأمير نمرود :

– هناك تجمعات مائية هائلة للمياه العذبة في أعماق المحيط المتجمد الجنوبي تتصل فيما بينها بأنهار بعضها لا يقل طولا عن نهر النيل و قد حدثتكم عنها قبلاً ، و هناك  تجمع آخر في غرب أوربا و لكنه يمتاز بأنه يعج بالمخلوقات المائية بعضها أكبر من السحالي التي شاهدتموها في ما أسميتموه ب” محيط السلام العالمي ”  فأيهما تفضلون مشاهدته ؟

لم تطل مناقشتهم هذه المرة فقد أيدوا الإقتراح الثاني .

و بما أن المسافة بين شرقي سيبيريا و غربي أوربا كبيرة ، فقد قرروا استخدام قوة  جاذبية مركز الكرة الأرضية كما فعلوا في بداية رحلتهم إلى الأعماق ..

و سرعانما اكتشف الدكتور مجدي شقا مناسبا يمكن الولوج من خلاله .

و بدأت الحفارة اللولبية في مقدمة المركبة بالعمل ، تحفر الصخور و الكتل الطينية و تقذفها إلى الخلف بينما بدأ المحرك الجبار في الخلف بدفع المركبة ..

بدأت الحفارة الآن تعمل بشكل أيسر فقد بلغوا طبقة أقل كثافة مكونة من الصخور الحارة شبه المائعة و التي – كما سبق أن أفادهم الدكتور مجدي – تطفو فوقها صفائح القشرة الأرضية فتسبب حركتها الدائمة .

أما الدكتور عبد الله فقد  أخبرهم  أن  الحرارة  خارج  المركبة  بلغت  الآن  مئتي  درجة مائوية .

و المركبة لا زالت مندفعة نحو الأعماق …

قال الدكتور مجدي : “نحن الآن في عمق ألف خمسمائة كيلومتر ..”

قال الدكتور عبد الله : ” الحرارة  خارج  المركبة  تبلغ الآن خمسمائة درجة مئوية …”

و المركبة لا زالت مندفعة نحو الأعماق …

” نحن الآن على عمق ثلاثة آلاف كيلومتر” ،  قال الدكتور عبد الله ؛

” و بدأنا نخترق المائع الناري ” ، قال الدكتور مجدي ؛

” و بدأت الجاذبية تتزايد وتيرتها بشكل متسارع ، اربطوا الأحزمة جيدا و اتخذوا وضع الإستلقاءعلى ظهوركم ” ، قال الدكتور رياض الذي يتولى قيادة المركبة .

و المركبة لا زالت مندفعة نحو الأعماق  بوتيرة متسارعة…

” بدأنا الآن بالإتجاه المعاكس ”  ، قال الدكتور رياض  ، و قد خرجت الكلمات من فمه بطيئة و بصوت خافت بسبب الضغط الكبير الواقع على صدره و بطنه ، إنه ضغط السرعة الخيالية التي اكتسبوها من جاذبية قلب الكرة الأرضية المعدني .

و المركبة بدأت تندفع من الأعماق نحو السطح …

و إن هي إلا دقائق ، حتى اخترقوا شِقًا  في عمق ألف و مائتي متر تحت قاع  أقصى الطرف الشرقي من المحيط الأطلسي ، ثم  ما لبثوا أن وجدوا أنفسهم يسبحون في أعماق بحيرة ؛ أكد لهم الدكتور مجدي بعد أن سحب منها عينة ، أنها  ماء  عذب قراح .

 

**

و كما كان الوضع في ” محيط السلام العالمي ”  فالظلام هنا أيضا كان حالكا ، و الفارق أنها  أصغر حجما منه ، و أقرب إلى سطح الأرض .

و أكد لهم الدكتور عبد الله ، أن موقعها تحت اسكتلندا في شمال إنكلترا مباشرة على عمق  مئتي متر لا غير .

و ما أن أضاء الدكتور عبد الله الكشافات  ، حتى توجه  كالعادة  كل من د. حمود و د. مجدي و د . هشام  ، للمراقبة عبر المناظير في حين آثر متابعة المشاهد المتلاحقة عبر شاشات الرادار و كاميرات الفيديو كل من د.عبد الله و د.رياض .

فصائل كثيرة من الأسماك المضيئة بعض أضوائها يكشف دائرة يزيد قطرها عن العشرة أمتار ، و بينما كانوا منهمكين بتصويرها و إحصاء أنواعها .  إذا بمخلوق عملاق يظهر أمامهم فجأة ،  يشبه جسمه جسم سلحفاة مائية بطول عشرين مترا ، و لكنه يختلف عنها برقبته الطويلة الشبيهة إلى حد ما بأفعى الكوبرا ، مع رأس صغير لا يتناسب  مع  حجمه الهائل  ..

يصيح  الدكتور مجدي : ” إنه يشبه وحش بحيرة نِس ( Ness ) ” ألم تسمعوا به ؟ سأراجع حالا حاسوبي الشخصي بحثا عن إسمه العلمي ! ”

يجيبه الأمير نمرود : ” بل هو بشحمه و لحمه ” ثم يضيف :

– هذا الذي أسموه وحشاً ، إن هو إلا مخلوق مسالم نباتي ، يعيش على نباتات تتكاثر على جوانب هذه البحيرة  ، و يوجد من فصيلته الكثير هنا ،  كان يحلو لواحدها أن يتسلل عبر نفق يقودها إلى الأعلى نحو بحيرة نِس ،  ليتمتع  بالضوء الذي يفتقده في الأعماق و في الأيام المشمسة كان يتمدد على شاطئها مستمتعا بالدفء ، إلا أن الناس و العلماء  و الصحافة  و الصيادين ، أخذوا يضيقون عليها الخناق ، إشباعا لشراهة فضولهم ، و مع كثرة القوارب ذوات المحركات و الغواصات الباحثة عنه ، و ماتنتجه من موجات صوتية ، انهار مدخل النفق مما حال دونها و الخروج إلى السطح ؛ و الفضوليون في الأعلى لا زالوا يبحثون عن الوحش ، و كالعادة لا زال هناك من يكذب وجوده تكذيبهم لكل الظواهر الغريبة الأخرى و التي لا يجدون لها تفسيرا ؛ و لم يدركوا حتى الآن أن ما عرفوه أقل بكثير مما لم يعرفوه .

يقاطعه الدكتور مجدي معلنا نتيجة بحثه على الأنترنيت :

إنه من الداينصورات المائية و اسمه العلمي : ( البلِسيوصور Plesiosaur )

****

الفصل الثاني عشر

كان الأصدقاء  العلماء العرب ، يتصلون بأهاليهم بالصوت و الصورة من خلال حاسوب وضعوه في غرفة صغيرة تتسع لشخص واحد في أقصى الجهة الخلفية من المركبة ؛ يلج إليها كل بمفرده ، فيجري اتصاله ، ثم يترك المجال لغيره ..

عندما خرج الدكتور مجدي من غرفة الإتصال ، بدا عليه الحزن و قد  ترقرقت  الدموع  في عينيه .

سأله الدكتور هشام : ” مايزعجك يا أخي مجدي ؟ ”  ” الوالدة مريضة يا أخي هشام! ” أجابه الدكتور مجدي و هو يمسح دمعة نفرت رغما عنه ..

هنا اقترب منه كرزون مواسيا ، ثم أضاف :

–      إذا كنت ترغب برؤيتها عن كثب فأنا على استعداد لتلبية رغبتك حالا ، و ستكون إلى قربها خلال دقائق ..

نظر إليه الدكتور مجدي و قد تملكته الدهشة ثم سأله :

= هل  تمزح يا صاحبي ؟

فابتسم كرزون و هو يجيبه بكل ثقة :

–      لا مزاح في هذه الأمور .

و لا غرابة فيما أقترح ، فعندما تكون داخل فقاعة من المادة المعتمة ، تصبح تماما كأي مخلوق من هذه المادة ، تغوص في الأعماق و تخترق الصهارة و تتسلل بين الشقوق بسرعة مذهلة  تتجاوز سرعة مركبتكم هذه !

يتدخل الدكتور هشام قائلا :

= هذه مغامرة ، أتدري كم المسافة بيننا هنا و بين دبي ؟ إنها مغامرة لا أنصحك بها يا صاحبي ، و على الأرجح سوف تتوه و ربما نفقدك إلى الأبد .

يجيبه كرزون مطمئنا :

–      لا تقلق ، سأكون برفقته ، فقط نريد اسم الفندق الذي ينزل فيه أهله ، أما الزمن فسيكون أقصر مما تظن ، مدة زيارته مضافا إليها بضع دقائق للذهاب و الإياب .

يسأل الدكتور حمود عن اسم الفندق فيجيبه :

= فندق شاطئ الجميره و يقع على الشارع المسمى بنفس الإسم .

كان الدكتور مجدي و و مرافقه كرزون يتحركان في باطن الأرض حينا و على سطحها حينا آخر بسرعة مذهلة تتجاوز سرعة البرق ، و كان الدكتور مجدي يشعر و كأنه يعيش حلما تتوالى صوره ؛ كانا يتسللان عبر الصدوع الكثيرة في قشرة الأعماق ، أو يتسلقان الجبال أو يخترقان الوديان و الغابات حين يحلو لهما ذلك .

و رغم هذه السرعة الكبيرة فقد تمكن الدكتور مجدي من تمييز نفق بحر المانش معجزة الهندسة في القرن العشرين و هو النفق  الذي يفصل بين فرنسا و انكلترا  ، و استطاع أن يميز كذلك مدنا كبرى كباريس و فينيسيا ( البندقية ) و استنبول على السطح ، و تجمعات نفطية و مائية في أماكن مختلفة في الأعماق ،  و أيضا الكثير الكثير من عروق الذهب  و كتل الماس  في أماكن متعددة ، و الأهم من كل ذلك  بحيرة كبيرة جدا من الماء العذب تحت الربع الخالي في السعودية ، و الكثير الكثير من البحيرات النفطية  صغيرها و كبيرها على أعماق متفاوتة بين منطقتي البحر الأبيض المتوسط  و الخليج .

و فجأة  وجد نفسه يخرج من البحر المحاذي لمدينة دبي و يتجه مع رفيقه كرزون إلى أحد شواطئ المدينة ، و إن هي إلا ثوانٍ حتى كان أمام مجمع سياحي ضخم يتوسطه فندق على شكل موجة بحرية عملاقة  و لافتة كتب عليها ( فندق شاطئ الجميرة ) .

دخل و رفيقه  من باب البهو الرئيسي ، و بحكم العادة اقترب من مكتب إستعلامات الفندق ليسأل عن رقم غرفة والديه ، فضحك كرزون منه و قال له منبها و هو لا زال يضحك  :

– أنسيت أنك  ضمن فقاعة المادة المعتمة ؟ و أن أحدا لا يراك أو يسمعك ؟!

ثم تقدم كرزون داخل المكتب و اخترق أدراج ملفات النزلاء ، و عاد إلى الدكتور مجدي ليبلغه بأن و الديه و شقيقتيه موجودون في الغرفتين رقم 185 و 186 على التوالي في الطابق الثامن عشر  .

قال له كرزون :” ساقوم بجولة ألقي خلالها نظرة على هذا المجمع السياحي الفاخر ثم أعود إلى تلك الزاوية هناك .. حيث نلتقي قبل أن نبدأ رحلة العودة ” .

سأله الدكتور مجدي راجيا : ” ألا يمكنك  إزاحة الفقاعة عني لأتمتع بلقاء حي مع أهلي ؟”

فأجابه منبها : ” إذا كنت تريد أن تقتلهم ، أفعل ! ” ثم أضاف :

– يارجل كلموك قبل أقل من نصف ساعة و أنت في أقاصي شمال اسكتلوندا ، ثم يجدونك في وجوههم ، سوف تصعقهم المفاجأة يا دكتور !

عندما تمكن الدكتور مجدي من دخول غرفة والديه ، شاهد ما جعله يضطرب ، فثمت طبيبة تقوم بفحص والدته ، و قد وقف إلى جوارها والده الذي بدا عليه الإنزعاج ، و في الطرف الآخر من السرير جلست شقيقتاه و قد استبد بهما القلق .

و إذ أنهت الطبيبة فحصها و بدأت تكتب وصفة الأدوية المناسبة ، سالها والده ملهوفا : ” خير يا دكتورة ؟ ” تجيبه مبتسمة : ” كل الخير إنشاء الله ، مجرد نوع من فيروس الأنفلوينزا  أصاب شُعبها الهوائية ، و مع العناية و الدواء الذي وصفته ، سيزول  البأس  بعون  الله  خلال أيام “.

و فجأة سمع والدته تنادي : ” مجدي .. مجدي .. مجدي .. تعال إلى حضن أمك يا حياة أمك ”

تدمع عيون الفتاتين ، بينما يقترب منها والده قائلا بحنان كبير :

–      أنت  تعلمين  أن مجدي  مسافر يا  أم  مجدي ، و أنه  سيعود  قريبا  مظفرا بعون الله…

فتجيبه ملحة :

= بل هو هنا ، أنا اشعر بوجوده ، أكاد أشم أنفاسه !

و تعود للمناداة :

= مجدي…مجدي ..اقترب مني يا روح أمك ….

يلتفت أبو مجدي إلى الطبيبة متساءلا بعينين دامعتين …

فتجيبه الطبيبة بصوت خافت :

–      لا تقلق يا عم ، هذا مجرد هذيان بسبب ارتفاع حرارتها  ، أكثروا من إعطائها السوائل ، و ضعوا ثلجا على جبينها لفترة ثلاث دقائق كل عشر دقائق ، و قد وصفت لها دواء خافضا للحرارة و آخر مضاد حيوي وقائي لمنع وصول المرض إلى رئتيها ، و غدا سوف أعود لزيارتها و ستكون بحال أفضل بقدرة الله ..أما إذا تفاقمت الحالة ، فسأوصي بإدخالها إلى المستشفى ، و لكنني أرجح أنها سوف تتحسن ، فقط اتكلوا على الله …

أما مجدي فقد همس إلى ذاته و قد اعتصره الألم  : ” الآن عرفت  أكثر من  أي وقت  مضى ،  أن  قلب الأم  لا  يخيب  حدسه ؛ لقد  شعرت  بوجودي  المسكينة ! ”

أدرك مجدي أن مرض والدته ليس بالمرض الخطير ، اقترب منها محاولا طبع قبلة على جبينها أو تقبيل يدها ، و لكن فقاعته من المادة المعتمة  لم تمكنه من ذلك ، فأرسل لها و للجميع قبلا في الهواء ، ثم مضى للقاء رفيقه كرزون.

الفصل الثالث عشر

عندما عاد  الدكتور  مجدي إلى المركبة ، استقبله زملاؤه بحفاوة و كأنه غائب منذ سنين ، فقد كانوا يشعرون بالقلق حول مغامرته التي لم تكن لتخطر على أحدهم  ببال .

و بلهفة بدؤوا يطرحون عليه الأسئلة  ، فأخذ يجيبهم و قد انتفخت أوداجه ، فهذه هي المرة الأولى التي يجد فيها نفسه موضع اهتمام على هذا النحو :

  • نعم  وصلت إلى دبي و شاهدت أمي المريضة عن كثب و سمعت بأذني مباشرة  تشخيص الطبيبة .
  • الحمد لله هي وعكة برد بسيطة تحتاج لبضعة أيام لتتعافى منها ، و الشكر الجزيل لوالد أخي حمود الذي ما أن علم بمرضها حتى أرسل  لها الطبيبة الأولى في مستشفى دبي الحكومي  .
  • كانت سياحتي السريعة هذه تجربة فريدة  شعرت خلالها  و كأنني طائر الفينق الأسطوري أو كأنني روح حرة تتنقل من مكان إلى مكان ، مع إلغاء كامل لعنصر الزمان .
  • الحقيقة يا إخوتي الأعزاء ، أن ما نجهله أكثر بكثير مما نعلمه ، و كل ما أفنينا عمرنا في دراسته .
  • و الفضل الأول و الأخير في هذه التجربة الرائعة ، لأخي كرزون الذي لن أنسَ له هذا الجميل .
  • هل اقول أنني كنت أحلم ؟ صدقا كأنني كنت أحلم ، و لولا هذه الحقيبة التي ملأتها بالعينات ، لظننت أنني كنت  أحلم !!!

**

يسألهم كرزون و هو يضحك فيخرج  ضحكه كصفير الكناري :

–      ماء أم  بترول ؟

يضحكون بدورهم ، ثم يقترح الدكتور هشام العودة إلى مملكة المادة المعتمة لزيارة المختبرات ، و يثني الدكتور حمود على اقتراحه ثم يضيف :

= لقد حصلنا من المعلومات في رحلتنا هذه ما يحتاج إلى سنوات من الدراسة و التحليل ، و أعتقد أننا لو استمرينا نتنقل من مكان إلى مكان على نحو ما نفعل ، لأمضينا باقي عمرنا في الأعماق .

يقاطعهما كرزون قائلا :

–      إطمئنوا ، فكل ما ينقصكم من معلومات ستجدونه في مختبراتنا ..

و هنا يتخذون قرارهم بالإجماع : ” العودة إلى مملكة المادة المعتمة للاطلاع على مختبراتها ، و وداع ملكها و علمائها . ”

و تبدأ من ثم رحلة العودة …

 

و بدأت الجولة في المختبرات ….

كل ما كانوا يرونه كان مدهشا  ، القاعات الفسيحة التي تشغلها المخلوقات المشعة  كثيرة  العدد ، و قد  انكبوا على أجهزتهم  المتنوعة _ و التي لم يشاهد العلماء العرب مثيلا لها من قبل –  انهمكوا جميعا في دراساتهم و أبحاثهم ..

قال لهم  هو وزير العلوم جِمنا : ” بإمكانكم طرح ما تشاؤون من الأسئلة إذا شئتم ، و لتنظيم ذلك و اختصارا  للوقت ، أقترح أن يرافق أخي ميمون الدكتور حمود إلى مختبر علوم الطاقة  ، و يرافق أخي  كرزون  كل من الدكتور مجدي و الدكتور هشام  إلى مختبر علوم الجيولوجيا ، و يرافق أخي زينون الدكتور رياض إلى مختبر علوم الحركة ، أما أنا شخصيا فسيكون لي شرف مرافقة الدكتور عبد الله إلى مختبر علوم الألكترونيات ، و هي العلوم التي تستفزني و تثير اهتمامي على الدوام  لما  لها من سلبيات بالنسبة لعالم المادة المعتمة ، بل حتى بالنسبة للبشر على المدى الطويل…”

و بعد أن التقط أنفاسه أضاف :

“و في أعقاب الإنتهاء من الجولة ،  لنا جلسة  فلنسمها  مؤتمرا  مصغرا ، نناقش  خلاله  ما تم إنجازه  نتيجة تعاوننا  معا  ، كما  نتدارس  حول  ما  يمكن  فعله من أجل  مستقبل  أفضل  لنا  و لكم . ”

و بدون أدنى تردد وافقوا جميعا على اقتراح جِمنا وزير العلوم في مملكة المادة المعتمة .

**

عقد العلماء العرب اجتماعا خاصا بهم قبيل موعد المؤتمر الذي دعا إليه وزير العلوم  و اتفقوا على النقاط التي سيثيرونها  ثم  كلفوا الدكتور حمود أن يتكلم بالنيابة عنهم ..

و قد ضم المؤتمر كل من العلماء العرب الخمسة إضافة لوزير العلوم في مملكة المادة المعتمة و معاونيه الثلاثة  ، و بعد أن افتتح جِمنا المؤتمر بإعلانه عن سروره البالغ للتعرف على هذه الزمرة الرائعة من صفوة العلماء البشريين العرب ، ترك الكلمة للدكتور حمود ، الذي أكد على النقاط التالية :

*أن النفط و الغاز غير قابلين للنضوب و أن إنتاجهما مستمر  في أعماق الأرض ، و يشمل تقريبا معظم الكرة الأرضية.

*أن الماء العذب متوفر أيضا في الأعماق و في كل مكان من الكرة الأرضية ، و أن استخراجه  سيوقف  ظاهرة التصحر  بل و سيحول الصحارى و الجبال  الجرداء إلى أراض زراعية و غابات، تخفف من  التلوث و الإحتباس الحراري و ربما تلغيهما .

*أن إمكانية العيش للحياتين الحيوانية و النباتية في أصعب الظروف حقيقة واقعة ، و أن حالة الظلام الدامس أو ظروف الحرارة العالية جدا أو الضغط الهائل لا تمنع من نشوء و ارتقاء نباتات أو حيوانات برية كانت أم مائية .

* أن باطن الكرة الأرضية شبيه بقطعة اسفنج لكثرة مافيه من فجوات و كهوف يصل طول بعضها إلى عشرات الكيلومترات

* أن  باطن الأرض مليء بالمعادن و أشباه المعادن بما فيها المعادن  الثمينة كالذهب و النحاس و الماس

* أن باطن الأرض بقدر ما فيه من ثروات بقدر ما فيه من مخاطر ، فالشقوق التي تخرج منها الصهارة  ثم تندفع على شكل براكين ظاهرة أو خفية أكثر بكثير مما كنا ظن و تشكل تهديدا مستمرا لجميع شعوب الأرض بلا استثناء .

ثم أضاف الدكتور حمود

*هذه الحقائق سوف نعلنها حال بلوغنا أرض الوطن ، مدعمة بالبراهين العينية و الصورة و الصوت ، و سندعو العالم للتعاون من أجل تحويل الكرة الأرضية إلى أرض سلام و رفاهية لكل شعوبها ، حيث لن تكون ثمت حاجة للطاقة النووية و مخاطرها الجمة ..و الأهم من كل ذلك ..لن تكون هناك أية حاجة للصراعات و الحروب ..

*و قد اتفقنا أيضا ألا نتحدث إطلاقا عن الظواهر الحية للمادة المعتمة أو عن حضارة  أتلنتيا …

****

تناول وزير العلوم الحديث ، ليفاجئهم بقوله :

– بإعلانكم ذلك ، سوف ترتكبون غلطة كبرى قد تودي  بحياة  الكثيرين و قد  تودي بحياتكم بل من المرجح أن  تودي بحياتكم ……

ينظرون إلى بعضهم بعضا و قد  صعقتهم المفاجأة و تملكتهم الحيرة ..

إلا أن جِمنا يستأنف كلامه – غير آبه لهمهماتهم – فأضاف :

–      أولا بالنسبة للنفط ، سوف يؤدي إعلانكم إلى تكريس ميزانيات الدول الفقيرة لغرض استخراج النفط ، و سوف تزداد الكميات المكتشفة إلى أرقام خيالية ، مما سيؤدي إلى انخفاض سعره إلى مستويات دنيا  تلغي قيمة الإستثمارات التي وظفت من أجله ، مما سيؤدي بالتالي إلى إفلاس الكثير من الدول الفقيرة ، و من جهة أخرى فإن استهلاك النفط سوف يتضاعف مما سيزيد من مشكلتي التلوث و الإحتباس الحراري .

–      ثانيا  ، لقد ارتكبتم غلطة فاحشة  لدى وصولكم العلني إلى كوبا في بداية رحلتكم ، و ما رافقه من ضجة إعلامية  ، و لمعلوماتكم  فإن الأجهزة الإستخبارية لكثير من الدول المعروفة بعدوانياتها ، كانت تتسقط أخباركم منذ تلك اللحظة  ، ساعية إما لإجهاض منجزاتكم أو لسرقتها حتى لو اقتضى الأمر تصفيتكم ، فهي دول  لا ترضى أن يختطف منها أحد أضواء التفوق ، و لا تقبل بأي شكل من الأشكال إمتلاك العرب – بالذات – لأية تكنولوجيا متقدمة .

و تنتصب الشاشة المائية العملاقة ، يظهر فيها مجموعة من سبعة أشخاص ، يتشاورون  حول عدة مخططات موضوعة أمامهم و عليهم إختيار أحدها ، و يبدأ من ثم من نادوه بالكولونيل ، شارحا مخططه :

* عندما يعلنون عن عودتهم  ، تندفع  ثلاث حوامات من حاملة الطائرات  (X)  تكون مهمتها تفريغ  المنطقة من الجماهير  بإطلاق الرصاص و القذائف الصوتية في الهواء لترويع الناس و الفرار بجلودهم  .

* أحد زوارقنا السريعة و المموه على شكل يخت فاخر ، يتحرك بسرعة و عليه رجال مدربون خصيصا لهذه المهمة  ، يقومون بقطر المركبة ( دبي 1) بعيدا عن الأنظار .

*  إحدى سفننا الحربية المموهة لتظهر على أنها ناقلة نفط ، جهزناها خصيصا  لتبتلع            (دبي1) في جوفها حال وصولها .

* في أعالي الجو سيجول سرب من الطائرات الحربية لحماية العملية .

يعلق جِمنا قائلا :

هذا السيناريو التقطناه و سجلناه قبل دقائق ، و الإجتماع الذي شاهدتموه عقد فوق سفينة حربية متواجدة حاليا في مياه الخليج ..

و لمعلوماتكم فإن 530 من العلماء العراقيين و أساتذة الجامعات على الأقل  قد تمت تصفيتهم   منذ بدأ غزو العراق ، و قد سبق أن عرضنا عليكم بعضا من مشاهد هذه التصفيات ..

أما لماذا سيتسهدفونكم فالقائمة ، تطول أولها هذه المركبة ( دبي 1) التي سبقت و تفوقت على كل تقنياتهم في مجالي الحفر و الدفع ، و ثانيها هذا الكم من المكتشفات و المعلومات التي حصلتم عليها ، و التي ستضعف مراكزهم كأغنى و أقوى البشر ..

يتناول ميمون الحديث :

-بإمكانكم – يا عرب – و هو يحلو له أن يناديهم على الدوام يا عرب و كأنه غير مصدق أن العرب يمكن أن يظهر من بينهم علماء أفذاذ – بإمكانكم أن تعملوا بصمت لخدمة بلادكم و خدمة البشرية ، فالنفط – مثلا – بدلا من أن يكون مصدرا للطاقة القذرة ، يمكن تحويله إلى أسمدة ، و يمكن تحويله  إلى أغذية ..

يقاطعه الدكتور حمود قائلا :

جرت تجارب فاشلة في هذا المجال ، فطعم النفط ظل ظاهرا ، حتى  في لحوم الحيوانات التي اغتذت بطعام  مصنع  من النفط .

يبتسم ميمون ، ثم يجيبه :

–      نعلم ذلك يا دكتور حمود ، و لكن علماءنا تمكنوا من اكتشاف المعادلة التي بواسطتها يتحرر الغذاء المصنع ، من كل آثار النفط ، طعما و رائحة ، و سنزودكم بها ..

ثم يضيف ميمون قائلا :

– بوسعكم أيضا استخدام الهايدروجين كطاقة نظيفة بديلة عن النفط ، فالماء – كما شاهدتم – متوفر في كل مكان .

هنا يفاجئ ملك مملكة المادة المعتمة الحضور بظهوره الأزرق المشع ، فيحيي الجميع ، ثم  يبدأ حديثه متأنيا و مشددا على مخارج الحروف ..

  • اتفقوا مع قومكم على أن تكون عودتكم  غير معلنة و محاطة ببالغ السرية ، و أقترح على سبيل المثال أن يشيع قومكم أنكم مفقودون  ، ثم فليعلنوا أنهم يئسوا من العثور عليكم ..
  • اعملوا بسرية تامة و ابتعدوا ما أمكنكم عن الأضواء ..

ثم ختم حديثه قائلا :

* شرفني حقا و أمتعني و شعبي وجودكم بيننا ، و ستظل زيارتكم و التعرف عليكم ، محل فخرنا و اعتزازنا ، و ثقوا أننا مستعدون لنجدتكم و معاونتكم في أي وقت تشاؤون ؛ فما عليكم إلا أن تلفظوا جِمنا حتى يكون جمنا بين أياديكم ، و ما أن ينطق أحدكم باسم كرزون حتى يكون كرزون إلى جانبكم  ,

ثم ختم حديثه قائللا بصوت حزين ..

*ستعودون إلى وطنكم و ستكون قلوبنا معكم .

الفصل الأخير

الزمان : بعد عشر سنوات من وداع ملك المملكة المعتمة ….

و أمام ذهول علماء وكالات الفضاء ، ناسا الأمريكية ، و أوسا الأوربية ، و جاكسا اليابانية ، و غيرها  في الصين و الهند و الأرض الفلسطينية المحتلة ،  أظهرت  صور التقطتها أقمارهم الصناعية ، اتساع الرقعة الخضراء في  صحارى شبه الجزيرة العربية و شمال أفريقيا ، و تآكل تلك الصحارى بوتيرة متسارعة !!..

و أمام دهشة شركات البترول العالمية و بدون مشاركتها و بتقنية عربية بحتة ، ظهر البترول بكميات غزيرة في جوار كل من مكناس و أغادير في المغرب العربي ، و قرب جبل علي في دبي  و الفجيرة و العين  في الإمارات العربية ، و في واحتي  سيوه و الفرافرة في مصر ، و قرب تدمر و البوكمال في سورية ، و في كل من ضواحي رام الله و مخيم بيت لاهية في غزة في فلسطين ، و يجري حفر آبار جديدة في كل من صحراء تونس الجنوبية ، و قرب مدينة ، معان في الأردن ، و جوار مدينة طرابلس و بلدة حارة الناعمة في لبنان!!!

أما ما صدمهم حقا و صدم حكوماتهم ، تناقل وسائل الإعلام خبر انطلاق صاروخ عربي نحو الفضاء الخارجي و اقترابه من كوكب الزهرة !!!!

============

*نزار بهاء الدين الزين

   سوري مغترب