قصة خيالية
نزار ب. الزين*
كان وضّاح قد أنهى لتوه تأديب شقيقه الصغير ، نفث زفرة ارتياح ثم اتجه إلى غرفته فأغلق بابها و انبطح فوق سريره لاهثا ؛ عندما دوى إنفجار هائل اقتلع نافذة الغرفة و بابها و قذف به و بسريره عاليا ثم حط به محطما .
شله الرعب لفترة ، و لكنه أدرك أنه لا زال حيا ، فقد تمكن من تحريك يديه ثم ساقيه ثم رأسه ، فنهض ليرى كل شيء من حوله في حالة فوضى مرعبة .
استبد به الفضول و رغم خوفه الشديد خرج إلى الشرفة ، ألقى نظرة وجلة على الشارع من تحته ، و يا لهول ما رأى ؛ ثمت سيارة قد تحولت إلى كومة من معدن أخضر اللون أشبه بعلبة صفيح مهروسة ، بينما لا زال الدخان يتصاعد منها و من سيارات أخرى كانت في الجوار .
ها هي سيارات النجدة تعوي مندفعة تتبعها سيارات المطافئ و الإسعاف و الأمن العام و المخابرات و البحث الجنائي ، يقيمون على عجل طوقا أمنيا حول المنطقة ، ثم يتوافد الصحافيون فيمنعهم ضابط كبير – بغلظة – من الإقتراب ، و يصادر إحدى الكاميرات التي أفلح صاحبها بالتقاط بضع صور بها .
و خلال عشر دقائق تحول الشارع كله إلى ما يشبه حالة طوارئ في أعقاب غارة جوية .
أضرار كبيرة لحقت بواجهات المباني ، نوافذ و أبواب محطمة ، زجاجها يملأ أرض الشارع ، و مع ذلك و رغم خطر إنهيار الشرفات كما حدث في العمارة المقابلة ، فقد غصت بالكبار و الصغار الذين استبد بهم الرعب و الفضول معاً..
تلفَّت وضاح حوله متفقدا مدى الأضرار التي أحاقت بشرفة بيته ، فلمح بطيخة كبيرة خضراء لامعة ، يحملها مستغربا و يدخل بها إلى غرفة الجلوس ، ليجد شقيقه ماجد مختبئا تحت طاولة الوسط و هو يرتعش هلعا ، يحاول جره فيعلو صياحه ، يحاول تهدئته و لكنه يزداد صراخا ، فيتركه لشأنه لفترة ، ثم يحني رأسه نحوه و ينذره بأوخم العواقب إن تفوه بكلمة لوالديه !
يشغِّل التلفاز …
جميع القنوات تتحدث عن الإنفجار المروع !! :
” لقد تم إغتيال محمود بك ، مدير عام وزارة التموين بعبوة تزن ثلاثين كيلوغراما من المواد المتفجرة ، زرعها مجهولون أسفل سيارته أدت إلى وفاته في الحال ، و هناك بعض الإصابات المتوسطة و الطفيفة ، و لكن الأضرار المادية التي لحقت بعدة سيارات و بواجهات عدد من المباني جسيمة . “
*****
يشعر وضاح بالعطش ، يتذكر البطيخة ، يحملها فوق طاولة الطعام ، يضعها في وعاء كبير، يخرج سكينا من الدرج ، يطعنها تمهيدا لتقطيعها ، و لكن إحساسا غريبا ينتابه ، ثمت من يحاول جذب السكين ؟!!!
يظن نفسه –في البداية – متوهما ، يحاول إخراج السكين فلا يتمكن ، و السكين لا تزال تتحرك نحو داخل البطيخة و لكن ببطء !
يشعر ببعض الخوف ، يجرب شدها ثانية و ثالثة ، ثم يستخدم كلتا يديه و كل قوته ، و لكن السكين لا تزال تنجذب نحو باطن البطيخة !!!.
يتحول خوفه إلى رعب ، يقرر ترك البطيخة و السكين ، و لكنه لم يتمكن من إفلات مقبض السكين من يده ، فالمقبض التصق بيده و كأنه جزء منها .
يتحول رعبه إلى هلع ، يصرخ مستنجدا ، و لكن من ينجده ؟ والداه لا زالا في عمليهما ، و الصغير ماجد لا زال تحت الطاولة مستمرا في نحيبه …
يا للمصيبة …
بدأت يده تنجذب إلى داخل البطيخة …
ترتعد فرائصه ،
ينتفض محاولا الخلاص ،
يصرخ بصوت أعلى ،
صوته أصبح أعلى و أقوى من سيارة النجدة التي وصلت اللحظة حاملة أحد كبار المسؤولين ،
يضيع صراخه مع ضجيج الشارع الذي تحول إلى ساحة طوارئ ،
ثم تختفي يده داخل البطيخة …
ثم يختفي كتفه…
ثم يختفي رأسه …
ثم ….
تبتلع البطيخة وضاح بكل لحمه و عظمه و شحمه !!!
*****
يجد وضاح نفسه في قاعة فسيحة تشبه قاعات المؤتمرات ، و قد غُصت بعدد كبير من الأحياء بدت وجوههم غير محددة المعالم و قد توزعوا في فئات ، كل فئة منها ترتدي ضربا من الثياب الموحدة مختلفا عن الأخريات ، و أمام كل مجموعة نُصبت لافتة تحدد انتماءها : ( حزب الكلوكوز – حزب الفيتامين آ – حزب الفيتامين ج – حزب الكالسيوم – حزب الفوسفور – حزب المغانيسيوم – حزب الألياف – حزب البذور ) ، و يتصدر القاعة ثلاثة أحياء يبدو أنهم رئيس المجلس و مساعداه .
أما هو فكان ضمن ما يشبه قفص المتهمين في محاكم البشر .
يبتدئ رئيس المجلس السيد ( أكسيجين ) بشرح الموقف فيقول مخاطبا الجمع : << اليوم تمكن علماؤنا من تحقيق إنجاز علمي رائع ، فقد استطاعوا للمرة الأولى التحكم بعناصر فضائنا الخارجي مما مكننا من تنفيذ القرار رقم 14 الذي اتخذه مجلسكم الموقر في الأسبوع الماضي ! >> .
يقوم مساعد الرئيس السيد ( هيدروجين1 ) بتلاوة القرار : << بما أن الإنسان لا زال مستمرا في سلوكياته العدوانية وفق شريعة الغاب ، إبتداء من إيقاع الأذى الجسدي أو النفسي ، من قبل فرد على فرد أو مجموعة على فرد أو فرد على مجموعة أو مجموعة على مجموعة ، و ما يرافق ذلك من تخريب للأنساق الفيسيولوجية و السايكولوجية التي خُلقوا عليها في أحسن تقويم ، إضافة إلى تدميرهم المتعمد للمنشآت و الممتلكات و عناصر البيئة ، فقد قرر المجلس إيقاع العقوبات الإقتصادية على البشر على مراحل تبتدئ بحرمانهم من أكل البطيخ ، أما إذا استمروا في غيِّهم خلال سنة من تاريخه ، فالعقوبة التالية ستكون حرمانهم من الإستفادة من كل القرعيات ! و يستثنى من هذا القرار النساء الحوامل و المرضعات و الأطفال اليتامى و مجهولو الوالدين و كذلك يستثنى المعوقون و دعاة السلام و محاربو الفساد أيا كان إنتماؤهم ، و ستقوم كل سنة لجنة مختصة بمراجعة أحكام المقاطعة و تطويرها وفق ما يقتضيه الصالح العام ! >>
يقوم المساعد الثاني للرئيس ( السيد هيدروجين2 ) بتشغيل شاشة تلفزة عملاقة بدأت لتوها بعرض نقل حي من فضاء البطيخة البشري لمؤتمر صحافي يترأسه مسؤول كبير : ” يا أخوان كل الموضوع وما فيه أنَّ البطيخة فُقدت , ولا يعُرف مكان وجودها , أو حتى من سرقها . وما الغاية من وراء سرقتها “
و يعلق الرئيس قائلا : << إنهم – كالعادة – يتجاهلون المغدور الذي نجح في إصلاح إدارته من الفساد و الذي إغتيل لهذا السبب ، و يركزون على بطيخة ! >>
ثم يستأنف خطابه قائلا : << و اليوم تمكن علماؤنا من تحقيق أول إنجاز تقني في تاريخ البطيخ ، فقد تمكنوا باستخدام تقنية فائقة ، من تحقيق البند الأول من قراركم التاريخي ، إخواني …لقد تم اليوم جذب هذا العدواني الشاب مع سكينه كأول تنفيذ لأحكام العقوبات الإقتصادية التي فرضتموها على البشر! >> ثم يكمل الرئيس خطابه مشيرا بإصبعه نحو وضاح : << هذا الغلام ذو السادسة عشر ربيعا ، اعتدى بالضرب المبرح على شقيقه الصغير ذي السابعة لأسباب تافهة ، تلك هي تهمته الأولى ، أما تهمته الثانية فهي استيلاؤه على البطيخة التي تمكن علماؤنا من إنقاذها من التلف خلال الإنفجار الهائل الذي شاهدتم آثاره المرعبة قبل قليل ، ثم محاولته تقطيعها تمهيدا لأكلها ، مخالفة للبند الأول من قرار العقوبات الإقتصادية الذي وافقتم عليه بالإجماع ! >> .
ثم يضيف قائلا : << هؤلاء البشر الذين مضى على وجودهم فوق الكرة الأرضية آلاف السنين ، تمكنوا من تطوير أساليبهم الحياتية و أدواتهم الحضارية إلى الأفضل و لكنهم أبدا لم يتمكنوا من تطوير عواطفهم و عقائدهم أو التخلص من غرورهم و عدوانيتهم ، إعتباراً من أصغر عنصر كهذا الذي يقف بين أيديكم و انتهاء بأقوى مجموعة كالتي غزت مؤخرا دولتين مستقلتين بحجة مكافحة الإرهاب ؛ و لا زالوا حتى اللحظة يقتتلون في كل مكان ، مستخدمين أبشع أدوات الفتك و الدمار ! >>.
*****
يدخل الوالدان إلى الدار و قد استبد بهما القلق و الرعب ، إثرعلمهما بوقوع الإنفجار جوار دارهم ، فيجدان ماجد نائما تحت طاولة الوسط في غرفة الجلوس ، أما وضاح فقد وضع رأسه فوق طاولة الطعام معانقا بطيخة الأنشاصي مستغرقا في ثبات عميق .
*****
مقاطع من قصة ( البطيخة ) ،
(( عقبِ تعينيه مديرا لتلك الدائرة أخذ عهداً على نفسه بإصلاح الأمور, حتى تعود نظيفة من كل ما هو سلبي , رغم نصائح بعض المخلصين له بالتأني في الإصلاح , إلا أنه مضى فيه بكل جدية وإخلاص , ولم تمضِِ عدة شهور حتى دبت الحياة في الإدارة , وأشاد كثير من الناس بفعالية الإدارة , وعودة الحياة الطبيعية إليها, وأكدوا أن الفضل يعود لمديرها الجديد وما يبذله من جهود مخلصة في هذا السبيل . ))
(( و في صباح أحد الأيام , وقع انفجار كبير في سيارة المدير , أدى إلى مقتله , بشكل بشع , ووصلت التحقيقات إلى طريق مسدود , فلم يُعرف المسئول أو المسئولين الذين يقفون وراء الحادث .))
(( غبي ! كيف لا أشغل بالي بها , ونصف جمعيات ومؤسسات حقوق الإنسان في العالم تستفسر عنها , بل وصل الأمر إلى أنّ تستفسر بعض وزارات خارجية دول لها وزنها في العالم , وكثير من وكالات الإنباء والسفارات والصحف من عدة دول في العالم .))
(( عُقد المؤتمر الصحفي وكان مجمل الاستفسارات التي وردت في المؤتمر , تدور حول شكل ولون ووزن وحجم ومذاق البطيخة , إلا أنّ أحد الصحفيين سأل عن مصدر البطيخة , وهل هي من إنتاج محلي أم مستوردة ؟ ومن وضعها في سيارة المجني عليه ؟ ولماذا لم تنفجر رغم شدة الانفجار؟ الذي أودى بحياة المدير وحطّمَ سيارته تماماً , ولماذا مُنع نشر صور للبطيخة ؟ , بل وأين البطيخة نفسها ؟ ومن أخذها ؟ ومن له مصلحة في اختفاءها ؟ ))
* الأنشاصي : الكاتب الأستاذ عبد الله خليل الأنشاصي ، كاتب قصة ( البطيخة ) التي بنيت عليها قصة ( بطيخة الأنشاصي ) – https://pulpit.alwatanvoice.com/articles/2005/07/19/25789.html
———————–
سوري مغترب