قصة
نزار ب. الزين*
كانوا جيرانا ، يحيّون بعضهم بعضا عن بعد ، ثم يمضي كل إلى سبيله ..
كانوا جميعا يسكنون في منزل واحد ذي ساحة كبيرة ، تلتف حولها غرف الساكنين ، لكل أسرة من الأسر الأربع غرفة واحدة ، فلم يكن في ذلك البلد حديث النهضة ، مساكن تكفي هذا الفيضان الدافق من العمالة العربية و غير العربية ..
كان في المنزل حمّام واحد يحتوي على مرحاض واحد ، ففي الصباحات الباكرة ، و قبيل توجههم إلى أعمالهم ، كانوا يصطفون في طابور لقضاء حاجاتهم البيولوجية ، أما النساء فكن أقدر على ضبط أنفسهن ريثما يتحرك رجالهن إلى أعمالهم ، ثم يبدأ طابورهن ، ليتكرر المشهد المضحك المبكي ..
و كان في المنزل مطبخ واحد ، تتناوب النساء على استخدامه ، فكان سببا لكثير من المشادات بينهن بداية ، و لكن أخذن مع الوقت يتآلفن ، ثم توطدت الصلات بينهن ، ثم انتقلت عدوى الإلفة إلى الرجال بالتدريج .
و ما كاد منتصف السنة الأولى يمضي حتى أصبح القاطنون أشبه بعائلة كبيرة ؛ ففي الأمسيات كان الرجال يتحلقون حول لاعبي النرد ( طاولة الزهر ) بين مشجع و متدخل و ناصح ، و النساء يتحلقن في الطرف الآخر في حوارات تكاد لا تنتهي ..
و ما أن أتي شهر نيسان ( ابريل ) حتى تحول البلد كله إلى أتون حارق يشوي الأبدان و الأذهان ، لتصبح مروحة السقف ، و هي أداة التهوية الوحيدة في ذلك الحين ، بلا قيمة ..
في النهار كانت ميساء زوجة الأستاذ بشير ترش الماء من حين لآخر على أرضية الغرفة و جدرانها ، و فوق السرير بفراشه و ملاءاته ، لتتمكن من اجتياز فترة الأوج بين الظهيرة و العصر ، أما في المساء و بعد انتهاء السهرة ، كانت ميساء- كما تفعل جاراتها ، تعلق ملاءات السرير على حبال الغسيل فتشكل منها حاجزا ، يسمح لها و لزوجها و طفلها الرضيع أن يناموا في الخلاء ، طلبا لنسمات الليل الأرحم نسبيا .
و لكن في موسم العواصف الرملية ، كانوا يحرمون حتى من هذه النعمة …
في أواخر العام الدراسي أعلنت وزارة المعارف أنها ستفتتح في ثلاث مدارس نوادٍ صيفية تجريبية ، تمارس فيها مختلف الأنشطة الرياضية و الثقافية ، و تهدف إلى إشغال أوقات فراغ طلاب المدارس بما ينفعهم و ينمي مواهبهم .
فتقدم الأستاذ بشير للعمل في هذه النوادي مع من تقدموا ، و لم تمضِ أيام قليلة حتى جاءه ما يشير إلى قبوله .
كان القيظ قد بلغ مداه ، فأشفق على زوجته و ابنه ، فقرر سفرهما إلى الوطن .
ثم سافر جيرانه ، الأسرة بعد الأسرة ، فلم يبقَ سواه ، و جاره ثمان النجار و عروسه منوَّر اللذان يقطنان في الغرفة المقابلة في أقصى ساحة الدار ،
عانى الأستاذ بشير مشقة فراق زوجته و ابنه ،
ثم ..
عانى مشقة الوحدة التي لم يعتد عليها ،
ثم ..
عانى من نظام الورديات المتبع في تلك النوادي ،
ثم …
عانى من تجاوزات بعض الطلبة كبار السن ،
ثم ..
بدأ يعاني من مداخلات عروس جاره منوَّر التي فرضت عليه نفسها :
” إعطني مفتاح غرفتك لأنظفها لك “
” أحضر لي زوجا من الحمام لأطهوهما لك “
” اترك لي ملابسك المتسخة لأغسلها لك “
و بكل لطف كان يحاول التملص من اندفاعها لخدمته :
– يا أختي الكريمة شكرا للطفك و إنسانيتك ، لديَّ أوقات كثيرة للراحة بوسعي خلالها القيام بكل شؤوني المنزلية ..
– يا أختي الفاضلة لا تتعبي نفسك أرجوك ..
و لكنها كانت تصر و تصر و تصر ، فكان يخجل من صدها بغِلظة ؛ و رويدا رويدا أخذ يتقبل منها جمائلها الكثيرة ، و ابتدأ في اعتبارها أختا كريمة ..أو هكذا تراءى له ..
في كل ثالث يوم حيث تكون استراحته في الفترة الصباحية ، كان يحلو له تناول فطوره في الهواء الطلق هروبا من جو غرفته الخانق ، فما أن تراه منوَّر ، حتى تهرع لمجالسته و بيدها دلة القهوة أو إبريق الشاي ..
كانت في البداية تسأله عن طبيعة عمله في النوادي الصيفية .
ثم ..
أخذت تبوح بمشاعرها تجاه زوجها المفروض عليها ،
ثم …
بدأت تطرح عليه أسئلة حول علاقته بزوجته ،
ثم….
تجرأت – ذات مرة – فسألته عن علاقته الجنسية بزوجته ، فأرتج عليه ، و اشتعل وجهه خجلا ،
ثم…..
انسحب متوجها إلى الحمام بحجة قضاء حاجة ..
ثم ……
أخذ يتهرب منها و من مجالستها ، فكانت تقرع باب غرفته ملحة : ” الساعة تجاوزت الثامنة و لا زلت نائما يا بشير ، إنهض يا كسول ، فقد أحضرت لك الشاي و سيبرد إن تأخرت “
و تستمر تقرع و تقرع ، حتى يضطر محرجا لفتح الباب ليجدها و قد أعدت ما لذ و طاب ..
و ذات يوم عاد من ورديته الصباحية و قد أنهكته وطأة الحر الشديد ، فما أن فتح باب غرفته ، حتى وجد منوَّر بمباذلها الشفافة منبطحة على سريره متظاهرة بالنوم .
– ماذا تفعلين هنا يا منوّر ؟
سألها بمزيج من الدهشة و الغضب ، فأجابته :
– المروحة في غرفتي تعطلت ..
فرد عليها – للمرة الأولى – بغلظة :
أرجوك غادري غرفتي حالا !..
اصفر وجهها و ارتعشت شفتاها ، ثم أجابته :
– أتطردني يا بشير ، بعد كل ما فعلته من أجلك ؟
ثم انصرفت و هي تردد :
” صدق من قال ، خيرا تفمل شرا تلقى “
كانت ورديته المسائية قد انتهت لتوها ، عندما عاد حوالي الساعة الحادية عشرة ليلا منهكا ، أدخل المفتاح في قفل باب الدار ثم دفعه كعادته و لكن الباب أبى أن يُفتح ، و بعد عدة محاولات فاشلة ، أخذ يقرع الباب ، و لكن لات من مجيب ، اخذ يدفعه بكلتا يديه ، عندئذ خرج له صاحب الملك من داره غاضبا : ” مهلا يا أستاذ ، أنت تكاد تخلع الباب ! ” قال له ناهرا ، فأجابه بشير : ” اعذرني يا أخي ، فقد عدت لتوي من عملي متعبا و بحاجة ماسة للنوم ، و لكن يبدو أن أحدا ما قد أقفل الرتاج من الداخل ” ، فأجابه المالك متسائلا : ” ألا تعلم أن للدار بابا آخر ؟ على أي حال هناك مفاجأة بانتظارك ! “
تذكر بشير أن للدار بابا آخرا يطل على الشارع الموازي ، و لكنه أخذ يتساءل في سره ” أية مفاجأة في انتظاري ؟ ” ، بلغ الباب ، قرعه ، و بسرعة غير متوقعة ، فتح له جاره الباب .
– مساء الخير ، أخي عثمان ، لا تؤاخني أزعجتك ، و لكن الباب الآخر كان مقفولا من الداخل .
فأجابه هذا بجفاء :
– أنا من قفله ، ثم من أين سيأتي الخير بوجودك يا محترم ؟ على أي حال ادخل إلى غرفتي فلي معك حساب ، و فتح باب الغرفة .
و كم كانت دهشته كبيرة ، عندما وجدها ملأى بالرجال ، عرف بعضهم و جهل الآخرين ، و في أقصى زاوية قبعت منوَّر و معها امرأتان …
– السلام عليكم !!
قالها مرتبكا ، و لكن أحدا لم يرد عليه السلام !
و ابتدأ – من ثم – سيل التأنيب :
– أنت لم تراعِ للجيرة حرمتها ..
– أنت مربي يا أستاذ ؟ بل أنت من المفسدين في الأرض ،
– حرام أن تبقى في سلك التعليم يا أستاذ …
هنا ، صاح عثمان بعصبية :
– أنا جدع !.. و لا أسمح لأحد أن يتحرش بزوجتي ! و لولا أن صبرني أولاد الحلال هؤلاء ، لذبحتك ذبح النعاج !
و تكاثرت الأصوات المنددة ، و بشير صامت يكاد يتفجر حنقا و غيظا ، فقد كان يخشى أن يبوح بحقيقة ما جرى ، فيكون سببا في خراب بيت هذه اللعينة من ناحية ، و في الوقت نفسه يأبى أن يمس أحد سمعته ، و هو الحريص عليها كل الحرص ؛ و لكن عندما أمره أحد الحاضرين أن عليه أن يرحل من الدار خلال اربع و عشرين ساعة ، استفزه ذلك فخاطب الحضور بما يشبه الصياح :
– كل ما سمعتموه من هذه السيدة و زوجها كذب في كذب !!!
اسألوها من تحرش بمن ؟
اسالوها من فرض نفسه على من ؟
اسألوها من كان يخدم من ، و من كان يطهو لمن ؟
اسألوها من كان يهرع لمجالسة من ؟
ثم وجه كلامه إلى زوجها :
كيف لي أن أعرف ملابسات زواجها القسري منك يا سيد عثمان ؟
كيف لي أن أعرف أنها كانت تحب زميلها في الثانوية و أن والدها عندما علم عاقبها أشرس عقاب ، ثم منعها من إتمام تعليمها ؟
هل كنت معكم يوم أرغمها والدها على الزواج منك ؟
هل كنت معكم حين حاولت الهرب ليلة زفافها منك ؟
وقبل أن يلقي بقنبلته المدوية ، دخل مالك الدار، و قبل أن يلقي بالسلام ، قال يلهجة الواثق مما يقول :
= أشهد أن الأستاذ بشير إنسان شريف .
أشهد أن هذه الحرمة – و أشار نحو منوَّر- هي التي كانت تتحرش بالأستاذ و تتودد إليه .
زوجتاي كلاهما ، كانتا تصغيان إلى ما يدور من حديث بينها و بين الأستاذ من وراء الجدار الفاصل بين دارينا ، و تعلماني به أولا بأول ..
من يجب عليه مغادرة هذه الدار ، هو عثمان و زوجته ..
ثم التفت نحو عثمان منذرا :
= يا سيد عثمان ، عليك أن تسلمني مفتاح غرفتك في آخر هذا الشهر .
ثم انصرف ، و ما لبث الحاضرون أن بدؤوا ينسحبون الواحد إثر الآخر ..
منذ صبيحة اليوم التالي ـ توجه بشير إلى مكتب البريد ليرسل إلى زوجته برقية من كلمتين : ” إرجعي حالا “
============================
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب