قصة قصيرة
بقلم : نزار ب. الزين*
هذه القصة مهداة إلى الجالية العربية في أمريكا
بعد يوم حافل بالدراسة و نشاط التمثيل المنتسبة إليه ، ودعت ( ويلما ) ذات الحادية عشر معلمتها و انصرفت مع زميلاتها متجهات إلى بوابة المدرسة في انتظار ذويهن ، كن ثماني فتيات ، ثم أصبحت لوحدها بعد أن غادرت الواحدة إثر الأخرى ، و بينما كانت تنتظر قدوم والدها ، كانت تتلهى بروعة التشكيل الغيمي الذي ارتسم في عرض السماء و طولها ، بألوان مختلف درجات اللون الأحمر ، في حين تحول قرص الشمس إلى طبق أحمر قانٍ كبير الحجم كأنه كتلة من اللهب المتراقص على حافة الأفق البعيد.
(ويلما) عاشقة للطبيعة و تتفاعل مع متغيراتها من جمال إلى جمال ، و هي إضافة لموهبتها في التمثيل فإنها موهوبة أيضا بالرسم ، هذا بخلاف تقدمها الدراسي المتواصل بدرجات لا تقل عن مستويي ( آ. و ب. ) ؛ و على العموم فإن ( ويلما ) طفلة سعيدة و هي محور إهتمام أبويها و جديها .
( ويلما ) تملك هاتفا جوالا كمعظم زميلاتها ، ضغطت على رقم والدها ، عاتبته برقة بسبب تأخره فقد بدأت خيوط الظلام تنسج ملاءتها لتغطي بها الدنيا ، و بدأت تشعر ببعض الخوف ، فأجابها معتذرا ، أنه عالق في اختناق مروري بسبب حادث مروع ، و أكد لها أنه حاول مرارا الإتصال بها قبل الآن دون جدوى ، و كذلك حاول الإتصال بوالدتها فلم يستجب هاتفها ، ثم طلب منها أن تعود إلى الداخل و تقف أمام غرفة الحارس في الحال ؛ فاستدارت كما أمرها والدها ثم تحركت نحو الداخل .
لم تكد تخطو خطوتين أو ثلاثا ، إذا بسيارة تصعد الرصيف ثم تتوقف إلى جوارها حتى تكاد تلتصق بها ، نزل منها شابان ، و بلمح البصر أمسكاها ، كمم أحدهما فاها ، و انتزع الآخر هاتفها الجوال من يدها فألقاه بعيدا ثم انتزع حقيبتها المدرسية من فوق ظهرها بشراسة و ألقاها أرضا ، ثم تعاونا معا على جرها عنوة إلى سيارتهما ،
ثم اختفت .
*****
عندما شاهد والدها كتب ابنته مبعثرة ، أدرك أن في الأمر سوءاً…
هرع إلى غرفة رجل الأمن ، الذي أخبر لفوره مركز النجدة ( 911 ) ، و لم الوقت فابتدءا معا بحثا في غرف المدرسة و دورات مياهها ، بلا طائل .
في هذه الأثناء كانت عدة سيارات للشرطة قد وصلت إلى المدرسة …
ثم وصلت الوالدة ملهوفة ، بعد أن هاتفها زوجها …
ثم وصل الجدان و كانا في أوج الإضطراب ،
ثم لحق بهم عدد من أفراد العائلة و الأصدقاء ..
كل يخبر الآخر ، فالأمر جلل …
بينما أخذ أفراد الشرطة يقرعون أبواب البيوت المجاورة ، في محاولة لالتقاط أية معلومات .
و منذ صبيحة اليوم التالي ، نُشرت صورة (ويلما) المسكينة في الصحف المحلية مع رصد جائزة كبرى لمن يدلي بأية معلومات قد تفيد بتتبع أثرها ، كما قامت محطات الإذاعة المرئية و المسموعة بنفس الدور .
كان الحزن و القلق و الإضطراب و الرعب يخيم على جو العائلة – أما عيونهم التي لم تعرف طعم النوم و التي لم تجف دموعها – فكانت شاخصة نحو الهاتف في انتظار أي خبر متوقع أو غير متوقع .
و قرب باب الدار تجمع بعض الصحافيين و مراسلي التلفزة بعرباتهم و كمراتهم ، في انتظار أي خبر جديد ، أو في محاولة إجراء أية مقابلة مع أي من أفراد العائلة أو أي زائر من زوارها المتكاثرين ، الذين أتوا مستطلعين مواسين .
و تجمع حولهم الفضوليون ، و هم يتهامسون حول فاجعة أسرة ( ويلما ) المنكوبة .
عندما قدم ( بيتر ) شقيق ( ويلما ) ، الذي يتمم تحصيله العالي في جامعة مدينة أخرى من مدن الولاية ، و قد سمع بالخبر عن طريق التلفزة ، هُرع الوالدان لاستقباله معانقين ، بينما ارتفع صوت نحيبهم معا .
و لكن ..
لم تفلح بحوث الشرطة و لا نداءات الصحافة و لا الصور التي طبعت و تم توزيعها في جميع أنحاء المدينة و ضواحيها ثم في جميع مدن الولاية و ضواحيها ، لم تفلح جميعا بالعثور على ( ويلما ) التعيسة أو على أي أثر لها .
تجلد الوالد و عاد إلى عمله بعد أسبوع ….
استقالت الوالدة من عملها ، و تسمرت بجوار الهاتف و التلفاز ، في انتظار بارقة أمل .
عاد الجدان إلى بيتهما حزينين .
و عاد ( بيتر ) إلى جامعته دون أن تفارقه صورة شقيقته .
ثم تحولت ( ويلما ) إلى ذكرى مؤلمة ، كلما طفت تندلع نيران الحسرة و ينبثق ماء العيون مدراراً .
*****
بعد عشر سنوات
أبت الإبتسامة أن تعود إلى شفاه أفراد العائلة ، رغم مرور السنوات العشر .
و لكن بيتر الشاب، الذي كان قد تخرج مبرمجا و مصمما في مجال الحاسوب ، و الذي عثر على عمل مناسب فور تخرجه ، وقع بحب زميلته في الجامعة و التي زاملته أيضا في العمل ..
تمكنت محبوبته من إبعاده جزئيا عن حزنه الكبير ؛ و لكنه لم يتجرأ على البوح بحبه لوالديه ، فقد ظن أنهما سيتهمانه بنسيان شقيقته !.
ثم قرر بيتر و محبوبته أن يكللا حبهما برابطة الزواج ..
و لكي لا يجرح مشاعر والديه ، طار مع حبيبته إلى أكبرمدينة ميسر في العالم ، و هناك تزوجا بعيدا عن أنظار العائلة .
لم يرغب قط بتجريب حظه و رفض أن تطأ قدماه أيا من مائات الكازينوهات المنتشرة في المدينة ، بل اكتفى بمشاهدة المباني الفخمة و تأمل أكبر و أروع نافورة راقصة في العالم و التمتع بالعروض الفنية الشيقة .
و في مساء اليوم التالي توجها إلى مركز المدينة القديمة ، حيث يقام عرض ألكتروني مدهش في شارع مغطى مخصص للمشاة .
على جانبي الشارع توزعت الكازينوهات و كل منها يقدم المغريات استدراجا للسياح المنتشرين ، و في وسط الشارع اقتعد الفنانون الأرض ، يمارسون فنونهم أمام جموع السواح المحتشدين حولهم ، ثم لفت نظره ملهى كُتب على لافتته المضيئة ( عروض راقصات التعري ) ، و وقفت عند مدخله فتاتان جميلتان شبه عاريتين تدعوان المارة للدخول إلى الملهى ، بينما كانتا تقومان بحركات راقصة مغرية .
ابتسم ( بيتر) ثم همس بأذن عروسه ممازحا :
– دعيني أدخل و انتظريني هنا حتى أعود !
فعقصته من يده قائلة :
– إغمض عينيك ، و إمشِ أمامي ، و إلا سيكون عقابك قاسيا !
فضحك و ضحكت ، ثم تابعا سيرهما و قد تأبطت ساعده .
إبتدأ العرض ، توقفا ، فالعرض شيق ، إذ تحول سقف الشارع كله إلى شاشة هائلة الحجم ثم ابتدأت المشاهد المذهلة تتتابع أمامهما ..
و لكن حانت من بيتر إلتفاتة أخرى إلى الفتاتين ، اللتين ما فتئتا – بلا كلل أو ملل- تدعوان المارة لحضور العرض القادم الذي سيبتدئ بعد نصف ساعة ، مستمرتين بحركاتهما الراقصة لإجتذاب السواح .
لكزته عروسه قائلة :
– ما بك يا بيتر ؟ هل حقا تحب الدخول إلى ملهى راقصات التعري ؟
لم يجبها …فقد أحس أن شيئا ما يجذبه نحو الملهى بقوة
اقترب – كالمُنوَّم أو المسحور- من الفتاتين أكثر و أكثر ، غير مبالٍ باحتجاج عروسه .
ثم اقترب أكثر و أكثر و أكثر ،
ثم على حين غرة نادى :
– ( ويلما !!! )
التفتت إحدى الفتاتين نحوه مصعوقة ..
تقدم أكثر و أكثر و أكثر ،
أصبح الآن على بعد خطوتين منها ،
ثم كرر النداء …
– ( ويلما !..)
فأجابته و هي تكاد تنهار :
– ( بيتر ؟ )
ثم اندفعا نحو بعضهما بعضا و التحما بعناق طويل ….
تقدمت منهما زميلتها مرتعشة و قد شحب لونها ، و أخذت تحضهما على المغادرة و الفرار بأسرع ما يمكن مغتنمين إزدحام الشارع بالمارة ، و إلا كانت العواقب وخيمة .
إلتفت ( بيتر ) نحو عروسه التي وقفت معقودة اللسان مشدوهة ، و كان قد حدثها مرارًا عن كارثة إختفاء شقيقته ، فأدركت الموقف في الحال ، فأمسكها بيسراه بينما ظل ممسكا بشقيقته بيمناه ، و اندفعوا جميعا ، نحو سيارتهم المستأجرة مهرولين …..
و منها إلى أقرب مركز للشرطة …
——————
سوري مغترب