قصة واقعية
نزار ب. الزين*
*****
بيوتنا و شققنا كلها مصنوعة من الخشب ، استنزفنا غابات العالم الثالث فتسببنا بهجرة ألوف البشر هربا من الفقر .
و لأن بيوتنا من الخشب فإننا نسمع أحيانا ما يدور في شقق جيراننا و خاصة عندما تعلو الأصوات .
و منذ أن سكنت جارتي الجديدة و هي في العشرينيات من عمرها لا أفتأ أسمع ليلة كل مطلع شهر نحيبها و صياحها و صرخات استغاثاتها .
تعجبت لهذا الوضع ، و بسبب أن الناس هنا من أصول و أعراق مختلفة ، فإن التواصل الإجتماعي شبه معدوم ، أقصى ما يمكن أن تقابل به جارك عبارة ( هاي ) و مع ازدياد الود و الإلفة ، قد تتحول العباره إلى ( هالّوو ) و ليس أكثر من ذلك .
لذا لم أجرؤ يوما على سؤالها عن سر هذا البكاء و النحيب مطلع كل شهر ؟ و لماذا هو مطلع كل شهر ؟
و ذات صباح و بعد ليلة من الصياح و النحيب و الاستغاثة ، و بينما كنت متوجهة لإلقاء كيس القمامة في الحاوية ، شاهدت جارتي المسكينة تجري وراء شاب فارع الطول نرتب الهندام ، تتبعه و على يدها طفلها الرضيع ، تناديه فيتجاهلها ، ترجوه و لكنه يستمر بسيره نحو سيارته غير آبه بنداءاتها ، يصعد خلف المقود ، تقترب منه قبل أن يغلق الباب ، تجثو على ركبتيها ، و تبدأ بالتوسل .
لم أفهم لغتها و لكنها بالتأكيد لاتينية إسبانية أو ربما برتغالية ، ترجوه و تلحف بالرجاء ؛ و لم أكن لأدري علامَ كل هذه التوسلات و الدموع التي قطَّعت نياط قلبي ، و لدهشتي الشديدة دفعها بيده بكل ازدراء و انطلق بسيارته .
نهضت كسيرة الخاطر ، مُهانة ، مخزية بما آل إليه حالها ..
اقتربت منها مترددة ، سألتها عما إذا كانت تتكلم الإنكليزية فأجابت ، و دموعها لا زالت تبلل خديها ” قليلا ” قلت لها :
– لا أريد أن أقحم نفسي بشؤونك الشخصية ، و لكنني اعتدت على سماع صيحات استغاثاتك مطلع كل شهر ، و فكرت مرارا أن أتصل بشرطة النجدة لإغاثتك ، و لكنني خشيت أنني قد اؤذيك ، إلا أنني اليوم و بعد أن شاهدت قسوة زوجك و كيف كاد يدهسك بسيارته ، لم أتمكن من كبت فضولي مقرونا بأسفي الشديد ! فهل يمكنني أن أساعدك بشيء ؟
نظرت إليَّ مكلومة الفؤاد ثم اجابتني بصوت متحشرج :
= شكرا لك ، للأسف ، لا يمكنك مساعدتي بشيء !
*****
و بعد أقل من ساعة ، سمعت قرعا خفيفا على الباب ، و فوجئت بأنها جارتي المسكينة و على يدها رضيعها.
قالت لي بعد تناولت رشفة من القهوة :
= إنه ليس زوجي ، إنه صديقي ( ماي بوي فرند ) و لكنه في حقيقته شيطان أمرد ، أوقعتني الظروف في براثنه رغما عني ، أنا – يا سيدتي – من إحدى دول أمريكا اللاتينية الوسطى ، أهلي في غاية الفقر ؛ عندما علموا بوجود شركة تعمل بالخفاء و تتولى تهريب العمال إلى الولايات المتحدة ، باعوا ما يمكنهم من أثاث المنزل مع قطعة أرض صغيرة يملكونها ، و جمعوا لي المبلغ المطلوب .
سار كل شيء على ما يرام ، فقد تمكنت العصابة من تهريبي مع آخرين ، متسللبن من دولة إلى أخرى حتى بلغنا الحدود الأمريكية المكسيكية . أنزلونا في بيت ، و في الليل تبين لنا أن قبو البيت عبارة عن بوابة نفق يقود إلى الجانب الآخر من الحدود ، أي إلى الجنة الموعودة !!….
و منذ تلك اللحظة بدأت مأساتي ، فقد تقدم رايموند – و هذا هو اسمه – و هو من ضمن أفراد عصابة التهريب في الطرف الأمريكي ، تقدم مني هامسا ، مؤكدا لي إعجابه بي و أنه أحبني من النظرة الأولى ، و أنه يحمل الجنسية الأمريكية و بوسعه أن يدبر لي عملا باسرع وقت ، و أن يحول إقامتي إلى إقامة شرعية عندما يقترن بي .
ظننت أن باب السعد قد فتح لي ، و تصورت أنني أسعد فتاة في كل قريتي بل كل دولتي ..
و من ثم سلمته نفسي ..
حقق لي الشطر الأول من وعده فقد تدبر لي خلال أيام ، عملا في إحدى شركات الخدمة المنزلية .
و لكن …
كان يبتز معظم أجري ..
إدعى أنه متورط بدين إذا لم يسدده تتعرض حياته للخطر ، و كان يقسم لي الأيمان ، أنه سيسدد لي كل سنت يأخذه مني ؛ و لكن عندما طال الأمر و وجدت نفسي عاجزة عن إرسال دولار واحد إلى أهلي الذين ضحوا بالغالي و النفيس من أجلي و من أجل تغيير ظروفهم المعيشية نحو الأفضل ، بدأت أظهر تذمرا فبدأ يقلب لي ظهر المجن .
أما إذا سألته عن الزواج و الجنسية الموعودة ، كان يفتح في وجهي أبواب الجحيم ..
حملت منه ، فحاول إجهاضي بعنف و وحشية ، مستخدما يديه و رجليه و كاد يقتلني و جنيني أكثر من مرة !
و لكن حملي و جنيني كانا اقوى منه ..
قلت في سري :” ربما الطفل يحرك عواطفه ؟! ..”
و لكنه ازداد قسوة و شراسة !…
يعاشرني و يبدي حبا و ولهها ، ثم يبدأ في تعذيبي ..
تصوري أنه كان يكره طفله ، يتضايق من بكائه و قد صفعه ذات مرة !..
تصوري لم يحمله أو يداعبه أو يقبله و لو مرة واحدة ؟!!
ليلة أمس بالذات لم يترك لي حتى ثمن الحليب ، و كلما رجوته أن يترك لي القليل لمتطلبات غذائي و غذاء رضيعي ، كان يزداد رفضا و وحشية ..
قلت لها و قد اسبتدت بي الدهشة : ” و لِمَ لم تبلغي الشرطة حتى الآن ؟ ”
أجابت : ” ألم أقل لك أنني دخلت البلد مهربة ، و أن إقامتي هنا غير مشروعة ؟ و قد أتعرض للسجن ثم الترحيل في أية لحظة ، و هذا ما يهددني به رايموند على الدوام . ”
بكت و بكيت لبكائها ، كان بكاؤها تألما لما آلت إليه أحوالها ، و كان بكائي لعجزي عن مد يد العون إليها ..
*****
بعد عدة أيام رجعت من السوق لأجد شقتها خالية ..
*****
سوري مغترب