قصة قصيرة

نزار ب الزين*

اعتاد  فادي على ممارسة رياضة المشي لمدة نصف ساعة يوميا في حديقة الحي المجاورة لبيته ، و بخلاف الفائدة التي كان يشعر بها ، فقد كان يستمتع  بمصافحة كل شجرة أو شجيرة و عناق كل زهرة أو فراشة ؛ و اكثر ما كان يطربه ، زقزقزة العصافير الدورية و أبي الحناء ، و هديل الحمام و اليمام ، أما الشحارير فكانت المطربة الرئيسية في جوقة الأطيار ، فكان يقلد صفيرها باتقان حتى لتخاله يخاطبها و تخاطبه ، أما العصفور الطنان فكان يوقفه مشدوها ، هذا المعجزة الذي يزيد قليلا عن حجم فراشة و الذي لا يمكن لعين مجردة أن تتابع حركة جناحيه السريعين ، ما أن يشاهد زهرة حتى يتوقف في الفضاء ليمتص رحيقها ، و كأنه امتلك القدرة على مقاومة الجاذبية الأرضية ، فيتوقف فادي عن السير حتى يمضي الطائر مختفيا عن الأنظار بسرعة البرق.

أما اليوم فقد اختلف قليلا عن الأيام المعتادة ، إذ مر بقربه بائع (الآيس كريم) فسال لعابه ، قاوم الفكرة في البداية ، فهو يتريض ليحرق السكر المخزون في جسمه ، فإذا تناول إصبع الآيس كريم فسيضيع جهده الرياضي لهذا اليوم سدى …

و لكن….

نفسه الأمارة بالسوء غلبت إرادته ، فاشترى إصبع الآيس كريم بالشوكولاته التي يعبدها ، ثم تابع رياضته و هو يلتهم حبيبته على مهل ، و أذ اقترب من نهايتها ، أصبح لزاما عليه أن يلقي بالعود و الغلاف في سلة القمامة ، فإلقاؤها على الأرض سيكلفه غرامة  ثمانين دولار .

تلفت حوله باحثا عن سلة قمامة ، إنها هناك في الزاوية ، و لكن ثمت مجموعة من الشبان تكأكؤوا معا و انخرطوا في جدال ، بدأت أصواتهم تعلو كلما اقترب منهم :

” و ما يهمني من جدلهم أو خلافهم أو حتى شجارهم ؟ سألقي مابيدي من بقايا في سلة القمامة و أمضي في سبيلي . ” همس لنفسه .

إلا أنه ذهل تماما عندما لمحه أحدهم ، فنبه رفاقه ، و بلمح البصر انفرط عقدهم ، و تركوا العنان لأرجلهم تسابق الرياح .

تجمد في مكانه : ” ترى ما الذي أخافهم ؟ ” ؛ تساءل في سره ، ثم  تلفت حوله ،  ثم  تساءل  ثانية  : ” ترى هل أخافهم أحد ؟” و لما لم يجد أحدا ، ابتسم ، و همس إلى ذاته : ” إذا أنا المرعب الذي أخافهم ، أنا كامل الأوصاف ، اللي يخوف و ما يخاف ” عبارة سمعها من بطل إحدى المسرحيات الفكاهية الخليجية لطالما أضحكته .

اقترب الآن من سلة القمامة ، القى ما بيده فيها ، و فجأة …… لفتت نظره حقيبتان من نوع حقائب رجال الأعمال مسجيتان فوق بساط النجيل الأخضر.

تردد طويلا قبل أن يتجرأ  ؛  و لكنه تجرأ ، و بيد مرتعشة أمسك الحقيبة الأولى ، رفعها  ، احس بوزنها الثقيل ، أعادها ، و قد ازدادت مخاوفه ، جثا على ركبتيه ، قرب أذنه منها ، و  متأثرا بمسلسلات ( شيرلوك هومز و جيمس بوند )  أصغى جيدا ، و لما لم يسمع شيئا ، زفر بارتياح ، و أسر إلى نفسه : ” بالتأكيد ليست قنبلة ” .

تجرأ الآن ، فتح الحقيبة ، و بسهولة فغرت فاها ، ليرى ، و يا لهول ما رأى ، أكياسا من اللدائن مرصوصة و مليئة بالمسحوق الأبيض .

أرتعشت كل فرائصه و اضطربت كل عضلة من عضلات جسده  ، القاها أرضا و أراد الهرب ، إلا أن الفضول الشديد جذبه بقوة نحو الحقيبة الثانية .

تمالك أعصابه و أفرغ ما في الحقيبة  في سلة القمامة ثم  ألقاها  خلف سياج  من  شجيرات ( البسكوسيا ) ؛ ثم عاد إلى الحقيبة الثانية . تلفت حوله من جديد ليتأكد من خلو المكان ، ثم اقترب من الحقيبة ، ففتحها على مهل .

و صعقته المفاجأة عندما شاهد جوفها مكدسا بالأوراق الخضراء من فئة المائة دولار ..

” غنينا و ما درينا ” صاح في سره بينما أخذ قلبه يقرع دفوف الفرح ، اما دماغه فبدأت تدور به كدوامة بحرية في عاصفة هوجاء ، حتى كادت تفقده رشده ..

استغرقت وقفته فترة لم يدرك مداها قبل أن يتماسك و يجمع شتات نفسه و روابط جأشه ؛ و كلص محترف ، تلفت حوله قربا و بعدا ، ثم حمل الحقيبة و مضى مسرعا إلى بيته .

*****

بادرته زوجته بالسؤال : ” ماذا تحمل يا فادي ؟ ” أغلق الباب وراءه ، و رفع الحقيبة إلى أعلى و أخذ يرقص و هو يغني : ” يا سعدنا يا هنانا  غنينا و السعد جانا ”

تتقدم نحوه زوجته محاولة اختطاف الحقيبة فينقلها إلى يده الأخرى ، و هو لا زال يرقص و يغني ، حتى أنهكه التعب ، فتهالك على أول وثير .

–      ما الحكاية يا فادي ؟ لقد شوقتني حتى الثمالة و شغلت بالي و وترت أعصابي !

= فقط نصف مليون دولار هبطت علينا من السماء !!!!!.

تمالك أعصابك يا هدى ….انظري….

و فتتح الحقيبة …

فما أن رأتها المسكينة حتى جحظت عيناها ،

ثم ازرورقت شفتاها ،

ثم شحب وجهها ،

ثم تخاذلت ركبتاها ،

ثم وقعت على الأرض مغشيا عليها ..

*****

عندما صحت و هدأت حكى لها قصة الحقيبة و كيف عثر عليها ، إلا أنها – على عكس ما توقع – أصابها خوف شديد حتى الذعر ، و كادت يغمى عليها من جديد .

قالت له جادة و هي لا تزال ترتعش من هامة رأسها حتى أخمص قدمها :

–      أولا إنها نقود حرام ، ثانيا قد تكون مسروقة من بنك ، و ستوقعنا في مشاكل نحن في غنى عنها ، ثالثا سيكون مصيرك السجن و مصيرنا التشرد لو شاهدك أحد و أبلغ الشرطة ؛ تخلص منها يا فادي  في الحال …

كانت روان و منير قد عادا لتوهما من مدرستهما الثانوية ، و سرعانما علما بامر الثروة الهابطة على الأسرة من السماء ..

قال منير : ” في السنة القادمة سأبغ السادسة عشر ، أريد أن أتعلم القيادة ، و أريد أن تشتري لي سيارة ( بورش ) ”

قالت روان : ” أريد  دزينة من بناطيل الجينز ، و دزينتين من القمصان من مختلف الطرز الحديثة و من جميع الألوان ، و دزينة من الأحذية تناسبها ، و أريد طقما من الحلي الفضية آخر موديل ..لا بل طقمان .. بل ثلاثة أطقم !…”

قالت أمهما : ” لن يفرح أحد بهذه النقود ، فالحقيبة بما فيها ، سيسلمها  والدكما  منذ  صباح  الغد  إلى الشرطة ..”

و احتدم النقاش ، لم يتمكن أي منهم من تناول طعام  الغذاء أو حتى العشاء ، لم يتمكن أي منهم من النوم ؛ و الجدل لا يزال يدور ،  فيحتدم حينا و يهدأ حينا ، و الأصوات تعلو لفترة حتى لتخالهم يتشاجرون ، ثم تخفت لتحسبهم يتصالحون . أما الشابان فكانا في صف والدهما ، و أما أمهما فكانت لوحدها في جبهة المعارضة الشديدة …

و بينما بدا أنهم – كالحكومات العربية – لن يصلوا إلى أي اتفاق ، ومضت في راس فادي شعلة إلهام ، أقنعت زوجته و هلل لها ولداه : ” أحمل صباح الغد إلى البنك مبلغا بسيطا لا يلفت نظر أحد ، و ليكن عشرة آلاف دولار ، فأدخله في حسابي ، و بعد فترة تفتحين باسمك حسابا في بنك آخر تدخلين فيه مبلغا آخر ، و هكذا …و ليستغرق الأمر سنة كاملة ، فهذا لا يهم ، المهم أننا أصبحنا من الأثرياء ! ” .

*****

حمل الحقيبة و فيها عشرة آلاف دولار ، و توجه فورا إلى البنك ..

وقف في الطابور و هو في غاية التوتر ..

و أخذ يقترب رويدا رويدا من كوى الموظفات ..

ثم جاء دوره ..

نادته إحداهن سائلة : ” بماذا يمكنني أن أخدمك ؟ ”  فأجابها : ” أريد إدخال مبلغ عشرة آلاف دولار في حسابي ، لو سمحت . ” ثم ناولها استمارة إدخال النقود بعد أن أملأها وفق الأصول ، ثم ناولها المبلغ .

انتقت إحدى الورقات النقدية ثم مررتها فوق ضوء بنفسجي ..

تريثت قليلا ، قبل أن تستأذنه لبرهة ..

” لعلها ذهبت إلى بيت الراحة ؟؟! ” أسر في نفسه .

و عندما طالت غيبتها …

التفت حوله فلمح اثنين من رجال الأمن الخصوصيين ، يسر أحدهما في أذن أحد الزبائن أمرا ، فيترك الزبون الطابور و ينصرف خارجا ..

ثم تنبه إلى أن الصرافين في جميع الكوات قد اختفوا الواحد إثر الآخر ..

و أنه لم يبقَ في الميدان غيره ..واقفا كالأبله ..

فبدأت تنتابه الشكوك و الوساوس ..

و فجأة …

اقتحم رجال الشرطة البوابة الرئيسية للبنك ..

” ارفع يديك عاليا و إلا أطلقنا عليك النار !!!..”

تساءل مصعوقا : ” أنا ؟!!!!”

” نعم أنت ..”

” الآن ..انبطح أرضا و ضع يديك خلف ظهرك ..”

ثم …

انقض عليه شرطيان  فقيدا  يديه ثم قدميه ..

ثم…..

حملاه و قد بلل سرواله !..

*****

و في مكتب المحقق فقط  ، يعلم  فادي  أن  النقود  التي  عثر  عليها  ، مزيفة !

——————

*نزار بهاء الدين الزين

سوري مغترب