قصة
نزار. الزين*
بيتوئيل ، حاخام يهودي شاب ،إلا أنه رغم صغر سنه النسبي أصبح قياديا بارزا في إحدى المنظمات الاستيطانية ، و أصبح تأثيره واضحا ، خاصة على طلاب المرحلة الثانوية ، و أصبحت مواعظه و مواضيع خطبه المثيرة حديث العائلات في مستوطنة ( كريات أربع ) و ما جاورها .
صوته الأجش و طلاقة لسانه و نظراته النافذة و معلوماته التاريخية – التوراتية ، و إتقانه للعبرية ) رغم أنه لم يكن يعرف عنها حرفا قبل حضوره إلى فلسطين مهاجرا مع أهله من الاتحاد السوفييتي ( ، إضافة إلى إتقانه إلى لغته الأم و اللغة الإنكليزية و إلمامه بالفارسية و بعض العربية أيضا ؛ كل ذلك جعله رجلا مدهشا ، و خاصة عندما كان يتحدث عن الميثولوجيا الدينية التي تبهر اليافعين عادة ، و تثير انفعالات العجائز و الروحانيين .
ساره ، و يناديها والداها ( ساروشكا ) صبية في السادسة عشرة ، تحمل الكثير من ملامح بنات ( أكرانيا ) ،و لكنها تحمل أفكارا لو افتضحت لاعتبرها سكان مستوطنة (كريات أربع) مرتدة ، بل ربما اتهموها بالخيانة ، فهي مشبعة منذ صغرها بآراء اليهود المتنورين ( ها هاسكالاه ) ، أما والدها مدرس الموسيقا فهو غير مقتنع كثيرا بما جاء في كتب اليهود الدينية – و خاصة ما أضيف منها إلى التوراة ، فكان زملاؤه يلقبونه بالشيوعي تارة أو اليساري أو الملحد تارة أخرى ، و لكنهم كانوا يغضون البصر عنه ، بسبب مهارته في مجاله و خلقه الطيب و عشرته الراقية ، و لأنه كان نادرا ما يتبجح بأفكاره ، و لأنه أخيرا كان ينظر إلى اليهودية من زاوية قومية ، لا تتعارض مع أهداف الحركة الصهيونية ، كما أنه لم يقصر بواجباته العسكرية رغم تقدم سنه ، فقد اشترك في حربي الستة أيام و حرب كيبور ( يوم الغفران- أي حرب تشرين 1973 ) .
أما والدتها التي كانت قبل قدومها إلى هنا معلمة في مدرسة ابتدائية ، فقد اتخذت موقفا محايدا من مسألة الدين ، و هكذا فإن العاطفة الدينية لم تكن دافعها إلى الهجرة ، إنما كان دافعها الحقيقي هو التغيير نحو الأفضل ، بتأثير دعاية صهيونية مخطط لها بإحكام .
ساروشكا ، إلى جانب جمالها الذي يعلو قليلا عن المستوى المتوسط ، تحمل ذكاء يرتفع كثيرا عن ذلك المستوى ، و هي رغم ميولها العلمية و تفوقها في الرياضيات و العلوم الفيزيائية ، فإنها تهوى أيضا مطالعة التاريخ العام و التاريخ المقارن على وجه الخصوص ، فاجتمعت هذه المواهب كلها لتجعل منها فتاة قوية الشخصية ، حرة التفكير ، إنسانية النزعة ، مما أدى بها إلى الاصطدام بالحاخام الشاب ( بيتوئيل ) مرارا ، كلما التقت به ، وعمدت إلى نقاشه .
و الغريب أن ( بيتوئيل) ، دأب على منحها الفرصة تلو الفرصة لمناقشته رغم علمه بقوة حججها ، لعله أدرك بحاسته القيادية أن ذلك سوف يعزز مكانته كقيادي ديمقراطي ، فينمي بذلك الهالة البراقة المتعاظمة يوما بعد يوم حول شخصه ، و هو يعلم أيضا أن أسلوبه النفاذ يمحو كل حجة مهما بلغت حصافتها .
و هناك أمر آخر لاحظه بعض الخبثاء ، فإنه ما أن يصعد أية منصة أو يتوسط أي جمع ، حتى تبدأ عيناه بالبحث – بشغف ممزوج بالقلق – عن شخص ما ، و إذ يزفر بارتياح ، و تشع الطمأنينة من عينيه ، فذلك معناه أنه عثر على ضالته ، و قد أدرك هؤلاء أنها ” ساره روزنسكي ” .
أما حقيقة مشاعرها ، فهي بالتأكيد عكس ما ظنوا ، فقد ظنوها بداية أنها تناكف الحاخام الشاب لتلفت نظره أو أنها تستلطفه ضمنا فتعبر عن ميلها باستفزازه ! و لكنها في حقيقة الأمر ، كانت تزداد نفورا منه يوما بعد يوم بعد يوم ، و يعتريها تقزز و اشمئزاز ، لا سيما عندما يتفث إيحاءاته العدوانية تجاه العرب ، الذين يلقبهم ” أولاد الجارية ” ، أو عندما يلقبهم بالعدوانيين الدمويين .
و إمعانا في تفكيرها المستقل ، كانت تزور المدن و البلدات العربية القريبة من مستوطنتها ، تلك التي خضعت للاحتلال الإسرائيلي منذ حرب الأيام الستة ، محاولة أن تتعلم ما أمكنها من عبارات المخاطبة و المجاملة العربية اليومية ، حتى أنها نجحت بأن تخفف تحفظ الكثيرين تجاهها .
و لم يمنعها أحد من الإسرائيليين جنودا أو مستوطنين ، فدورياتهم تجوب كل مكان ، و يمكنهم نجدتها عند أول إشارة .
كانت تحمل في جوانحها فضولا قويا للتعرف على أبناء الجارية ، كما أسماهم بيتوئيل و آخرون ، و هل هم حقا عدوانيون بطبعهم كما يزعم ؟ هل هم من طينة شيطانية و أعداء للبشرية ؟ هل يمكن لشعب بحاله أن يوصف بالعدوانية ؟ أليس ذلك من قبيل التعميم الظالم ؟ ثم تعود لتؤكد لنفسها أن العرب بشر لا يختلفون عن قومها سوى بالملبس و طريقة العبادة ، أنهم مغلوبون على أمرهم لسبب لا تزال تجهله ، لعله بسبب ثالوث التخلف ( الفقر و الجهل و المرض ) ؟! الذي عززته الحروب و الهزائم .
كانت ( ساره ) تعيش أزمة ضمير ؛ فجأة اقتلعت من بيتها في ( كييف ) ، دخل والدها ذات يوم جذلا و هو يردد : ” لقد سمحوا لنا بالهجرة إلى إسرائيل ” . ثم وجدت نفسها تنتقل مع والديها من قطار إلى قطار ، حتى بلغوا مدينة فيينا ، و من معسكر أقيم للمهاجرين اليهود هناك ، مكثوا فيه بضعة أسابيع ، سافروا عبر جسر جوي أقامه طيران ( العال ) إلى مطار اللد ، و من معسكر أقيم قريبا من المطار ، مكثوا فيه بضعة أسابيع أخرى ، نقلوهم إلى مستوطنة ( كريات أربع ) ، ثم أسكنوهم في شقة أُنجز بناؤها لتوها .
إلا أن الحلم الموعود لم يكن مفروشا بالورود ، فقد تحول إلى واقع من الغربة الموحشة ، الغربة الضاربة جذورها في أعماق الأعماق ، رغم كل هذه السنين الثماني التي انقضت على أول خطوة لها و لوالديها في هذه الأرض التي يسمونها ” أرض الميعاد ” .
بدأت متاعبها و وحشتها مع بداية تعلمها للعبرية التي كانت بالنسبة لها آنئذ مجرد أحاج ، ثم من خلال احتكاكها بزملاء متعصبين ، يفرقون بين إشكنازي و سفارادي – أي بين يهودي شرقي و يهودي غربي ، و بين مهاجر محدث و مواطن قديم ، و عمق وحشتها عشرات المآتم و الجنازات التي عايشتها لمدة أسبوعين إبان حرب كيبور ( حرب تشرين 1973 ) ، كما عمقتها أكثر و أكثر تلك الكراهية التي كانت تشع من عيون العرب أينما قابلتهم أو صادفتهم ، حتى هؤلاء الباعة الذين أفلحت بإزالة تحفظهم تجاهها ، تشعر بأنهم يعاملونها الآن على أنها ” عدوة لطيفة ” ، أو ” عدوة معتدلة أو فضولية ” ، و تظل لفظة ” عدوة ” هي القاسم المشترك ، رغم أنها لا تضمر عداء لأي كان ، و لكن من له القدرة أن يتكهن بخبايا نفسها ؟
و يمعن بمضاعفة شعورها بالاغتراب ، ذلك النباح المخيف الذي يطلقه الحاخام الشاب ( بيتوئيل ) ، لا سيما عندما يطالب بتوسيع مستوطنته (كريات أربع) على حساب أراضي مدينة الخليل المجاورة التي يسمونها ( حبرون ) ، حيث بشر الرب أبراهام و سارة بإنجاب يتسحاق رغم شيخوخته عند بلوطات ( ممرا ) ، و حيث مثوى أبراهام و ساره في مغارة ( ها مكفيلا ) ؛ و كأنما ضاقت الدنيا إلا عن هذه المدينة العربية ، فتتساءل محتارة :
” ما الداعي إلى نبش التاريخ و استرجاع الزمن السحيق ؟ و ما الداعي لحلول شعب مهاجر محل سكان عاشوا في مدينتهم هذه مئات السنين ؟”
و تظل تساؤلاتها مكتومة ، لأن والديها حذراها مرارا من الجهر بمثل هذه الأفكار ، و إن أيداها ببعضها .
كانت ( ساروشكا ) إذا ما أثقلت عليها أفكارها و شعرت بالعجز الكامل عن التنفيس عنها ، تخرج إلى الشارع الرئيسي في مستوطنتها ، ثم تتجه منه مبتعدة نحو ربوة سهلة التسلق ، حتى إذا بلغت قمتها ، أطلت من طرف على المدينة العربية و من طرف آخر على مستوطنتها ، فتمكث هناك فترة تطول أحيانا أو تقصر أحيانا أخرى ، مفكرة متأملة لتصل دوما إلى النتيجة التالية : ” لقد اضطهدَتنا أمم الأرض منذ البابليين و حتى العهد النازي ؛ و ها نحن نكرر نفس الخطيئة المميتة ، فنتسلط على غيرنا و نضطهدهم ، فهل هذه رسالة رب إسرائيل ؟ إن كانت كذلك فإنني …..!”
و إذ تبلغ هذا المنعطف الخطر ، تكبح نفسها عن الاسترسال ، فمن هي حتى تجرؤ على إعادة تكوين فكر سائد ؟
و على القمة نفسها كان عمر يتردد ، و عمر طالب في ثانوية مدينة الخليل ، في سنة ما قبل التخرج ؛ في الصيف و العطلات ، يعاون والده في إدارة متجره لبيع الأقمشة ، و عندما تفتر حركة السوق كان يتسلق نفس الربوة من درب يبتدئ من الناحية الشمالية لمدينته ، فما أن يصل إلى القمة ، حتى يجلس فوق صخرة في أعلاها ، مسترخيا ، ممعنا في التفكير ، و عيناه شاخصتان نحو مستوطنة ( كريات أربع ) ، و لكنه لم يصادف ( ساره ) إلا اليوم ..
كانت سارحة تماما عندما أحست بوقع خطاه ، فجفلت و وقفت تنظر إليه وجلة ، فجفل بدوره رانيا نحوها بشيء من الدهشة ، و إذ تمالكت نفسها سألته بالعبرية : ” من أنت ؟ ” ثم اعترتها رجفة هلع شملت كل جسدها من هامة رأسها حتى أخمص القدم ، عندما أجابها بعبرية ركيكة : ” أنا عمر ، تلميذ عربي ، من هناك ” مشيرا نحو مدينته .
فأخذت تتراجع مذعورة ، و ما لبثت أن تعثرت فوقعت فوق الحجارة بارتطام كان له صداه ، فأسرع ملهوفا ، راغبا في مساعدتها على النهوض من عثرتها ، فما كان منها إلا أن قابلت لفتته الطيِّبة بصيحات استغاثة .
و عندما لاحظت أنه لم تبدُ من أية بادرة عدوانية ، و أنه لم يتقدم لذبحها أو افتراسها ، كفت عن الصياح ، و أخذ لهاثها يتباطأ ؛ عندئذ تقدم ثانية نحوها حذرا و لكن بثبات ، فمد يده إليها بهدوء ، فمدت يدها باردة مرتعشة ، فجذبها و أنهضها برفق و في غاية التهذيب .
رنت إلى وجهه الطفو لي ، فاطمأنت و لكن بطمأنينة خالطها مزيج من الخوف و الاستغراب و الفضول ، ما زال يوترها ؛ و بعد فترة طويلة كانت خلالها تداري ألم ركبتها من أثر السقطة ، سألته : “هل نستطيع التفاهم بالعبرية ؟” فأجابها بالنفي ؛ ” و بالإنكليزية ؟ ” أجابها بالإيجاب ثم أضاف : ” أنا طالب ثانوي ” …..
سألته بشيء من الود و الدهشة معا :
– ماذا أتى بك إلى هنا ؟
أجابها جادا :
= أنظري إلى تلك الأرض ( و أشار إلى سفح الربوة ) ، إنها ملك أبي ، و أحب أن أتفقدها من حين لآخر ، و لكننا لم نعد نزرعها لأن مستوطني ( كريات أربع ) اعتدوا علينا عدة مرات و منعونا من استثمارها ؛ و هناك سبب آخر بالغ الخصوصية … يدفعني إلى الصعود إلى هنا منذ سنوات .
– غريب أنني لم أصادفك إلا اليوم ، مع أنني أتردد إلى هنا كثيرا ..
**
و تكررت من ثم لقاءاتهما ، بدأت مصادفات ، و انتهت بالمواعيد ، و دوما كانا يتناقشان حول أحوال شعبيهما ، حول هذا العداء الشرس الذي عززته الحروب المتكررة و آخرها حرب ( كيبور) .
قالت له ذات يوم و قد احتدم النقاش بينهما :
– اسمع يا عمر ، علمنا أستاذ التاريخ العبري ، أن هناك نصا في التوراة ، على لسان ملاك أرسله الرب ليطمئن هاجر زوجته الثانية بعد تعرضها لاضطهاد ساره زوجته الأولى ، يقول النص : (( تكثيرا أكثر نسلك ، لأن الرب سمع لمذلتك ، و أن يشمعيل -إسماعيل – ابنك هذا ، سيكون إنسانا وحشيا ، يده على كل واحد ، و يد كل واحد عليه )) ، إنها نبوءة ربانية كافية لتجعل كل يهودي يتوجس من كل عربي شرا ، فالعرب هم نسل يشمعيل كما هو معروف .
يجيبها بشيء من الغضب :
= نحن يا ساره ، أصحاب حق ، نحن لم نطرد اليهود من بيوتهم و قراهم و مدنهم ، لنحل محلهم ؛ اليهود كانوا جيراننا ، و كانت بيننا و بينهم علاقات حسنة ، كانوا يعيشون بيننا ، و نعيش بينهم ، و أطفالنا كانوا يلعبون مع أطفالهم ، بل كان بيننا و بينهم بعض حالات الزواج ؛ و لم تتبدل الأحوال إلا عندما جاء المهاجرون الإشكناز يحملون معهم الأفكار الاستيطانية بدعم من البريطانيين الذين كانوا يحتلون بلادنا و ينفذون وعد اللورد بلفور الذي قطعه للمنظمة الصهيونية ، جاؤوا يحملون معهم الحقد ، نتيجة لما تعرضوا له على أيدي النازيين ، و الذي حصل ، أنهم أسقطوا حقدهم على أحفاد هاجر ، فأحفاد هاجر و إسماعيل هم الضحية و ليس العكس .
تجيبه ساره :
– و لكن الحاخام بيتوئيل يزعم أن أهالي حبرون ذبحوا عام 1929 طلاب المدرسة اليهودية فيها ذبح النعاج .
= و العصابات الصهيونية ذبحت أهل دير ياسين ذبح النعاج ؛ الصهاينة ينتقمون لطلابهم ، و العرب سوف ينتقمون لشهدائهم ، و كلنا ندور في حلقة فارغة من القتل و العدوان .
و لعلمك – يا ساره – فأنا شخصيا لا أقوى على قتل نملة ، مع العلم أنني عربي و من نسل هاجر و إسماعيل !
هنا زفرت ساره بارتياح مطلقة مع زفيرها الطويل آخر دواعي ارتيابها ، و عندما ردت هذه المرة ، كان ردها مشفوعا بود كبير و ابتسامة واسعة :
– أحب أن أؤكد لك بأنني و إن كنت يهودية فإنني لا أؤمن بكل هذه الخزعبلات ، و أكره الدمويين من البشر أيا كانت عقيدتهم ، حتى لو كانوا من بني جلدتي و ديني .
ثم أردفت قائلة بشيء من العتاب :
– ألم يحن الوقت لتخبرني عن سرك الكبير ، أنا متأكدة منذ البداية ،أن قدومك إلى هنا بما يحمله من مجازفة ، ليس لمجرد تأمل أرضك اليباب ..
– أطرق عمر صامتا فترة طويلة ……ثم أجابها و قد ترقرق الدمع في عينيه :
= أمي ، هناك في مستوطنتك أو ربما في إحدى المستوطنات القريبة ، و أنا في غاية الشوق لرؤيتها ، تركتنا في أعقاب حرب الستة أيام لسبب أجهله ، كان عمري عندئذ تسع سنوات !
عقدت الدهشة لسان ساره ، فقد صعقتها المفاجأة !
**
و في أعقاب إحدى طلعاتها إلى الربوة المعهودة ، و بينما هي في طريقها إلى منزلها ، صادفت الحاخام ( بيتوئيل ) فحياها بلهفة متسائلا من أين قدومها ، فأجابته : ” كنت هناك ” و أشارت بيدها نحو الربوة ، فرد بشيء من الدهشة و العتاب :
– ساره – رعاك رب إسرائيل – كيف تجسرين على تخطي حدود البلدة ؟ ألا تعرفين أن هناك قتلة ، حذار من الذهاب وحدك سواء هنا أو هناك في مدينتهم ، إنهم قنبلة موقوتة قد تنفجر في أي وقت ، حذار يا ساره .. حذار !
فابتسمت مستخفة و لم ترد عليه ، ثم حاولت متابعة خطاها ، فأوقفها بقوله :
– ساره ، كنت أبحث عنك على أي حال ..
تجيبه ببرود :
= ها أنا ذي …خيرا ، ما الأمر ؟
– ساره .. لقد قررت أن …
يجيبها ، فترد مستغربة :
= و هل يعنيني ما تقرره ؟
يصمت قليل و قد شعر بالإحراج ، ثم يسألها مستاءً :
– نعم ، قد يعنيك ، و لكن لِمَ تعاملينني بجفاء ؟ هل لمناقشاتنا الحامية دخل في ذلك ؟
= أنا لا أجافيك و لكنني لا أودك أيضا ، أرجو أن تقدر صراحتي و تعذرني ، و ليس لمناقشاتنا أي دخل في ذلك ، فأنا لي رأيي و أنا حرة فيه ، و أنت لك رأيك و أنت حر فيه ، ثم لماذا لا تدع النقاش لوقت النقاش ؟
و إذ أراد أن يكسر الجمود معها ، قال لها ممازحا :
– اعترفي بأنني دوما أفحمك !
فأجابته متحدية :
= أعترف أنني أمام شخصية نرجسية من طراز فريد …
أجابها محتدا و بشفتين مرتعشتين :
– نرجسي ؟ هل لاحظت أن حديثك معي عبارة عن هجوم متواصل ؟ إنني لا أفهمك يا ساره ؟ لعلك لم تدركي بعد حقيقة نواياي تجاهك ؟
فردت بأدب جم و لكنه بارد و نافذ :
= سيدي الحاخام ، أولا أنا لا أبادلك نواياك ، ثانيا – إن تهجمي هو على أفكارك و ليس على شخصك ، و ستزداد هجماتي ضراوة ، ما دمت مستمرًا في دعوتك لطرد سكان حبرون و ما جاورها ، لأنه يكفي ما استولينا عليه حتى الآن من أراضِ لا حق لنا بها .. يكفي ما تسببنا من تشريد و تهجير و كوارث .
هنا اكفهر وجهه ، و لكنه سرعان ما سيطر على انفعاله ، فأجابها متجاهلا عبارتها الأخيرة :
– أعتقد أنك متأثرة بحركة السلام الآن و اليساريين الآخرين ، على أي حال سعيت وراءك لأدعوك للانضمام إلى الحركة السرية التي سأقودها منذ اليوم ، و الهادفة إلى تفريغ المدينة المجاورة و القرى من حولها ، من أبناء الجارية ، و سوف نستخدم كل الوسائل لتنفيذ هذا الغرض ؛ أنا متأكد في النهاية أنك يهودية ، و أنك لن تخرجي عن إجماع زملائك و زميلاتك الشبان .. فكري بالأمر يا ساره ، فإذا قبلت فسوف أجعلك سكرتيرتي الخاصة ، لما تحملينه من مقومات تؤهلك لهذا العمل ؛ و عندئذ ستعرفين من هو ( بيتوئيل ) الذي لم يهتم طيلة حياته بأنثى سواك ..
و لدهشته الشديدة أجابته :
= سيدي الحاخام ، احفظ مركزك أرجوك ، و لتعلم بأنني غير مهتمة بشخصك أو بمشاريعك ، و لا أرى أي حق يخولك أو سواك ، بطرد الناس من بيوتهم و أراضيهم ..
يجيبها محتدا :
إنها أرضنا ، أصغي لما تقوله التوراة : ” لنسلك أعطي هذه الأرض ، من نهر مصر إلى النهر الكبير ، نهر الفرات ” ثم تلا أيضا : ” قال الرب لأبراهام بعد اعتزال أخيه لوط عنه : ” ارفع عينيك و انظر من الموضع الذي أنت فيه ، شمالا و جنوبا و شرقا و غربا ، لأن جميع الأرض التي أنت ترى ، لك أعطيها و لنسلك من بعدك و إلى الأبد ، و اجعل نسلك كتراب الأرض ، حتى إذا استطاع أحد أن يعد تراب الأرض فنسلك أيضا يعد ، ثم امش في الأرض طولا و عرضا ، لأنني لك أعطيها. ”
فالعبارة الأولى تحدد معنى الأرض الإسرائيلية ، و العبارة الثانية تحدد قيمة حبرون بالنسبة لنا كيهود ؛ فهلا كففت عن معارضتك الجوفاء ؟
فأجابته بأدب ممزوج بشيء من السخرية :
= سيدي الحاخام ، ألم تلاحظ أن الكلام موجه لأبراهام ؟ و أن أبراهام هو والد يستحاق و يشمعيل ، أي أن الأرض لنا و لهم ؟!
يجيبها بحدة :
– إني مندهش حقا لمواقفك الغريبة هذه … لقد قيل لي أنك مفتقرة إلى الثقافة الدينية اليهودية ، فلم أصدق ، و ها أنت تشككينني حتى بإيمانك . ساره ، هل أنت حقا يسارية و منتسبة إلى حركة السلام الآن ؟ أم لعلك كما يهمس البعض ، علمانية شيوعية ؟
أجابته بكل ما تملكه من جرأة :
– هل أدركت سر شعوري بالغثيان كلما جمعتني بك الظروف ؟
ثم مضت في سبيلها غير آبهة بارتعاش كل عضلة من عضلاته أو امتقاع وجهه حتى الازرقاق .
بعد أن توثقت صداقة عمر بساره روزنسكي ، حكى لها قصة والدته :
اسمها طالي طوطاح ،هي حاليا في الثلاثينيات ، تعرف عليها والدي عندما كان مع عائلته في يافا ، كان والده ( أي جدي ) من كبار تجار سوق (اسكندر عوض) في يافا ، يرسله إلى تل أبيب لتخليص الأقمشة التي كان يستوردها ، تعرف على والدها و هو مخلِّص بضائع في ميناء تل أبيب ، و أصبحا منذ ذلك الوقت صديقين ، و دعاه مرارا إلى منزله حيث تعرف عليها ، و لا أعلم بالضبط كيف تبادلا إعجابهما ثم حبهما ، و ما أعلمه أنه عندما طلبها والدي للزواج قلب له والدها ظهر المجن و طرده من منزله ؛ و لكن والدتي تسللت ذات ليلة من بيت أبيها ، و اقترنت بوالدي بعد أن أشهرت إسلامها فأسماها والدي أمينة. و لكن جَدَّيَّ ، والدي أبي ، قاوما هذا الزواج ؛ مما دفع والدي إلى مغادرة يافا سرا مع والدتي صفر اليدين ، ليحط رحالهما في مدينة الخليل ، ثم تمكن بفضل خبرته و تعامله السابق مع تجار المدينة من بدء مشروعه التجاري الخاص من الصفر .
إلا أن الناس من حولنا لم يتركونا نعيش حياتنا بهدوء ، فمنذ حرب حزيران المشؤومة ( حرب الأيام الستة كما يحلو لكم أن تسموها ) و سقوط مدينة الخليل بأيدي إسرائيل ، بدأت النساء من جيراننا و معارفنا بمضايقتها ثم بمقاطعتها رغم علمهم بإسلامها .
ليس هذا فقط ، فوالدها الذي ادعى أن ابنته خطفها عربي رغما عنها ، و الذي لم يكف عن التقصي عن مكانها بمساعدة الشرطة الإسرائيلية ، فما أن علم بشكل أو بآخر أنها تقيم في مدينة الخليل ، حتى بدأ يرسل لها من يقنعها بأن تترك زوجها العربي و تعود إلى أهلها و دينها معززة مكرمة ، و إلا اضطر إلى إعادتها بقوة القانون . بينما بدأ بعض المستوطنين بمضايقة والدي ، فخربوا له سيارته ، ثم اقتحموا مرة دكانه ، و عاثوا بموجوداتها فسادا ، و هددوا والدي مرارا بالقتل ، و لكن ظل على موقفه ثابتا .
و ذات يوم عدت من مدرستي لأكتشف أن أمي قد غادرت المنزل ، و لأجد والدي حزينا كئيبا ، و في يده رسالتها التي تعتذر فيها منه ، مبررة هجرنا بعدم قدرتها على احتمال الضغوط الهائلة الواقعة عليها و عليه ، من كل الجهات ، و أنها أصبحت تخشى على حياته ، و أنها وجدت أن من مصلحته و مصلحة ابنهما عمر أن تغادر ، رغم ما في ذلك من ألم تكتوي و ستظل تكتوي بناره .
تأثرت ساره بقصة عمر و أمه فعصرت قلبها الرقيق ألما و أدمعت عينيها ، و لكنها لم تكتفِ بالانفعال فقد جعلت من مسألة العثور عليها لتجمعها به قضيتها الأولى .
و بينما كانت ساره تقوم بمهمتها الإنسانية ، كان بيتوئيل و عصبته من المستوطنين المتطرفين تهاجم بلدة حلحول المجاورة ، بحجة أن بعض أطفال هذه المدينة الصغيرة قد رجموا حافلة إسرائيلية بالحجارة أثناء مرورها فيها .
كان أفراد العصبة مسلحين بمطارق و فؤوس و هراوات ، فأخذوا يحطمون بها زجاج سيارات مواطني البلدة ، و يشوهون هياكلها ، و يقطعون عجلاتها ، ثم انبرى بعضهم إلى نوافذ المنازل فكسروها ، و أتلفوا كذلك مصابيح الشوارع ، بينما كان حرس الحدود الإسرائيليين يتفرجون ، إلى أن حاول بعض طلاب المدارس التصدي لهم ، عندئذ أطلق الجنود عليهم النار فقتلوا طالبا و تلميذة ، و أوقعوا عددا كبيرا من الجرحى . ثم أخضعوا البلدة لمنع تجول خانق استمر عدة أيام .
ثم أخذت عصبة بيتوئيل تتحرش بأهالي الخليل ، و خاصة خلال إقامة صلوات الجُمع ، ثم توجهت طغمة منهم إلى الحرم الإبراهيمي وسط مظاهرة مسلحة استفزازية ، فاحتلوا قسما منه ، و حولوه إلى معبد …
كان هذا التوتر بين الجانبين قد حال دون لقاء ساره و عمر ، فقد منع حرس الحدود المستوطنين من زيارة حبرون- الخليل – كما منعوا العرب من تخطي حدود مدينتهم لأي سبب كان .
و ذات يوم و بينما كان عمر جالسا بجوار دكان أبيه ، تقدم منه جندي من حرس الحدود :
– أنت عمر سليم عمر ؟ سأله بلغة عربية سليمة ، فأجابه عمر و قد ارتعدت فرائصه :
= نعم ، أنا عمر سليم ، خير ؟!
ابتسم الجندي ثم قال مطمئنا عمر :
– لا تخش شيئا ، فأنا من عرب شمال فلسطين .
سأله مستغربا :
= عربي ، و جندي في حرس الحدود الإسرائيلي ؟
– لا تستغرب إنها لقمة العيش ..
و لكن …
و قبل أن يكمل كلامه ، صاح به والده يمنعه من الاسترسال ، ثم تقدم نحو الجندي يسأله عن حاجته و لِمَ يسأل عن عمر بالذات ؟ هل هو مطلوب ؟!
و لدهشتهما معا ، أجابه الجندي :
– إنني أحمل رسالة إلى عمر من فتاة اسمها ساره روزنسكي ..
و ما أن مضى الجندي في سبيله حتى انبرى أبو عمر يؤنب ولده :
– لديك صاحبة إسرائيلية ، يا حمار ؟ ألم تعتبر بما جرى لي و لك نتيجة غلطتي الفاحشة ؟ ألا تلاحظ أن العداء بيننا و بينهم يتعمق و يتأجج ؟ ألم تتعظ بما فعلوه بحلحول ؟ ألم تسمع بهدفهم الجديد و هو احتلال المكان الذي كان يحتوي على مدرستهم الدينية و ما حولها ؟ و أنهم يعتزمون الاستيطان فيه و حوله ؟ اي أنهم قد يستولون على دكاننا هذه و ربما على بيتنا ، ثم تقيم علاقة مع فتاة منهم ؟
يجيبه عمر مبتسما ، و دون أن يبدو عليه أي ارتباك :
= هدئ من روعك يا أبي ، و الله – و راس أمي – ليس بيني و بين ساره سوى صداقة عادية !
– و هذه الرسالة ، ماذا تسميها ؟
و اختطف الرسالة من يد ابنه ، قرأها فاكفهر وجهه و ارتعشت يداه ، ثم ترقرقت عيناه بالدموع ، و ما لبث أن تهاوى على أقرب مقعد .
تناول عمر الرسالة من يد أبيه برفق ، فقرأها على مهل ، كانت تخبره فيها بأنها تعلم الآن أين هي والدته ، و دعته إلى التسلل عصرا إلى الربوة ، لتخبره بقصة عثورها عليها ، فقد علمت أن منع التجول قد خففته السلطات الإسرائيلية ليقتصر على ساعات الليل فقط ، و مع ذلك رجته أن يتوخى الحذر .
قبيل بلوغ قمة الربوة لاحظ أن ساره ليست وحدها ، فبجوارها سيدة …
فتحت ذراعيها الآن ، و توجهت منحدرة نحوه …
أدرك أنها أمه ، ففتح بدوره ذراعيه و جرى صاعدا نحوها ..
أخذ يجري بسرعة أكبر ، غير عابئ بلهاثه المتزايد أو بالحجارة التي ما فتئت تعرقل قدميه و تؤلمه …
ثم …..
ما لبثا أن اندمجا في عناق طويل و هما يجهشان بالبكاء معا …
و جلست ساره عن بعد تتأملهما و هي تشرق بدموعها ..
– لكم اشتقت إليك يا أمي ..
= لكم افتقدتك يا ولدي .. لكم سهرت الليالي و أنا أفكر بك و بوالدك ، لكم شعرت بالذنب لاضطراري إلى ترككما ، و لكن شيطان التعصب كان أقوى منا جميعا …
ثم نادت ساره قائلة :
= أنت منذ اليوم ابنتي ، معروفك هذا لن أنساه أبدا ….
و لكن ….
ثم صمتت لفترة و قد ارتعشت عيناها و تبللت وجنتاها بدفق جديد من ماء الأسى…..
ثم أضافت قائلة بصوت متهدج و بحنان صادر من الأعماق :
– و لكن … إياك أن ترتكبي نفس غلطتي يا ابنتي ، أنا أدرك أنك تحبين ابني عمر و أنه يحبك ، و لكن هذا الحب لن يكتب له النجاح ، سوف يُحارب ، سوف يُقضى عليه في مهده ؛ البشر يا ولديَّ أسرى لأفكارهم المتضاربة ، يخترعونها ، يؤمنون بها ، يكرسون حياتهم لفرضها على الآخرين ، ثم تتحول إلى حواجز تفصل بينهم من الصعب اختراقها ؛ الإنسان يا ولديَّ لا زال نصفه شيطان و نصفه ملاك ، و كثيرا ما يتغلب شيطانه على ملاكه كما يحدث الآن من حولنا .
أجابها عمر بهدوء ، و بحنان صادر من الأعماق :
– أمي الحبيبة ، لا تقلقي ، ساره صديقتي ، أنت لم تنجبي لي أختا ، ساره هي أختي ..
**
كان خبر ساره و بحثها عن طالي طوطاح و عثورها عليها مثار فضول الكثيرين في كريات أربع ، ثم بلغ إلى مسامع والدي طالي أن ساره صحبتها إلى الربوة ، أدركا أن وراء الأمر ما وراءه ، فارتديا ملابسهما على عجل و توجها نحو الربوة ..
و كان خبر ساره و توجهها الدائم إلى الربوة ، محل تساؤلات الكثيرين في كريات أربع ، و محل تندرهم ، فمن قائل أنها على علاقة حب بشاب تقابله سرا هناك ، و من قائل أنه استبد به الفضول ذات يوم ، فتبعها عن كثب ، ليتأكد أنها تقابل شابا عربيا يأتيها من ( حبرون ) ، و لكن أحد اللؤماء أثار نقطة حساسة : ” فما يدرينا ، أنها عميلة ، تنقل معلومات عن المستوطنة إلى منظمات المخربين العرب في حبرون ، عن طريق الشاب العربي الذي تقابله ؟؟ ” .
ثم بلغ الهمس الحاخام بيتوئيل فجن جنونه ، و قرر أمرا ، و إذ علم أن ساره متوجهة مع طالي طوطاح إلى الربوة ، صحب بعض أعضاء عصبته ، و توجه بدوره نحوها ..
و عندما أسر أحد تلاميذ ليونيد روزنسكي والد ساره ، أسر له أن ابنته كانت تبحث عن طالي حتى وجدتها ، و أنها توجهت معها إلى الربوة ، و أن بيتوئيل و جماعته تبعها و هو ينوي شرا ؛ اتصل هاتفيا بضابط شرطة صديقه و من أصل أوكراني مثله ، فأبلغه عن مخاوفه ، و سرعان ما توجه ليونيد و زوجته نحو الربوة ، كما توجه الضابط بعد قليل مع اثنين من أفراد الشرطة إلى هناك ، تحسبا لوقوع مشكلة كبيرة .
و بعد تفكير طويل تراءى لأبي عمر أن ابنه سيقابل أمينة ، عندئذ قرر أن يتوجه بدوره إلى الربوة
و كان أبو عمر أول من وصل ، و كان لقاؤه بطالي حميما : ” أمينة .. لقد تركت فراغا كبيرا يا أمينة ” قال لها و قد ترقرقت عيناه ، فأجابته و هي تمسح دموع عينيها المشتعلتين بطرف كم ثوبها : ” الظروف أقوى منا يا سليم ، الكل يكره الكل ، و الكل يعادي الكل ، و الكل يحارب الكل ، و لا يمكننا أن نعيش في عزلة عن الناس في قلعة من الوهم ، لقد عانيت من فراقك و فراق عمر أضعاف ما عانيته يا سليم ، و لكن قدرتي على الاحتمال نضبت ، فأرجو أن تكون قد عذرتني .”
كان والدا طالي قد وصلا ، و بدءا يؤنبانها بالعبرية ، فاشتبكت معهما في مشادة كلاميةِ بلغت فيها أصواتهم عنان السماء ، و لم يكفا عنها إلا عندما وصل الحاخام بيتوئيل مع عدد من أفراد عصبته ، فتوجهوا مباشرة نحو عمر و والده . أمر رجاله بالإمساك بهما ، فقاوما ما استطاعا و لكن عندما بدؤوا بضربهما بهراوات كانوا يحملونها ، هرعت ساره و طالي لنجدتهما ، و لمفاجأة الجميع انضم والدا طالي إلى ابنتهما ، فوقفا في وجه عصبة بيتوئيل يذودان عنهما ..
جن جنون بيتوئيل و بدأ يكيل السباب و الشتائم لساره و طالي ووالديها ، و أخذ يهددهم بالويل و الثبور و عظائم الأمور ، و يتهمهم جميعا بالكفر بدينهم و الخيانة لمواطنيهم .
كان والدا ساره قد وصلا الآن و انضما فورا – أمام ذهول بيتوئيل و صحبه – لجبهة ابنتهما ساره ..
فبدأ بيتوئيل – و قد غلت مراجل غضبه – يلقي و زمرته الحجارة على الجميع ، ثم سحب مسدسه الذي كان يخفيه تحت ثوبه الكهنوتي و وجهه نحو مقاوميه ، طالبا منهم تسليم عمر و والده في الحال و إلا أطلق الرصاص .
و لكن ساره و طالي ووالديهما ظلوا على موقفهم الصلب مشكلين ترسا بشريا في وجه بيتوئيل و زمرته ..
كان ضابط الشرطة و اثنين من مرافقيه قد وصلوا الآن ، و تمكن بعد جدل طويل من إقناع بيتوئيل و صحبه بالانصراف ، ثم التفت نحو سليم و ابنه عمر منذرا : ” غادرا هذا المكان فورا و إلا اعتقلتكما ” فأجابه عمر : ” و لكن هذه الأرض التي تقف عليها حضرتك هي أرضي و أرض أبي ” تبسم الضابط ، ثم أجابه ساخرا : ” كانت أرضك ، و هي الآن قيد التخطيط لإلحاقها بكريات أربع في مشروع توسعتها الجديد ؛ خذ والدك و انصرف في الحال و إلا اضطررت لاعتقالكما . ”
صاحت ساره ” هذا ظلم ” أجابها الضابط : ” في حالة الحرب تُلغى عبارات العدالة و الرحمة يا ساره ، إطوي لسانك الطويل و عودي إلى بيتك مع والديك في الحال تحاشيا لمزيد من المتاعب ! ”
صاحت طالي : ” هذه وحشية ! ” فأسكتها والداها و جراها معهما ذبيحة القلب عائدين إلى البيت .
و عاد عمر مع والده إلى دارهما يجران أذيال الخيبة ، فقد فقد عمر أمه من جديد كما فقد الأمل بلقاء ساره بعد اليوم ، و خسر سليم زوجته بعد أن ومض أمله بعودتها لسويعات ، كما فقد الرجاء نهائيا باستعادة أرضه ، عادا مليئي الجسد بالكدمات ، و النفس بجروح غير قابلة للشفاء .
**
في مطار اللد ، نودي على ركاب طائرة العال للرحلة رقم 48 المتوجهة إلى نيويورك في الولايات المتحدة عن طريق فرانكفورت ، نهضت ساره روزنسكي و والداها متوجهين نحو البوابة التي ستقودهم إلى مدخل الطائرة ، و لدهشتهما تقدمت منهم طالي ، فحيت والديها ثم قدمت باقة من الزهور لساره وعانقتها بحرارة مودعة ..
============================
* كتبت قصة ( ساره روزنسكي ) عام 1978 و نشرتها في جريدة القبس الكويتية في نفس العام ، ثم نشرتها ضمن مطبوعة تحمل نفس الإسم عام 1979 عن طريق مكتبة أطلس في دمشق / سوريه ، ثم قمت بتعديلها في شهر آب/أغسطس عام 2007
غلاف مجموعة ( ساره روزنسكي ) القصصية
——————
سوري مغترب