قصة

 نزار ب. الزين*

     تلقى  الميجر شمعون هاتفيا ، نبأ انسحاب الكتيبة العربية  بابتسامة عريضة  ، فهو يعلم أن هذا الحدث هو بداية العد التنازلي لتنفيذ عملية ( داني2 ) .
إرتدى ثيابه العسكرية على عجل ، و وقف برهة تجاه سريري ابنتيه راحيل و راشيل ، ثم إلتفت إلى زوجته ساراي فقبلها ثم مضى مسرعا قبل أن تلمح عينيه المغرورقتين .
و سرعانما لفظته ( بتاح تكفا ) لتستقبله ( بن شمعون ) حيث مقر قيادة العملية ، و هناك تلقى جزئية الخطة المنوطة به في غلاف مغلق ؛  و في الساعة العشرين فض المغلف ليكتشف أنه مكلف و أفراد سريته  بدور رأس الحربة  ، و ستُحمل السرية على عربات مصفحة خفيفة قادرة على سرعة المناورة و عربات ( جِب) محملة بمدافع البازوكا .


*****


      في مقر قيادة الكتيبة العربية ( من كتائب الذراع العربية للجيش البريطاني ) في البلدة ذات  المائة و الخمسين ألف نسمة ، كان أربعة من ضباط الصف  يتنافسون في مباراة حامية الوطيس بلعبة ( الهندريمي ) ، فالرهان كان على وجبة غذاء اليوم التالي التي ستتكون من اللحم بعجين و اللبن الرائب و العنب البلدي .
إلا أن ألسنتهم كانت تتصارع  أيضا ، فقائد المجموعة  يؤكد أن القتال لن يستأنف ، و دليله على ذلك إنسحاب معظم عناصر الكتيبة العربية المؤللة إلى جهة غير معلومة .
مساعده  كان يصر على أن القتال أمر محتوم حال إنتهاء الهدنة ، و حتى إذا لم نرده  نحن فالآخرون يريدونه، سعيا لاكتساب أرض جديدة .
أما العريف جويفل فبعد أن احتسى رشفة طويلة من شايه الثقيل ، همهم ثم قال : ” هذه الحرب من أولها لتاليها  لعب عجيان ، و ما يشاؤه (الحمران) هو ما سينفذ آخرالأمر ، و الحسرة على الذين راحوا ( ببلاش )

*****


رنين الهاتف يعلو  ،  أطولهم قامة و أثخنهم شاربا و أقلهم رتبة ، هرع إليه  ، و بعد دندنة  لم تطل كثيرا عاد متثاقلا ؛ العيون تثبتت نحو فمه  ، و لكن تباطأ في إشباع فضولهم ، نهره أبو فواز و حثه بلهجة آمرة  متذكرا اللحظة أنه رئيسه :
– ما الأمر  يا سعفان ؟ تكلم !
فأجابه في الحال متخذا وقفة الإستعداد  :
– القيادة ، سيدي ، تنبهنا أن أن الهدنة لن تتجدد ، و انتهاؤها عند إنتصاف الليلة ، و أن علينا استنفار القوات و تعزيز الحراسة عند مداخل البلدة .
فضحك أبو فواز ثم علق ساخرا :
– أي استنفار و أية قوات ؟  لا شك أن أحدهم كان يمازحنا !
و بعد فترة صمت تساءل جويفل :
– ألا يجدر بنا إبلاغ حاكم المدينة العسكري ؟ فرد عليه (عليوي) لائما :
– علام نوقظه من نومه ، ألم تقل قبل قليل أن المسألة كلها لعب ( عجيان )؟
إلا أن سعفان لم يطمئن إلى تعقيب قائده فما لبث أن أعلن انساحبه من اللعبة حتى لو اعتبروه خاسرا ، ثم استأذن بالانصراف للاطئنان على ( العيلة ) .
حاولوا تسفيه مخاوفه دون جدوى  فرموا بأوراقهم ، أما (بو فواز) فقد ابتعد غاضبا لأنه كان في المقدمة بينما فرح عليوي لأنه كان الخاسر المرجح ، فتمطى و هو يقول باسترخاء :
– فلنأخذ يا ( الربع ) سنة من النوم فلعل المتاعب  آتية في القريب العاجل .
و بينما كان سعفان  يهم بالخروج ناداه قائده آمرا :
– لا ترهق نفسك يا سعفان !
فانفجر أربعتهم ضاحكين .
ثم أضاف بنفس لهجته الآمرة الممزوجة ببقايا ضحكته الرنانة :
– قدم نفسك إليّ مع أولى خيوط الفجر!
كان سعفان أقدمهم في القسم ، و أكثرهم استقرارا فيه  ، و لذا فهو الوحيد بينهم  الذي تمكن من اصطحاب زوجته الشابة ( مزيونة ) ، إلا أنه و خلال كل ذلك ظل مدركا لحسن نواياهم ، ما جعله يحتمل مزاحهم  دون تذمر .
أما مزيونه ، فبسبب  بعدها عن أهلها  و انعزالها النسبي  عن جيرانها ،لأنهم ظلوا يعاملونها بشيء من التعالي  لمجرد أنها بدوية ، فقد كانت تكرس  كل نهارها لخدمة طفلها ، و جل ليلها لإدخال السرور إلى قلب زوجها .

*****


        مع بزوغ الفجر انهمكت مزيونة   بإعداد الحمّام لزوجها ، و فجأة   دوى أول انفجار ، هبت مذعورة :
– ما هذا يا سعفان ، فأجابها محاولا تهدئتها  :
– الهدنة انتهت الليلة يا مزيونة ، و لعل هذا الانفجار علامة ذلك .
و لكن عندما دوى انفجار ثان ثم ثالث ، هب واقفا و أخذ يرتدي ملابسه العسكرية على عجل .
أطفأت مزيونة الموقد  ثم تهالكت  على الكرسي الخشبي  الذي كان سعفان سيستحم فوقه ، ثم أسندت رأسها بين يديها خشية أن ينجرف مع الدوامة الهادرة  في داخله ، ثم انبثقت دموعها بصمت .
كانت طلقات المدفعية تصدر من جهة المطار ، ثم أعقبتها صليات متفرقة لرشاشات ثقيلة .
توقفت الطلقات و الانفجارات الآن إلا أن هديرا غامضا يبدو كأنه هدير مجنزرات كان يقترب رويدا رويدا ، فتوجس أبو فواز شرا ، فأمر سعفان بالقيام مع عنصرين آخرين  بدورية استطلاع ، ثم انكفأ إلى الهاتف مجيبا:
– سعادة الحاكم ؟  الطلقات صادرة من الغرب ، سيدي ، هناك حركة مريبة من نفس الاتجاه أرسلت لتوي دورية لاستطلاعها .
إلا أن سعفان لم يعد أبدا ، و كذلك لم يعد من أفراد الدورية غير سائق ( الجِب)  المثخن بالجراح ، ليعلن أن البلدة مطوقة من جميع الجهات ، و أن سعفان  و شتيوي قد قتلا  على بعد 200( ذراع) غرب البلدة .


*****

         أسرع أبو فواز إلى الهاتف ، ففوجئ به صامتا ، فاستدعى السيارة المحملة بجهاز اللاسلكي ثم أمر بإجراء إتصال فوري مع القيادة ، طلبا للنجدات ، و كذلك  لإبلاغ حاكم البلدة  بخطورة الموقف ، و بعد جهد متواصل تمكن ضابط الإتصالات من إلتقاط ما يفيد أن الرسالة  وصلت و أن النجدة في الطريق و أن على الحامية الصمود حتى وصولها .
و تجاوزا لأوامر القيادة القاضية بعدم التعامل مع فلول  المليشيات المتواجدة في البلدة ، أرسل إليهم من يخبرهم بحقيقة الموقف و بضرورة الإستعداد للمواجهة المرتقبة .
و على الرغم من التكتم الشديد فقد انتشر خبر  حصار البلدة انتشار النار في الهشيم .
و عند الظهيرة و من أعلى مئذنة مسجد البلدة الكبير ، صدح الأذان  داعيا إلى صلاة الجمعة ، فتسابق الشيب و الشبان إليه فكان عددهم يفوق ضعف العدد المعتاد و قد اصطحب كثيرون غلمانهم ، ثم  انتشر أكثرهم- بعد أن ضاق المسجد بهم- في صحنه حتى الشارع المجاور ، ففي يوم مثير كهذا يحسن أن يكون المرء أكثر قربا من ربه .


*****

 ثمت هدير في الجو
يقترب أكثر  فأكثر فأكثر فأكثر
شخصت الأبصار نحو السماء
العيون القلقة تنقب بين الغيوم الريشية التي ملأتها
لم يطل الترقب طويلا
برزت أربع طائرات من ذوات المحركات الأربعة  لم يكن يمتلكها الأعداء من قبل
ثم انهمرت القنابل معوِّلة مولولة متراقصة قبل أن تنفجر
ثم انفجرت … في افتتاحية فذة لمغناة جديدة  من ( أوبرا ) الموت و الدمار ، جعلوها بشيرا لاشتعال و قود تفاعل كيمنساني جديد .
المصلون في صحن الجامع إندفعوا إلى الخارج
و اؤلئك الذين كانوا تحت قبته بدؤوا يخرجون متدافعين إلى الصحن
بعض الصغار سحقتهم الأقدام
و بعض المسنين طحنتهم الأكتاف
لمحتهم قنبلة ذات خمسمائة رطل
اتجهت على الفور نحوهم
فانفجرت و فجرتهم
و سرعانما انتشرت الشظايا مختلطة بالأشلاء
أما راس المئذنة فلم يحتمل مزاحها الثقيل
فانفلت من موقعه نحو القبة ، فمزقها و من ثم تعاون مع حطامها في القضاء  على المزيد من المؤمنين .


*****


          عباس عابدين تاجر( كلف) و لوازم خياطة ، صحا من الصدمة ليجد نفسه حيا بين كتل اللحوم غير المميزة ، و  كأنما سكبت عليهم يدا خفية كميات هائلة من صبغة أرجوانية ، جعلتها أشبه بالمسلخ في عيد الأضاحي ؛ و عن يمينه صدرأنين خافت ، و عن يساره  ثمت حركة يد ضعيفة ارتفعت قليلا ، تكلمت أصابعها بلغة مبهمة ثم تهاوت .
رفع رأسه فارتفع ، ثم نصب جسمه فانتصب ، حرك ساقيه فتحركتا ؛ هنا أدرك أنه ليس حيا فحسب ، بل حيا و سليما و محظوظا ، فهرع نحو بيته و عياله .
وصل عباس فالتفوا  حوله  بين معانق و مقبّل ، يا للفرحة ، الكل سليم ، قالها في سره ثم أعلن ألا وقت للعواطف : ” إجمعوا ما خف حمله و غلى ثمنه ، لكل منكم بقجة واحدة على قدر طاقته لا أكثر ، أما أنت يا أم يعقوب فلا تنسي مصاغك أو مصاغ البنات  “
و فجأة جحظت عينا أم يعقوب ذعرا و صرخت ، فقد لمحت بقعة دم حول بطن زوجها  و ثقبا أسود يخترق ملابسه .


*****


        قلقت مزيونة على زوجها ، حتى إذا نفذ صبرها  حملت صغيرها و اتجهت نحو القسم ، متجاهلة دوي القنابل  و كثافة القصف المدفعي من حولها على طول الطريق .
ثمت مدفع يرد على القصف بقصف مماثل ، و أزيز  رشاشات خفيفة و ثقيلة  تزعق من فوق أسطح بعض المنازل باتجاه الغرب و الجنوب . و ثمت مدفع قرب القسم ينفث حممه كاد يمزق أذنيها حتى لم تعد تسمع صياح رضيعها ، فشدت راحتها إلى أذن الصغير بينما حمت أذنه الأخرى بصدرها ، و استمرت في خطوها المنتظم.
لمحها  عليوي  فصاح بها :
– ما أتى بك يا مجنونة ؟ عودي إلى بيتك  في الحال .
فسألته بإصرار :
– أي سعفان يا( ولد العم )؟ … أين سعفان بحق ( الخوة ) ؟..بربك  أين سعفان لا تخفي عني أمره يا ( خي ) ؟
فأجابها بصوت حزين :
– سعفان ( إنذبح يا خيّة ) الله يصبرك ..
فانهارت ثم أخذت تمرغ وجهها بالتراب …
أشفق عليها  فتوجه نحوها مواسيا
انفجرت قنبلة عن قرب ، فأرغمها على الإنبطاح
شجت راس الصغير فازداد عويله حتى طغى على دوي القذائف  ..
و إذ ركد الغبار حمل عنها الصغير بيد  و شدها باليد الأخرى ثم 
 ولج بها إلى القسم .
جثا الجنود على ركبهم خلف النوافذ
استندت  بنادقهم على حوافها
آخرون يصعدون و ينزلون  على سلم يؤدي إلى السطح
إنهم ينقلون الذخائر
القصف يزداد كثافة
و الموقع كله يرتعش كعصفور ينفض عنه البلل
و الصغير لا زال يصرخ و يصرخ
نظرت نحوه من وراء غلالة دموعها ، فلمحت دمه الذي غطى رأسه  و بدأ يصبغ ثوبها ، فتناولت حفنه من غبار السقف المتساقط ثم وضعتها فوق الجرح  و ضغطت محاولة بذلك وقف النزف .
الطفل  يزداد صراخا و دمعها يزداد انبثاقا ثم همست : ” أبوك مات يا سرحان .. يا و لدي ؛ ثم ارتفع صوتها  و هي تحدث نفسها متفجعة : ” سعفان راح  يا مزيونة   .. زينة الشباب قضى يا  مزيونة  .. حياتك لم يعد لها طعم يا مزيونة “ .
الرضيع يلح في بكائه ، و لكنها استأنفت تنتحب : ” صرت يتيما يا سرحان .. أمك ترملت يا ولدي  .. و أنت تيتمت يا فلذة كبدي  ، لعلك أدركت ذلك فازددت بكاءً ؟!!
ثم التفتت نحو عليوي  المنهمك اللحظة بتلقيم بندقيته، فسألته:
– أين إنذبح سعفان يا ( خَي )  ؟
– على الطريق الغربية ليس بعيدا من هنا
ثم أردف مواسيا :
– صبرا يا أم سرحان  فالقتلى كثيرون غير سرحان  ، اثنان كانا معه و ثلاثة ( منسدحين ) على السطوح ، و في الداخل خمسة جرحى  ، و من الأهالي العشرات
( بلوة يا  خيّة ما وفرت حد )


*****


       شمعون في عربة القيادة ، يأمر فتي اللاسلكي بنقل البرقية التالية :
من ( داني 2 ) إلى القيادة العليا :
” المقاومة عنيفة و غير متوقعة ، دمرت أو أعطبت معظم  مصفحاتنا ، ثلاث محاولات متوالية لاقتحام البلدة باءت بالفشل ، الذراع العربي للجيش البريطاني لم ينسحب كما وعدنا رئيس أركانه أو أنه انسحب جزئيا ، أعداد كبيرة من عناصر المليشيات لم نؤخذ بالحسبان ، إنهم يستخدمون المولوتوف بنجاح غير مسبوق  و لديهم مدافع مضادة للدبابات و أخرى ميدانية لم ترصدها استخباراتنا ، و استحكاماتهم و دشمهم قوية لم نتمكن حتى الآن من تدميرها، خسائرنا البشرية جسيمة ؛ إذن  نحن بحاجة إلى المزيد من العربات المصفحة و المدافع من جميع العيارات ، كما نطالب  بدعم جوّي  مكثف .


*****


       أرخى الليل سدوله و هدأ القصف و خف الأزيز ، فاستبشر الناس بليلة هادئة ، إلا أن انفجارات القناديل الكاشفة  سرعانما وأدت  آمالهم ، فقد اسؤنف القصف .
      أبو يعقوب ملقى على الفراش و هو يئن : ” كيف لم أشعر بالإصابة عند وقوعها ؟ ” أخذ يتساءل ،ثم أضاف بصوت ضعيف : ” و هذا النزف متى ينقطع ؟ ” كان وجهه أبيضا كأنه دهن بالكلس ، عندما عادت أم يعقوب بكأس الماء الذي طلبه ، فوجدته قد فارق الحياة .


 *****

         إصابة جديدة و مباشرة للقسم تنسف جدارا مقابلا  لمزيونة ،  الغبار الذي  يملأ المكان و كاد يخنقها و رضيعها ، انحسر الآن ، و لكن عليوي يصرخ صرخة الموت ، ثم صدح صوت آخر يستغيث : ” الأنقاض فوقي ، لا أستطيع الحراك ” .
وضعت مزيونة  ولدها سرحان على الأرض و قامت تحاول إزاحة كتلة من الخرسانة جثمت فوق  جويفل ، استطاعت تمييزها على ضوء حريق قريب و أضواء قناديل الكشف المتوالية ، إلا أنها لم تفلح بازاحتها قيد أنملة ؛ و بدأ صراخ ابنها يأخذ أبعادا جنونية زادتها إرباكا ، قال لها الجريح بصوت متحشرج  : ” إذا مررت يا خيّة بعرب العزازمة ، بلغي أبي شيخ العشيرة ، أن ابنه جويفل مات شهيدا ! ”
عندما اجتازت مزيونة  الجدار المهدم بعد لأي ، كانت خيوط الفجر الأولى ، توضح فتات المدفع و أشلاء سدنته ، ثم استمرت تخطو بثبات نحو الطريق الغربية .
كان الرصاص يمر من جنبيها و من فوقها و من بين ساقيها ، و على مرمى البصر منها لمحت مجموعة عربات مصفحة تتقدم الهوينى ، إلا أن جثة  على كتف الطريق  شغلتها عنها .
لم تتعرف على الجثة فمضت تمشي من جديد باحثة ، عثرت على جثتين أخريين ، جرت نحو أطولهما ثم صاحت : ” سعفان يا الحبيب ، نفلت شعرها و من ثم أخذت تصفع خديها و تنتحب  .
مر الآن رتل من المصفحات الخفيفة، على ظهرها جنود غطوا رؤوسهم بكوفيات حمراء  : ” إنهم جنودنا ”  فوقفت و أخذت  تصيح بهم : ” أبعد أن تهدمت البلدة جئتم ؟ أسرعوا بالله عليكم قبل أن تترمل  مزيد من المزيونات و يتيتم مزيد من السراحين !! ”
صوب شاؤول بندقيته ( التومي ) سريعة الطلقات نحوها ، فقد ضايقه نحيبها ، إلا أن زميله موشي حذره قائلا : ” إياك أن تفعل ، فستفسد كل شيء ” .


*****


         من الجهة الشمالية الشرقية تقدم رتل من المصفحات ، يرفع أيضا الرايات العربية ، خرج المناضلون من دشمهم و أخذوا يهللون و يطلقون الرصاص في الهواء ابتهاجا .
و عندما بلغ الرتل مبنى القسم تقدم نحوه حاكم البلدة العسكري برفقة أبو فواز المثخن بالجراح و حوالي خمس و عشرين جنديا و هم من بقوا أحياء من أفراد الحامية ، ثم صعدوا جميعا إلى العربات التي عادت من حيث أتت أمام دهشة الجموع المحتشدة .
عندئذ تقدم الرتل الآخر من الطريق الغربية، فعادت البهجة إلى  النفوس و عاد المناضلون يطلقون الرصاص في الهواء ! و ازدادت حشود الأهلين يكادون يرقصون من الفرح ، عندما أخذ الجنود أوضاعهم القتالية و بدؤوا يحصدون الحياة من حولهم من مختلف أنواع الأسلحة ، دون تمييز بين مسلح  أ و أعزل .
“إنها خديعة ، إنه غدر  ، إنهم أعداء “ .  أخذوا يتصايحون و يهربون نحو الأزقة  و الحواري ، أما الذين لجؤوا إلى المسجد فقد لحقتهم القذائف ثم الحراب .
      أذهلت المفاجأة المناضلين و شلتهم الفوضى فلاذوا بالفرار خارج البلدة ، بينما لاذ الأهلون ببيوتهم في انتظار مصيرهم .
و تحت أحكام منع التجول  ،أمر شمعون – بعد أن نصب نفسه حاكما عسكريا  للبلدة – باعتقال  كل  ذكر بين الرابعة عشر و الخمسين ، حملوا جميعا في شاحنات ، و تحت الحراسة المشددة سيقوا إلى المجهول .
و في صباح اليوم الثالث ، أمر السكان عن طريق مجسمات الصوت  بالرحيل عن البلدة ، مع تحريم مطلق لنقل أي متاع  ، و عيّنوا لهم طريقا  عليهم سلوكها باتجاه الشمال الشرقي .
و تدفقت من ثم مجموعات من النساء و الأطفال و الشيوخ إلى الطريق بين صفين من شاهري البنادق .
و على حدود البلدة الخارجية ، أقيم حاجز ، أخذ فيه جنوده يفتشون الراحلين تفتيشا دقيقا ، عبثوا خلاله بنهود الفتيات و مكورات السيدات و انتزعوا منهن حليهن و هم يتضاحكون  .


*****


      أم يعقوب التي لم تتح لها  أو لأولادها  فرصة دفن زوجها أو التعرف على مصير ابنيها ، لم تلهها فجيعتها  عن الدفاع عن ابنتيها ، حينما حاول  الجنود معابثتهما ، فنالت ضربة قوية بكعب بندقية أحدهم حطمت صدغها و كشفت خمارها الذي كان يحجب مصاغها و مصاغ ابنتيها المكدس فوق جيدها ، فانهالت الأيدي تنتزعها بشراهة  ، و لما استعصى عليهم خاتم زواجها الماسي  بتروا الإصبع الذي يحمله ، و إذ حاولت الفتاتان تخليص أمهما من براثنهم ، اقتادوهما خلف إحدى المجنزرات ثم توالوا على اغتصابهما .

*****


       مزيد من  أفراد العصابات الصهيونية  يتدفقون  إلى البلدة ، مجندون من ( نيتر ) مروا بجراراتهم الزراعية بعد أن حولوها إلى آلة حرب ، لمحوا مزيونة  و هي تنبش الأرض  بأظافرها فقد عز عليها أن تكون جثة سعفان

و ليمة لبنات آوى أو  الغربان
و قفوا قربها و هم بتضاحكون
هبط نحوها أحدهم  و أهال كومة التراب التي أضناها رفعها
نظرت إليه مستهجنة فعلته
ثم ما لبثت أن أدركت أنه عدو
فانقضت عليه تعضه من ساقه
و بينما كان يجاهد للتخلص منها ، كان رفاقه يقهقون لطرافة الموقف
عندئذ لم يجد بدا من توجيه ضربة قوية على مؤخرة رأسها أفقدتها الحياة في الحال .
أما سرحان فقد فقد الحياة قبلا  دون أن تدرك أمه ذلك .
و هكذا اجتمع شمل الأسرة الصغيرة من جديد و لكن في العدمية .

 *****

       في الطرف الآخر من البلدة ، ثمت موكب جديد من مواكب البؤس الفلسطيني يأخذ طريقه مرورا بقرية جمزو  المدمرة ، ثم  بيت  نعلين  و التي  ما زالت  بيوتها  تحترق  ، و من ثم  إلى قادومية جبلية تؤدي إلى رام الله .
و هناك أخذ أبو فواز – بعد أن بدأت طلائع الحطام البشري تصل تباعا – أخذ ينشر خبر الفضيحة ، و كذلك فعل رفاقه ، و سرعانما علمت قيادتهم بالأمر فاعتقلوا جميعا و اقتيدوا من ثم المجهول .
و في صدر صحيفة محلية ظهرت مرثاة بأسلوب الشعر المرسل :


إنها قافلة جديده

من قوافل المهانه
و فضيحة تستعصي على الإدراك
كتل من اللحم الأحمر

 شوى جلودهم الحر
ألقوا بنعالهم
بعد أن مزقتها الأشواك
و شظايا الصخر
الأطفال يصيحون تعبنا
و آخرون يستغيثون
عطشنا
و الرضع بدؤوا يموتون
و صغار فقدوا أمهاتهم
يولولون
***
الأعصاب مستنفرة
في طريق مقفرة
لاشيء
غير صخور و رمال
لا قطرة ماء
و لا رقعة ظلال
***
جن الليل و القافلة تسير
البعض يندب الأحباب
و البعض يستنجد الأرباب
و كثير منهم
بالموت يستجير
***
هنا جريح تركوه
و هناك شيخ يلفظ الأنفاس
تجاهلوه
و امرأة عاجلها المخاض
و أخرى جندلها إجهاض
و ثالثة أنهكها حملها فألقته
فصاح : أمي أمي
و لكن الأقدام داسته
و من ثم أخرسته
و على طول درب الضياع
انتشرت مآدب الضباع

———————————–
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب