رواية قصيرة

 نزار ب. الزين*

           عتريس ، فلاح من ريف ممفيس ، نشأ على ضفاف واحدة من ترع النهر الخالد ، شرب من مائها ، اغتسل فيها ، نقل منها إلى أرض أبيه ، تعلم العوم على سطحها  و الغوص في عمقها ، حتى سرت  في دمه  فتوحد  كيانه بكيانها .

لذا ، فهو يوم علم أن الطاغوث قرر تدنيس الترعة ، لم يجد صعوبة في تقبل نداء التصدي ، عندما أطلقه رعمسيس الثالث عشر ، حتى و إن لم يكن إبن آمون .

أبو عتريس ، فلاح من ريف ممفيس  ، فلاح بسيط و لكنه طموح ، أراد أن يخترق الحلقة المجوفة التي كان يدور فيها و أهل قريته .

جهل …فقر .. جوع … مرض … خوف  ، ثم   خوف …مرض  .. جوع … جهل  ، ثم جهل .. ففقر .. فمرض.. فجوع …. فخوف  ؛ يتغير الترتيب  أما الإطار فيظل قدريا ،  حلقة شبه أبدية لم يتمكن من اختراقها ، فصمم على اختراقها عن طريق أبنائه و لو بالقوة ، و هذا ما كان يفسر قسوته عليهم و يبررها .

و رغم ضخامة المجهود و ضآلة المردود ، من موارد ربع الفدان الذي يمتلكه ، فقد تمكن بالتقتير و التدبير من إرسال جميع أبنائه إلى جامعات ممفيس واحدا  إثر الآخر .

 

*****

رعمسيس ، لم يكن اسمه رعمسيس ، كان بدوره فلاحا ، و كان  اسمه ( أبو الليل ) و كانت له طموحاته أيضا .. طموحات عريضة عرض المتوسط و طويلة طول النيل .

و لئن اعتقد أبو عتريس أن القدرة اللازمة لتحطيم حلقة البؤس كامنة في تحصيل العلم ، فإن ( أبو الليل ) تصور أن القدرة تكمن في السلطة ، السلطة و حسب .

و لكنه كتم أفكاره حتى عن أبيه ، و أخذ يتربص الفرص ، تربص هرٍّ بجوار جِحر ، صيد يصيب و آخر يخيب حتى تمكن منها …أما كيف حدث ذلك فأمره عجيب ، فالدهر حبلى ليس يدرى ما تلد !

*****

يحكى أن طاغوثا استفحل شره في شمال البلاد ،  أنتشر كما تنتشر خلايا السرطان في الجسد ، يلتهم الأرض و يزرع الموت و الدمار ، و من كان ينجو منهما يسترقُّه ، و من كان يتظلم يكويه بالنار ، أما من يتمرد فإلى الموت الزؤام يسوقه ..

و يحكى أن ممالك الجرمن و السكسون و الفرنجة من العالم القديم  و الإيروكي و الأنازاسي من العالم الجدبد ، كانت تغذي الطاغوث حتى أصبح عملاقا لا يقل قوة عن أي منهم ؛ فقد تشابكت مصالحهم بمصالحه ..و أمام خطورة طموحات أبي عتريس و أمثاله  تحالف الجانبان تحالفاً عضوياً لا يمكن فصمه  ..

و لكن على أرض المقهورين ، لم تتوقف محاولات اختراق حلقة اليأس المفرغة ، كان بعضها صامتا كمحاولة أبي عتريس ، و بعضها صاخبا هادرا ، سرعانما كان الطاغوث يخمدها  أو حلفاؤه .أو كلاهما معا …

و رغم كل الجبروت  و كل وسائل القتل و التدمير نجحت واحدة من تلك المحاولات ، فانطلقت تزلزل الأرض تحت أقدام طغاتها ، و تهدد الطاغوث في عقر داره المغتصبة  ، لولا أن تسلل إليها أبو الليل  ، فكمن في  إحدى زواياها في انتظار فرصته .

*****

اكتشفوه …

اكتشفوا فيه عاشقا للسلطة …

فأغروه بسلطة بلا حدود  و بنفوذ لم يكن يحلم به حتى آمون  نفسه…

ثم بدأ يدلك صدر المارد الذي أخافهم .بمراهم الموت…

إلى أن توقف قلبه الكبير عن الخفقان …

فانقض أبو الليل يلتهم السلطة …

ثم أعلن نفسه  سيد الوادي الحزين …

ثم أسمى نفسه رعمسيس الثالث عشر و أطلق على أسرته ، الأسرة السابعة و العشرين ….

و تقبل العتارسة  الأمر كما تقبلوا من قبل  ، كافور الإخشيدي  و الحاكم بأمر الله الفاطمي  و علي باشا الأرنؤوطي ،. إلا أنهم ظلوا على عداوتهم للطاغوث رافضين أن يدنس ترعهم  …

 

*****

 

مشكلة عتريس أنه ذكي ، و بذكائه اكتشف ما وراء هالة رعمسيس ..

و إضافة إلى ذكائه فقد كان زجالا  ، راح بأزجاله يحدث الناس عن حقيقة رعمسيس ، و يتحسر على  الدم المهدور ، و النصر المبتور ، و الشعب المقهور ؛ فانتشرت أزجاله  على ألسنة المغنين الشعبيين و في  أشرطة الكاسيت ؛ فعلم  بأمره العسس ، و ما أكثرهم في عهد رعمسيس الثالث عشر ، و من ثم ساقوه  إلى  أعماق أبو زعبل .

ثم سيق إلى غرف التحقيق  فانتزعوا منه كل شيء إلا تصميمه .

ثم تحول بين عشية و ضحاها إلى بطل شعبي .

إلى شهيد حي …

و لأنه شهيد حي فقد أرعب رعمسيس ، فأمر باستدعائه .

 

(2)

–       – أنت عتريس

–       – …أنا مانديلا..أنا غاندي…أنا ذو الفقار..أنا باتريس

–       – قيل لي أنك من أبطال  حرب التحرير ..

–       – تقصد حرب التحريك

في المسلخ قالوا لي أني عميل ..

–       – إحكِ  لي عن المعارك التي خضتها ..يا عتريس يا ابني ..

–      –  سنوسر … آمنحوتب … حوتاب … أحمس

دماؤهم صبغت مياه القناة و أجسادهم طفت فوقها أو غاصت في أعماقها ..

–       – و ماذا تذكر أيضا يا عتريس ؟

–       – ميغ .. سوخوي .. سام .. مولوتوف  .. كلاشنكوف ..

–        -إخرس يا مجنون ، هذه الكلمات ألغيت من القاموس …

–       – محبوس .. ملحوس .. جاموس .. فانوس … ناقوس .. عرب و مجوس

–        -أو تلعب معي لعبة القوافي ؟

–       – قدم حافي .. لحم متورم .. جلد مهترئ .. جرح متقيح و مفتوح .. مفتاح .. إنفتاح ..

–       – أجل انفتاح .. ذلك هو المفتاح .. بدأت تصحو يا عتريس يا ابني  .. إحكِ لي الآن عن ظروف أسرك ….

–        – جاؤونا في شاحنات سوفيتية الصنع من غنائم حرب الأيام الستة ، حسبناهم جماعتنا ، أمرونا بالصعود ، و بعد أن كدسونا ، فاجؤونا ( بعوزي ) من الأمام و (عوزي ) من الخلف ، ثم عصبوا أعيننا ..

التفت رعمسيس نحو من التفوا حوله و على فمه ابتسامة عريضة  ثم فاه بالنطق السامي  التالي :

–       – أرأيتم كبف صحا ؟ أريأتم كيف يعامل المشبوهون  ؟ تلك هي الدمقراطية التي يمارسها المتحضرون .و التي يجب أن نمارسها بدورنا !!!.

–       – دمقراطية .. غوغائية .. إنتفاضة لصوص .. مراكز قوى .. رؤساء تحرير .رجال دين… أقزام … أقزام  … أقزام .. كلهم أقزام …

التفت رعمسيس نحو من التفوا حوله و قد قطب جبينه و لوى فمه قائلا :

–        -عاد عتريس إلى الهلوسة و الإستفزاز ، و لكن بمزيد من الصبر  سيعود إلى رشده  ، راقبوني جيدا ؛ ثم إلتفت نحو عتريس  ملاطفاً :

–       – إهدأ يا إبني إهدأ .. ركز معي يا إبني ركز  .. لقد عصبوا أعينكم ، فما الذي جرى بعد ذلك ؟

–       – مررنا بإحدى مدنهم  ، عرفناها من لغتهم  حيث يكثر فيها  حرفا الشين و الهاء .

–        – مثل ماذا يا إبني ؟

–       – هاغانا .. ها بلماخ .. ها أرغون  ..ها شتيرن .. شالوم عليخيم .. غوش أمونيم .. ها مشمار .ها جولان. هافيرات .. ها نيل ….

يلتفت رعمسيس نحو رجاله  غاضبا :

–       – أرأيتم كبف  يتصنع البلاهة  ؟

أغبياء .. كلكم أغبياء .. كلكم أقزام …

أحضروا لعتريس  شراب الزبيب كي تنشط  دماغه .

ثم التفت نحو عتريس مهدئا :

–       – إهدأ يا إبني إهدأ .. ركز معي يا إبني ركِّز .. مررتم بإحدى مدنهم  ثم ماذا ؟

–        – خرج أهلها ، جمعوهم قبل وصولنا ، رمونا بالقاذورات و الثمار التالفة و الزجاجات الفارغة ، و البيض ، و تسلق شبانهم الشاحنات التي تعمدت الإبطاء ، كانوا يحملون هراوات حطموا بها ضلوعنا ، صدقوني لقد أدخلت رأسي في أست جاري ..

ضحك رعمسيس ملء شدقيه ، ثم ضجت القاعة بالضحك من بعد عظمته …

تعرق جبينه من شدة  الضحك ، فتقدم منه أحد ضباطه فمسح جبينه بمنديل ، ثم تقدم ضابط آخر فاشعل له غليونه ، و بعد أن سحب منه رشفة عميقة ، فاه  بنطق سامٍ جديد :

–       –  يا لهم من متوحشين ، و لكن أقول الحق ، لم يستخدموا الأفران ، الحق … حق … الحق أقول و لو على نفسي  ..

–        فأجابه عتريس فوراً :

–       – البلدوزر كان أسهل لهم من أفران الغاز …

كانوا يربطون جرحانا إلى أوتاد مثبتة في الأرض …

ثم يمر البلدوزر فوقهم ، ثم يجرفهم إلى حفر أعدها من قبل ..

ثم يردم التراب فوقهم …

رجل واحد و آلة واحدة …

طريقة إقتصادية ، وَفَّرت عليهم  الجهد البشري ، و فرت  عليهم الغاز  ، و الذخائر  ، و  الطعام  ،  و وفرت  تكاليف العلاج  و الدواء  …

–       –  رأيتوهم بأعينكم ؟

–       –  كنا نسمع صراخهم و استغاثاتهم ..

بعض رفاقنا  تزحزت عصائبهم عن عيونهم فلمحوا طرفا  من  المجزرة  ..

–       – هذه مبالغة و تهويل و تضخيم للأحداث ، تهدف إلى تدعيم الحاجز النفسي الذي نسعى لإزالته ..

قالها رعمسيس غاضبا ، فرد عتريس ساخراً :

–       – حاجز نفسي .. ..جسر جوي …. قفزة الغزال … فك الإشتباك .. ( الكيلومتر 101 ).. الأخ الحبيب هنري .. البطل العظيم نِكسي ..

–         يغضب رعمسيس من جديد فيكوّر قبضته و يهم باستخدامها ، إلا أن أحد مساعديه ، يذكره بتواجد مراسلي الصحافة المكتوبة و المسموعة و المرئية ، فيفرد أصابعه و يمد كفه إلى  كتف عتريس مربتا ،  بعد أن  تمكن بصعوبة من رسم ابتسامة مصطنعة ثم عاد يقول لعتريس :

–       – إهدأ يا إبني إهدأ .. ركز معي يا إبني ركِّز …

و لكن عتريس لم يهدأ

و بصوت حزين صدح بموال  وديع :

– الله يرضا عليك يا إبني

ضهري انقصف و الضرب كسَّرني

روح على ترعة ضيعتنا

و هات لي قطرة من مَيِّتها

ارتاح معها و تنعشني

يا إبني

يلتفت رعمسيس إلى حاشيته منفعلاً :

–        – عاد إلى الهلوسة .. هاتوا له مزيدا من عصير الزبيب و عطِّروه ..

يمسح له ضابط جبينه المتعرق من جديد ، و يقدم له ضابط آخر غليونه ، يرتشف منه رشفة   عميقة ، ثم يطلب من عتريس  أن يكمل :

–        –  إهدأ يا إبني إهدأ .. ركز معي يا إبني ركِّز .. أكمل  يا عتريس يا ابني ،  إلى أين ساقوكم ؟

–       – عتليت .. مسكين سنوحي قتلوه في عتليت  قرب السياج الشائك ، اقترب من السياج   لقضاء حاجة بيولوجية  فبعثروا جسده بصلية عوزي ..

–        – صديقك ؟

–        –  من ممفيس ، ألا يكفي هذا  ليمزقني ألما ؟

و انبثقت دموعه و هو يكمل :

– قتل  العشرات  بل  المئات  من  أبناء  ممفيس ،  من المفروض  أنهم  أسرى حرب !!!

– إهدأ يا إبني إهدأ .. ركز معي يا إبني ركِّز ، أنت تتخيل يا عتريس يا إبني ، أو على الأقل أنت تبالغ ، فهناك هيئة أمم ، و هناك  الصليب الأحمر الدولي  ، و هناك اتفاقيات دولية لحماية أسرى الحرب ..

– متواطئون  يا حضرة.. كلهم متواطئون ، حتى الصليب الأحمر متواطئ ، لم يحضر إلينا منهم  أحد إلا بعد أسبوعين ، بعدما  اختزلوا  عددنا  إلى النصف ..

– هذا غير معقول  ، على الإطلاق غير معقول …

– معقول …معقول… الخليل و حلحول …دعوني أقول .. أريد  قلما و كشكول  .. كهربا  ثم سلول ، ظفر يقتلعونه ثم سلول ..قالوا  أنا مخبول .، نعم أنا مخبول .. و لكن دعوني أقول ..

يلتفت رعمسيس إلى حاشيته بضيق :

–        عاد إلى الهلوسة  من جديد .. هاتوا له مزيدا من عصير الزبيب  و عطروه .، أثقلوا له العيار .. أريده هادئا .. هادئا  للغاية ….

يمسح له ضابط جبينه المتعرق من جديد ، و يقدم له ضابط آخر غليونه ، يرتشف منه رشفة عميقة ، ثم يطلب من عتريس  أن يكمل :

–       – إهدأ يا إبني إهدأ .. ركز معي يا إبني ركِّز  ، و أكمل .

–       – منعونا من الحركة .. تيبست مفاصلنا .. بللنا ملابسنا  .. ثم أعطونا الدلاء ، كانوا لا يفرغونها إلا إذا امتلأت و فاضت .. تقيأت كثيرا ثم اعتدت معايشتها .

–       – أجل يا إبني ، التعايش هو السلام و السلام يُبنى على التعايش .. أكمل .. أكمل ..

–       – في الليل كانوا يسلطون علينا كشافاتهم القوية ..

و يطلقون حولنا كلابهم الذئبية …

و يتركوننا في العراء لتلسعنا سياط البرد …

كنا نلتصق ببعضنا و ينفخ واحدنا في ظهر الآخر…

و في النهار كانوا يحضرون أطفالهم للفرجة علينا …

تماما كما نصحب أطفالنا إلى أقفاص القرود …

باص في أعقاب باص …

و مدرسة من بعد مدرسة …

خمسة عشر يوما و نحن على هذا الحال …

الطعام اليومي للفرد منا ربع رغيف أسود و نصف رأس فجل ..

و لم يغيروا معاملتهم إلا بعد حضور الصليب الأحمر …

أي بعد خمسة عشر يوما .

لقد أفقدونا آدميتنا ثم  يريدنا  زعيمنا  أن نصالحهم  ؟

هذه مهزلة  يا سيدي ؟

يجيب رعمسيس بلهجة متعالية :

–       – يبدو أنك من الأقزام يا عتريس .

يستعصي على فهمك معنى السلام !

يضحك عتريس ، ثم يزجل هاتفاً :

–       – يا سلام و يا سلام

تعال قرب يا سلام

تعال تفرج يا سلام

غولدا و رعمس يا سلام

تمثال الريس كسَّروه

و الإسم العالي هزؤوه

صندوق الدنيا يا سلام

و يا سلام و يا سلام

يصيح رعمسيس و قد فرغ صبره :

–       –  كفاية .. كفاية  .. أو تجرؤ على الأزجال في حضرتنا ؟

–        – و من حضرتكم – لا مؤاخذة – ؟

– أنا رعمسيس الثالث عشر ، من  الأسرة السابعة و العشرين …ملك الوادي .. بطل المبادرة ….بطل مخيم داود…و حامل وسام نوبل للسلام …

–       – سيادتك رعمسيس الثالث عشر ( بلحمك و دمك ) ؟

لِمَ لم تقل لي من الأول ؟

فلكم  اشتقت لرؤيتك و لمعاتبتك …

كيف سمحت لهم – سيادتك – بتدنيس ترعتي …

ألست من أبناء ممفيس ؟!

يا جلالة رعمسيس !!!

——————

*نزار بهاء الدين الزين

   سوري مغترب