قصة

نزار ب. الزين*

الزمان : العاشرة من صباح الرابع عشر من أيلول( سبتمبر) 1982

المكان : نقطة تفتيش إسرائلية  في شارع المزرعة في بيروت المحاصرة .

   محمود  و أفراد عائلته يتوجهون نحو  حي صبرا بسيارتهم الخاصة

 – هوياتكم .

 يقول الإسرائيلي بالعربية ( المكسرة ) ، ثم يضيف :

 – كيف سمحوا لكم بالمرور؟

  يجيبه محمود :

– مررنا خلال سبعة حواجز و كلهم سمحوا لنا بالمرور ..

 – من أين أتيتم ؟

– من الجبل …

 يتناول الجندي هاتفه اللاسلكي ، يرطن بالعبرية لفترة ، ثم يلتفت إليهم قائلا :

– أنتم رهن الإعتقال !

 يصرخ الأطفال ، تمد أمهم رأسها  محتجة  :

– و ماذا فعلنا ؟

يشهر رشيشه ( العوزي ) في وجهها و يأمرها :

– إخرسي و سدي أفواه أولادك  ، و إلا ثقبت رأسك و رأسهم ..

التفتت إلى زوجها لائمة و هي ترتعش هلعا :

– ألم أقل لك أن الأمور لن تهدأ قبل الإنسحاب الإسرائيليي ؟

– ما يدريني ؟ أجابها هامسا . ثم أضاف غاضبا بصوته الخافت:

–  المقاتلون انسحبوا بحراسة الأمم المتحدة ، و السوريون كذلك ، و قالوا أيضا أن اسرائيل تعد للإنسحاب بدورها ؛  و الأهم أن نقودنا استنزفت كلها في الجبل ، و أبو خولة صاحب البيت رفض أن  يمهلنا يوما واحدا …

فهل كان أمامنا غير  المجازفة؟؟؟!! ، ثم أضاف أيضا بصوت متهدج :

– سبعة حواجز اجتزناها بدون أي إشكال فما بال هذا  المتعجرف يخالفهم ؟!!

تبكي الزوجة و تهمس مرتعشة :

– ( الله  يجيب العواقب سليمة )

*****

سيارة مصفحة خفيفة تقلهم إلى عمارة محتلة في حي  الطريق الجديدة .

يحشرونهم في غرفة صغيرة …

الأطفال لم ينفكوا عن البكاء ، جاعوا .. عطشوا .. بالوا على على أنفسهم …

محمود و زوجته تكاد مثانتَيهما تنفجران …

رجوا الحارس مرارا أن يسمح لهم بالذهاب إلى دورة المياه و لكنه رفض بغلظة ..

*****

  الزمان : الحادية عشر من صباح الرابع عشر من أيلول( سبتمبر) 1982

المكان : نقطة تفتيش إسرائلية  في شارع المزرعة في بيروت المحاصرة .

– هوياتكم .

 يقول الإسرائيلي بالعربية ( المكسرة ) ، ثم يضيف :

 – كيف سمحوا لكم بالمرور؟

يجيبه  عنتر :

– مررنا من خلال عشرة حواجز و لم يمنعنا أحد .

– من أين أتيتم ؟  من دمشق ، و قبلها كنا في تشيكسلوفاكيا في رحلة استشفاء.

– هل أنتم من هنا ؟

– لا أبدا ، أنا أعمل موظفا في الكويت ، و تركنا أطفالنا عند خالهم في مخيم صبرا ، و جئنا الآن لنأخذهم بعد أن هدأت الأوضاع لنعود بهم من ثم إلى مقر عملنا .

يتناول الجندي هاتفه اللاسلكي ، يرطن بالعبرية لفترة ، ثم يلتفت إليهما قائلا :

– أنتم رهن الإعتقال !

– يا أخ ، يبدو أنك مخطئ ، نحن لم نكن هنا منذ آذار(مارس) ، و نحن لا نتدخل بالسياسة ، نحن جئنا  فقط  لاصطحاب  أطفالنا و العودة بهم إلى مقر عملنا في الكويت.

يشهر رشيشه ( العوزي ) في وجهه و يأمره :

– إخرس ( وَلا ) ، و إلا ثقبت لك رأسك  ..

يأمره و زوجته بالترجل ، ثم يأمر سائق التاكسي بالعودة من حيث أتى ..

*****

سيارة مصفحة خفيفة تقلهما إلى عمارة محتلة في حي  الطريق الجديدة .

يحشرونهما في غرفة صغيرة …

عنتر  و  زوجته تكاد مثانََتيهما تنفجران …

رجيا الحارس مرارا أن يسمح لهما بالذهاب إلى دورة المياه و لكنه رفض بغلظة ..

*****

يتوجه محمود إلى غرفة المحقق :

– أنا يا حضرة الضابط ، معلم في مدرسة المخيم الإبتدائية و لا شأن لي بالسياسة ..

– إجلس و لا تخشى شيئا ، نريد منك معلومات ، فقط معلومات ..

– أية معلومات ، أنا و عائلتي ، غادرنا المخيم منذ بدء  الحوادث ، فأية معلومات تريدها مني ؟

 أجابه آمرا :

– أنا من يطرح الأسئلة و أنت فقط تجيب ، ثم وقف بعد أن أشعل سيغارته و بدأ يطرح أسئلته :

– كم معلم في مدرسة المخيم  الإبتدائية و كم موظف ؟

– ماهي أسماؤهم  ؟

– أين يسكنون ؟

  يهمس محمود في سره ” و ما شأنه بالمعلمين و مساكنهم ؟ “

– من تعرف من المثقفين ؟ أعني أطباء ، مهندسين ، محامين ، كتاب ، صحافيين ..

و يتساءل محمود في سره ” و ما شأنه بالمثقفين ؟ “

يرجعونه إلى حيث أسرته ، لقد منّوا عليهم أخيرا فأحضروا لهم دلواً !

و في فجر اليوم التالي سمحوا للأسرة بالذهاب إلى المخيم مشيا على الأقدام ، بعد أن صادروا السيارة و الأمتعة.

*****

يتوجه عنتر إلى غرفة المحقق :

– أنا يا حضرة الضابط موظف بالكويت …

يجيبه المحقق بغلظة :

– أعرف ذلك ، و لا  شأن لك بالسياسة ، أعرف ذلك  ، و لست و أمثالك من يغذي المخربين بالمال و تقدمون لهم 5% من رواتبكم ، أعرف ذلك ،  و أعرف أنك مخرب مثلهم ..

– أبدا و الله .. أنا لا أتدخل بالسياسة و لا شأن لي بالمنظمات ، و التبرع إن هو إلا ضريبة لمنظمة التحرير  ..و هي بمثابت حكومتنا نحن الفلسطينيون …

يجيبه بغلظة :

– تقصد منظمة المخربين ؟؟!! على أي حال نحن لا نريد منك سوى معلومات ، و يبدأ من ثم أسئلته :

– من هو خال الأولاد ؟؟

– ما هي مهنته ؟

– كم عدد أولادك ، أعمارهم ، عدد أولاده ، أعمارهم  ؟

– من هم أقاربك في المخيم غير خال الأولاد ؟

– أين يسكنون

– من هم المثقفون منهم ؟

– ماهي وظائفهم ؟

و في الساعة السادسة من صباح اليوم التالي سمحوا  لعنتر و زوجته بالذهاب إلى المخيم على الأقدام ، بعد أن صادروا أمتعته .

*****

دبابات الميركافا و العربات المصفحة تملأ الشوارع ، و  تسد جميع المنافذ …

يصلون إلى مخيم صبرا …

يسمح الجنود الإسرائليون لمحمود و زوجته و أطفاله بالدخول إليه ،  ثم لعنتر و زوجته  ثم لآخرين ، و لكنهم يمنعون أيا كان من مغادرته …

تتساءل جمانه زوجة محمود و قد حملت على ذراعها أصغر أطفالها ذو الثلاث سنوات :

– كيف يشيعون أنهم  يعدون العدة للإنسحاب ؟ هل هذا منظر من يريد الإنسحاب ؟

يجيبها و هو يلهث و قد حمل فوق ذراعه ابنه الأوسط  ذو السادسة من عمره ، و جر بيده ابنته ذات العشر سنوات  :

– لقد اختلطت الأوراق يا جمانه  و لم أعد أفهم شيئا ، إنسحاب الدوليين بسرعة أثار و  يثير في رأسي عشرات الأسئلة ، ترى هل قررت إسرائيل  احتلال لبنان كله  و بتواطئ دولي  و صمت عربي ؟

أجابته خائفة :

– ( ربنا يجب العواقب سليمة )

*****

يصل عنتر و زوجته إلى دار أخيها ، تقرع الباب ، يصيح أكبر أبنائهما ، بابا و ماما حضرا ، يتبادلون العناق و القبل  و تغتسل وجوههم بالدموع ، يلتصق بهما أطفالهما الأربعة و أطفال أخيها الخمسة

– لقد صادروا كل ما نحمل بما في ذلك الهدايا ، قالت سمية فيجيبها أخوها :

 – عودتكم سالمين أغلى هدية .

*****

     في بناية إحدى السفارات الخليجية حولوها  إلى مقر قيادة ( سلام الجليل ) ، أمر شارون بتنظيف المخيمات من بقايا المخربين ، ثم صعد إلى سطح السفارة ليتابع بداية التنظيف.  و كان قد قال  لأعضاء مجلسه الحربي من ضمن ما قال : ” كدنا  نصل إلى القاهرة و منعونا  من دخولها ، و كدنا نبلغ دمشق ، و منعونا  من دخولها ؛ و لكنهم أعطونا الضوء الأخضر لبلوغ بيروت  و ها نحن في قلبها ، و هذه هي فرصتنا الذهبية لتنظيف بيروت و المخيمات  من بقايا المخربين ، و أقول لكم لا ترحموا أحدا و خاصة لا ترحموا المثقفين ، فهم  محركات  الشر ، لقد قتل المخربون  الرئيس اللبناني المنتخب أمس و كان حليفنا و من أكثر المتفهمين لظروف إسرائيل و اضطرارها إلى غزو لبنان ، و يجب أن نثبت لأتباعه المكلومين أننا معهم و أننا سنساعدهم في انتقامهم الكبير ” .

*****

   الزمان الساعة الواحدة من ظهر الخامس عشر من أيلول

   المكان مخيم صبرا

    جنود أسرائيليون بملابس الميدان  التي  نزعوا عنها أية إشارة تدل على أنهم إسرائيليون ، .يتسللون بمجموعات صغيرة إلى داخل المخيم .

 قرع أحدهم  باب محمود السلفيتي

– أنت محمود السلفيتي ؟ أنت معلم في مدرسة المخيم الإبتدائية ؟

– نعم أنا ماذا تريدون مني ؟

يجيبه أحدهم بطلقة يوجهها نحو صدغة

يصرخ أطفاله مذعورين ، تولول أمهم مستغيثة  ، تشاهد نساءً و أطفالاً يَجرون نحو أحد المخارج ، تمسح دموعها ثم تجر أطفالها  راكضة وراءهم ..

   جنود آخرون بدؤوا يقرعون الأبواب …

  ينادون على صاحب الدار باسمه ….

  يتقدم صاحب الدار مستفسرا …

  يجيبونه بطلقة في راسه ..

   يصرخ الأطفال ، تولول الأمهات ، يقفون أمام جثث ذويهم عاجزين ، تجر الأمهات أطفالهن ثم  يتوجهون جميعا نحو مخارج المخيم …

و خلال ساعتين تم تنظيف  المخيم من حوالي مائة من مثقفيه ، ثم انسحبوا .

*****

الزمان الساعةالثامنة من مساء الخامس عشر من أيلول

المكان مخيم صبرا قرب سوق الخضار

تحرك عنتر عوض الله و زوجته و أطفاله و خالهم و أفراد أسرته مستثمرين فترة الهدوء و هبوط الظلام ، تحركوا باتجاه المستشفى ، فقد تراءى لهم  أنه أكثر الأماكن أمنا ، و قبيل بلوغهم هدفهم أضاءت السماء بشعلات الإستكشاف ، ثم بدأت تتساقط فوقهم و من حولهم القذائف ، و ما لبثوا أن تكدسوا  فوق بعضهم بعضا بين قتيل  و جريح .

 و قد انصهر في بوتقة الكمنسانيا الجديدة  حوالي  ألف  مدني أعزل  معظمهم  نساء و أطفال و شيوخ ، بين قتيل  و جريح ! .

*****

هذا و قد سمحت الأنظمة العربية بتعليق الرايات السوداء فوق شرفات البيوت تعبيرا عن حزن الجماهير

و هي كذلك لم تعارض إشعال الشموع قرب النوافذ ،  ليلاً !

———————————–
*نزار بهاء الدين الزين
سوري مغترب